موقع الأديب خضر محجز
إزالة الصورة من الطباعة

عمر القزك عن رواية عين اسفينه


عمر القزك 



تجربة الإبعاد في رواية (عين اسفينه)*



 

استهلال:


روايات خضر محجز:

 

تناولت روايات خضر محجز صورة الوضع التنظيمي لحركة حماس، في الوطن المحتل وداخل السجون. وقد عبرت تلك الروايات عن وجهة نظر بطلها، الذي كان يوماً أحد قادتها، ثم انفصل عنها، ليفصح من خلال عن كثب عن حقيقة الوضع التنظيمي للحركة، وما يشوبها من تناقضات بين قادتها، وكيفية تعاملها مع أعضائها ومع عناصر التنظيمات الأخرى؛ هذا ناهيك عن مواقفها السياسية، ومنطلقاتها الفكرية، وعدائها الأيديولوجي مع الكيان الصهيوني.


ولما كانت الرواية الثالثة لمحجز(1) تنفرد بتجريه خاصة، على الصعيدين الوطني والأدبي، متمثلة بالإبعاد؛ فإن الدراسة ستقصر تناول موضوعات هذا الأديب على هذه الرواية.


تجربة الإبعاد في رواية خضر محجز "عين اسفينه"(2):


موضوع الإبعاد هو من الموضوعات، كثيرة التناول قليلة التفصيل، في الروايات الفلسطينية: فقد أورد أسعد الأسعد في نهاية روايته "عرى الذاكرة" إبعاد سلطات الاحتلال للمناضل (زيد): "لا يريد أن يصدق ما يرى، إنهم يبعدونه. لم يتمالك نفسه، راح يجهش بالبكاء، فيما صوت الهليوكبتر يبتعد شيئاً فشيئاً"(ص181). كما أورد علي الخليلي في روايته "المفاتيح تدور في الأقفال" تهديد المخابرات الإسرائيلية لـ(محمد حمدان بعجر) بإبعاده: "نبعدك إلى الأردن، أو إلى لبنان، أو إلى قبرص، أو أي بلد تشاء. وبذلك تنال حريتك، ويسقط عنك كابوس الاعتقال"(ص81). أما أن يقتصر موضوع رواية كاملة ــ عدد صفحاتها 240 صفحة من الحجم الكبير ــ على الإبعاد، فإن هذا الأمر جد جديد.


بين يدي الرواية:


تناولت الرواية موضوع إبعاد أربعمائة وخمسة عشر فلسطينياً ــ من الضفة الغبية وقطاع غزة، من قادة التنظيمات الإسلامية، في 17 كانون أول 1992 ــ إلى منطقة مرج الزهور، جنوب لبنان. وعين اسفينه عنوان الرواية، هو اسم لنبع ماء في تلك المنطقة.


وقد أورد السارد ــ الذي يشكل ظلاً لبطل الرواية (صابر) ــ تفاصيل رحلة الإبعاد: من لحظة وجود المبعدين في الباصات، وخوض معركة الحصول على قضاء الحاجة، التبول، في انتظار مناقشة المحكمة لطعن في قرار الإبعاد؛ إلى كيفية إدارة الكائن الجديد، المسمى مجلس الحكماء، الممثل عن الدولة الإسلامية المنشأة في منطقة الإبعاد، لدفة الصراع مع الحكومة الإسرائيلية، عبر الضغط الدولي والإعلامي، وأسلوب معالجتها لقرار العودة المجزأة، الناتج عن التدخل الأمريكي. كيفية إدارة النزاع الداخلي بجبهاته الثلاث: المعارضة ورأس حربتها صابر، ثم التنافس بأشكاله المتعددة للحصول على موقع قدم في الدولة الحالية والمستقبلية، وأخيراً تنظيم الحركة الإسلامية في الخارج، وصولاً في نهاية المطاف إلى العودة للوطن.


فكيف صور خضر محجز المشايخ المبعدين، ودولتهم، في هذه الرواية؟


ستقوم الدراسة بتناول موضوع الرواية وفق العناوين الجزئية التالية:


صابر والخوف:


لا تبدأ الرواية بصابر ومواقفه، وإن كانت لا تفارقه، فإما أن تكون كاميرا أحداث الرواية بين يديه، يوجه عدستها حيث الزاوية التي يريد؛ وإما أن تكون مسلطة عليه. ومن هنا كان لا بد من الوقوف على منابع شخصيته، لمرافقة تلك العدسة، وفهم الصور والمشاهد والمواقف التي التُقطت من حياته.


انطلقت طفولة صابر من حياة البؤس، وسط قسوة المجتمع، في مخيم جباليا، لذا كان عليه أن يكتشف مبكراً: "مخيّرٌ بين أمرين: إما أن يُضرب ولا يَجد أحداً يدافع عنه، وإما أن يَضرب وينتصر ويصبح غير ذي حاجة لأن يشكو إلى أحد أحداً"(ص44). أما الأولى، فلأن "أبوه غائب لا يعود إلا ليلاً، ولا أم له، ولا أخوة أكبر، يدفعون عنه العدوان"(ص44). وأما الثانية فلأن فطرته دفعته إلى اعتبار عدم الرد على العدوان خنوعاً. ومن جهة أخرى فإن الشكوى ترتبط بميزان القوى: وحيث أنه بلا عزوة، فإن شكواه بلا جدوى (انظر: ص44).


في ظل ذلك كله، كان على صابر أن يتعلم الانتصار، حتى لو خرج مهزوماً من معركة، فقد تعلم "أن يبتلع هزيمته مع دموعه في صمت.. وما لا تدركه اليوم قد تدركه غداً.. والمهم هو الصبر والانتظار"(ص45). وهذا ما حدث مع الدفش، ابن حارته وصفه، الذي طالما فرض على صابر العراك وانتصر عليه، بسبب تفوق بنيته التي اكتسبها من تكرار رسوبه في صفه.


يرى صابر أن الخوف هو اهم غريزة، تنتج عن غريزة حب البقاء، الكامنة في المخلوقات؛ وبذلك فالخوف لا يُمدح المرء به أو يُذمّ، وإنما طريقة تعامله مع الخوف هي التي تحدد ذلك؛ "فإذا كانت الشجاعة هي السيطرة على الخوف. فإن الجبن هو الوقوع تَحت سيطرته"(ص44). من هذا المنطلق استطاع صابر التغلب على الدفش؛ ومن هذه الزاوية نعبر إلى تحديات ومواقف صابر في الرواية، مع جنود الاحتلال في حافلات الإبعاد، ومع مجلس الحكماء في دولتهم الناشئة.


خوف اللِّحىٰ وانكسار النُّجوم العسكرية في معركة التبول:


من خلال انشغال المبعدين في الحافلات على الحدود اللبنانية، في انتظار إقرار المحكمة لقرار الإبعاد، ومن خلال تراخي زحف الزمن، تثقل الحاجةُ للتبول، حاجة تبدو ممارستها بسيطة، هناك في الحياة العادية، ولكنها هنا في الحافلة، مسألة أخرى معقدة ومركبة: فهي تكشف عن العظمة والانكسار، في ذات الوقت معاً: فمن خلال الحاجة الملحة للتبول، يرسم السارد صوراً للتناقض، وعلى مستويين: عند ذوي اللحى المبعدين، وذوي النجوم العسكرية ضباط الاحتلال وجنوده.


يرسم السارد صورة خلفية للطرفين: المبعدين وهم في بيوتهم "في الحقيقة رجال، بدليل أنهم كانوا قبل ساعات قليلة في أحضان نسائهم... وربما كان بعضهم لا يزال، حتى اللحظة، محتفظاً بلزوجةِ ليلةٍ ماضية بين فخذيه"(ص17). والجنود وهم مسيطرون على المبعدين في الحافلات، يبدون "واثقين من أنفسهم، يَحرسونهم، وربما يبتسمون أحياناً عندما يتحسسون البنادق الباردة، التي لم تَخذلْهم في السابق، لأنهم واثقون من قدرتها على الاشتعال، عند أي ضغطةٍ من إصبع يتأففون بملل، ثم يصرّون أسنانهم، في حقدِ من مُنع من قتلِ قاتل أبيه!"(ص17).


تتفاقم حاجة المبعدين للتبول وتتعاظم، مع انتفاخ أيديهم من تلك القيود البلاستيكية التي تشدها إلى الخلف، ومع احتقان الدم في وجوههم المعصوبة والمطأطئة إلى الأمام، وتتعرق "اللحى، التي كانت في السابق تتهامس، وتسبل العيون، وتتجشّأ حامدةً اللهَ على نعمة اللحم والماء؛ هذه اللحى ذاتها الآن خائرة، كما لم تكن من قبل؛ صامتة، كأنها لم تعرف بعضها بعضاً، ساعةً من نهار أو ليل"(ص20). ثم يخرق جدار الصمت، بعد طول أمد، صوتُ أحد أصحاب اللحى مستجدياً: "دخيل الله، بدي أروح على الشيروتيم يا خواجا"(ص52). وهنا تكمن المفارقة. وهنا يحول السارد المسألة إلى ازدراء؛ فأصحاب اللحى الذين هم "في الصفوف الأمامية. وجودهم في هذه الحافلة يقول ذلك، على الأقل في نظر اليهود، إن لم يكن في الحقيقة. فلماذا لا يَختارون لأنفسهم الصبر قليلاً، أو التحدي مع توطين النفس على تَحمّل الضربات، بدلاً من هذا الاستجداء الذليل؟"(ص50). الأمر الذي زاد من صلف الجنود، كرد فعل للاستجداء: "شيكت، لحسن باطخك"(ص51).


وهنا تنتقل عدسة السارد من خوف اللحى وجبنها، إلى خوف صابر وشجاعته. وهنا يتحول الخوف، من غريزة لا مفاضلة فيها بالمدح أو الذم، إلى سلوك باتجاه قطب السالب، في النكوص والتواري، أو باتجاه الإيجاب في الإرادة والتحدي. هنا تتجلى اللهجة الآمرة لصابر، وقد احضرت المجندات الطعام، باتجاه اللحى الذليلة: "ما حدش ياخذ الأكل.. إضراب، إضراب عن الطعام، حتى يُسمح لنا بالنزول لقضاء حاجتنا الطبيعية"(ص54). ثم باتجاه الضابط وجنوده: " إذا لم تنزلونا، فسنبول لكم في الباص. لا تتوقع منا أقل من ذلك"(ص55).


وهنا تحدث المفارقة مرة أخرى، فصابر إذ بدأ يتحمل عبء المخاطرة، فقد بث الشجاعة فيمن حوله، وعلا التكبير، فأُجبر الضابط على التراجع والخنوع أمام الشجاعة: "حَيَالْ، تُوريد اُوتامْ أحادَ أحاد.. تفتاح لهم إت همخنسايم فتعزور لهم لأَشْتِـيْن"(ص57) "أيها الجندي، أنزلهم واحداً واحداً.. افتح لهم السراويل، وساعدهم في إجراء عملية التبول"(هامش ص57). وهنا ترتسم صورة أخرى مخالفة للصورة الأولى: فقد "صار جنود الدولة المنتصرة، التي هزمت أربع عشرة دولة عربية، يركعون على ركبهم، ويفك الواحد منهم فتحة البنطلون، المخصصة لعضو الرجل ــ الذي كان مطأطئاً رأسه قبل قليل ــ ويستخرجه بيده ليبول"(ص58). وما كان لكل هذا أن يحدث، لولا صرخة صابر المتمردة على الخوف.


ميزان المحكمة وتخاذل القضاة:


في محكمة الاعتراض، الذي قدمته الأحزاب الدينية من عرب الداخل، على قرار الحكومة المتعلق بالإبعاد، ينتصب الميزان بكل اعتدال، ويجلس أمامه مجموعة من القضاة، يبدو أنهم أداروا ظهورهم فعلاً، لكفتي ذلك الميزان، وقد قرروا سلفاً أي الكفتين سيرجحون.


في هذه المحكمة التي يفترض فيها تحقيق العدالة، تُرتسم صور الظلم والتخاذل: فطلب الاعتراض ما كان له أن يُقبل، لولا أنه قُدم باسم جمعية حقوق المواطن؛ وكبير القضاة الذي حاول جاهداً أن يبدو حيادياً امام عدسات الصحافة، فإن نظراته قد تكفلت بفضح عنصريته، ورضوخه لأجهزة الأمن: فنظرته الساخرة التي واجه بها ممثل الادعاء، قابلها بابتسامة دافئة لممثل الدفاع عن الحكومة؛ وردود فعله تجاه المستوطنين اليهود، الذين ملأوا القاعة هتافاً وضجيجاً ضد العرب، وضد ممثل الادعاء اليهودي، حيث اكتفى هذا القاضي بالطرق على طاولته، في حين أنه اجتاحه الغضب، وصرخ في اثنين من العرب، لمجرد تخيله بأنهما يتهامسان، طارداً إياهما خارج قاعة المحكمة. وهكذا، فقد ساد التخاذل والعنصرية، وانتصر الظلم، وأُقر الإبعاد.


تشكيل مجلس الحكماء:


هناك في المنطقة الحرام، بين الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وجد بضع مئات من قادة الحركات الإسلامية أنفسهم مبعدين، في تلك المنطقة صعبة التضاريس، حيث الجبال العالية وكثيرة الانحدار وشديدة البرودة، في طقس شتوي ما زال في بدايته، في ذلك المكان حيث لا سوى راعٍ وأغنامه، وصوت مياه بعض الينابيع، ومنها عين اسفينه، ثم بعض القرى اللبنانية في الجهة المقابلة، حيث اعتادت أن تطلق المقاومة منها صواريخ الكاثيوشا باتجاه الجنوب، وأن تتلقى قذائف الجيش الإسرائيلي من مدفعياته وطائراته. في هذا المكان، سيبدأ  تشكيل نواة الدولة الإسلامية للمبعدين.


زعماؤكم في الجاهلية زعماؤكم في الإسلام، فما بالك إذا كان الزعماء هذه المرة، هم قادة الحركة الإسلامية الفعليون، في الضفة الغربية وقطاع غزة!. فسيكون بالتالي هم الأَولى  أن يكونوا زعماء تلك الدولة في مرج الزهور. من هذا المنطلق يبدأ تشكيل مجلس الحكماء، حيث لا انتخابات ولا معايير ولا شورى، ولا حتى ديموقراطية: رجال الأمس هم رجال اليوم، وتكتلات الضفة وغزة هي تكتلات دولة الإبعاد.


ولما كان شيخ الدهر هو امير جماعة المسلمين ما قبل الإبعاد، فقد عمد، بالتعاون مع الكاهن والداعي والناطق والزير سالم، وهم رأس الحكمة "البديل المعلن للكرامة، والمرادف اللغوي للطاعة، والهاجس الملحاح، وراء دفع بعض المُهَمّشين، من الصفوف الخلفية، إلى الأمام: حيث يكفي الصمت والموافقة على المطروح، لضمان التقدم، على طول الطريق"(ص70)؛ عمدوا إلى تشكيل لجنة مكونة من ثمانية عشر عضواً، أُطلق عليهم اسم مجلس الحكماء، بحيث تكون مهمتها المعلنة "الاجتماع والتشاور وإصدار القرارات المناسبة"(ص74)، في حين أن حقيقة مهمتها، هي رفع الأيدي موافقة على حل يطرحه شيخ الدهر، ومجلس حكمائه المصغر. ولسوء الحظ كان من الأعضاء صابر، رأس المعارضة الذي كان أول ما تفوه به داخل المجلس، سؤاله: "على أي أساس تم اختيار الحاضرين للقيادة؟"(ص74)، فيكون جواب شيخ الدهر، في عرضٍ لمهزلة أول تطبيق للشورى، هو "يا جماعة، هذا المجلس هو مجلس قيادة المخيم. بتتصوروا في حدا غايب ممكن ينفعنا حضوره؟"(ص75) في إقرار لتثبيت دعائمهم، وأن الشورى لا تنطبق على اختيارهم، ليكون بالتالي جواب ذوي الحكمة والطاعة: "على بركة الله، على بركة الله"(ص75).


مواقف وقرارات:


يورد السارد مجموعة من القرارات التي تعرض لها المبعدون، والقرارات التي اُتخذت إزاءها، بحيث تشف عن طبيعة حياتهم في الإبعاد، وآليات اتخاذ القرارات، ومدى قدرة تلك الدولة على إدارة الصراع، وعلى أن تكون تأسيساً لدولة فعلية على أرض الوطن.


وإذا كان اول قرار اتخذه المجلس: "إحنا مش ماشيين من هان إلا قبلة. ما فيش روحة شاما أبداً"(ص75) يدلل على إصرارهم على العودة، حيث لا أحد من المبعدين كان يفكر بغير ذلك؛ فإن القرار الثاني والأهم، الذي تعلق "بمنع أكثر من مئة مبعد من العودة، بعد أن صدر قرار الحكومة الإسرائيلية بالموافقة على عودتهم فوراً"(ص78) حيث أن تلك الحكومة قد قررت تجزئة عودة المبعدين(3)، فإن هذا القرار قد كشف عن الكثير من المواقف؛ فاتخاذ القرارات عادة ما يكون فردياً، ويصدر عن شيخ الدهر: "سوف نرفض هذه العودة المجزأة، فيجب أن نعود جميعاً. هكذا قال شيخ الدهر بألفاظ قاطعة حاسمة"(ص78)، ثم يلجأ دائماً إلى كل من الناطق والكاهن، لإيجاد حيلة ما لتمرير الأمر على البقية، مع الأخذ بعين الاعتبار جعل صابر، المعارض والمطالب بالقرار الجماعي بعد التشاور، أقلية، إذا وصل الأمر إلى التصويت. وعليه فلا بد لهم من التفرد بأعضاء مجلس الحكماء، المطيعين دائماً، قبل الوصول إلى مبتغى صابر. وهكذا يبدو الأمر في العلن أنه شورى، وهو في حقيقة أمره محض دكتاتورية.


ثم إن مسألة اتخاذ القرارات تظهر مدى حرص جماعة المسلمين على الرئاسة: فعلى الرغم من ذمهم لطالب الإمارة، انطلاقاً من قوله عليه السلام: "إنّا لا نولي هذا الأمر من يطلبه"(ص87)، فإن "المشايخ الأتقياء ـ مع كل ذلك ـ يصطرعون على الزعامة بِخفاء شديد، كما لا يصطرعون على أي شيء آخر"(ص87). وإذا ما جوبه أحدهم بذلك، فإنه ينتقي من الدين كله، تبريراً لنفسه، طلب نبي الله يوسف الإمارة من ملك مصر: "اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم"(ص87). وأفضل وسيلة للوصول إليها تكمن في ببغاوية العقول المقفلة، خاصة أن "الكل هنا يدرك أن الدهر سوف يتغير، والنجوم سوف تتكور، قبل أن يتغير رجال مثل شيخ الدهر أو الكاهن، لأنهم يعرفون كيف يَحتفظون بأماكنهم، وكيف يفرضون قراراتهم"(ص88). لذا فعلى كل من يريد لنفسه موقعاً، في دولة الإبعاد أو الوطن، أن يبقى لصيقاً بهم، وبيدٍ مرفوعة دائماً، إيحاءً بالموافقة على كل ما يصدر عنهم. لذا، فإن المقربين من جماعة شيخ الدهر ، ما هم إلا مجموعة من الكراسي الموسيقية ــ كما شبههم صابر (انظر: ص125) ــ دائمة التطلع لإشارة المايسترو، لتبدأ بالعزف. لذلك فقد رددوا مجتمعين قسم رفض العودة المجزأة، بناء على إشارة شيخ الدهر: "نعاهد الله والرسول وجماعة المسلمين، ونقسم بالله وملائكته وكتبه ورسله، أننا لن نعود إلى فلسطين إلا سوياَ، كلنا جميعاً"(ص101). وعندما وافق المايسترو على قرار عودة المجموعتين الأولى والثانية، بعد ستة أشهر، تناسوا قسمهم وبدأوا بعزف لحن جديد، ارتضاه لهم شيخ الدهر.


شخصيات ومواقف:


حفلت الرواية بمجموعة كبيرة من الشخصيات. وإذا كانت الدراسة لا تسعى، في هذا الفصل، إلى الوقوف على حيثيات الوصف الداخلي والخارجي لها، فإنها ستكتفي بذكر بعض مواقفها، التي وظفها السارد، تشكل دوالَّ موضوعيةً، تتوافق مع قرار القيادي صابر، الخروج من جماعة المسلمين تلك(انظر: ص102) و"أن يعارض قيام الدولة الإسلامية"(ص104)؛ فقد غلب عليها الانتهازية، وسرقة الأموال العامة، ونصب الشراك للآخرين، والتنافس غير الشريف للوصول إلى المواقع المتقدمة في الحركة والدولة الناشئة: فشيخ الدهر رغم أنه خبير في الانتهازية، فقد "كان متعوداً على هذه الحركات القرعاء، منذ زمن طويل"(ص75)، إلا أنه كان يسمح بها: فالزير سالم كان يمشي وراءه "كما لو كان مسحوباً من حبل"(ص75). ثم إنه كان يحب تلك النظرة التي ترى أن "شيخ الدهر إمام يَحكم الأرض باعتباره ظلاً لله"(ص102). لذا فقد كان يجلس في الاجتماعات "متربعاً في واجهة الخيمة، فوق عرش من طبقات متعددة من فرشات الإسفنج"(ص89). أما بقية المجتمعين فقد كانوا "حول جوانب الخيمة الثلاثة، تَحت"(ص90) في مشهد "يشبه أن يكون مشهد الإلٰه، في سفر التكوين"(ص90).


أما الشخصيات الأخرى، فإن السارد لا يفتر عن ملاحقة انتهازيتها وسرقاتها في كل مواقع، كسرقات قادة التنظيم قبل الإبعاد، وسرقة أحد القادة لمبلغ أربعمئة وخمسة عشر ألف دولار، تبرع بها بعض المحسنين النفطيين لأهالي المبعدين(انظر: هامش1. ص159) وكذلك المر مع أموال الجمعيات، التي تم إنشاؤها قبيل العودة، مع ممولين خارجيين، وسرقة أموالها بعد العودة. وتظهر الرواية التناقض في شخصيات قادة الجماعة: فالشيخ تبارك "لا يُحب الشهادات ولا يُحب الرياسة ولا يُحب الغيبة ولا يُحب السارقين ولا يُحب تُجار المخدرات. ولكنه يفعل كل ذلك، دون أن يدري!"(ص110).


ويتجلى التناقض في موضوع صحفية الـ(CNN) الأمريكية: فالشيخ عزيز رغم إيمانه بغض البصر، إلا أنه يكاد يأكلها بعيونه وهو يحادثها "العين في العين مباشرة، وأمام الجميع!"(ص106). والشيخ تبارك الذي احتج لشيخ الدهر على تصرف الشيخ عزيز، فإنه عندما "رأى البطون الضامرة، والصدور الصغيرة المنبثقة مثل القطط، لهث وانبهرت أنفاسه!"(ص111). وللتغلب على التناقض الداخلي في نفسه، بين غض البصر والنظر "أقنع نفسه بأنه في مهمة مقدسة"(ص111). فلا بد من استمرار المراقبة. وقد تمنى ان يكون في الخارج الآن، ويجيب عندما "يسأله الأولاد عنه: على بركة الله"(ص112)، في إشارة للموافقة على قتله. اما شيخ الدهر فقد اعتبر الأمر عادياً: "كل بلاد ولها عادتها. وهذول، أهل الضفة، تربية الملك حسين، ومنفتحين على الدنيا. علشان هيك دينهم أوسع من ديننا"(ص114). والشيخ ذياب المعروف بتشدده هدد الصحفيات "برشقهن بِحامض الكبريتيك، أو حلق رؤوسهن"(ص107). أما رأي الشيخ عزيز في الشيخ ذياب "بأن بعض المجاهدين ممن تعرضوا للضرب على رؤوسهم في سجون الاحتلال، قد صارت تصدر عنهم تصرفات غريبة في الآونة الأخيرة. لكنهم في النهاية ودعاء إذا ما أُحسن التعامل معهم"(ص107). لذلك فإن الشيخ ذياب، عندما صارت تلك الصحفية تلاطفه وتضاحكه، غير موقفه "حتى نسي الحجاب والتبرج وحامض الكبريتيك"(ص107).


وإذا كانت الدراسة قد وقفت على الموقف السابق ببعض التفصيل، فإنها لا تتسع لعشرات المواقف الأخرى، التي تظهر الصفات الحقيقية لتلك الجماعة ــ حسب الرواية ــ نحو تعلقهم الكبير بالطعام والنساء: "يُحبون الدنيا مثل كل البشر، ولكنهم يَختلفون عنهم برفضهم الاعتراف بهذا الحب، رغم ما اشتهر عنهم من خبرة في انتقاء أطايب الحياة!. وإن أحب الأشياء إلى المشايخ ثلاثة: اللحم الدسم، والمرأة البيضاء المكتنزة، والحلويات!"(ص146 ــ 147)، في إشارة لتردد الشيخ ذياب على امرأة لبنانية، سراً، في إحدى القرى اللبنانية القريبة، الأمر الذي دفع الكثير من أهل القرى اللبنانية إلى ترحيل بناتهم، وقت الإبعاد، إلى المدن "خوفاً عليهن من هذا الوباء"(ص156). وعلى الرغم من ان الوباء خاص، في الأصل، بفصائل منظمة التحرير، إلا أن المشايخ جزء منه، بل إنهم في رأي الراعي (علي زينب) اللبناني "تبعين قال الله وقال الرسول. ليش مالك عارف إن هودو بيخوفوا أكثر؟"(ص156).


وتظهر الرواية بعض المسلكيات المخجلة، التي قام بها جزء من المبعدين، معتمدين على الشللية والمناطقية، في التصرف مع الآخرين، نحو "إشهارهم أمواس الحلاقة على العاملين في خيمة التموين، بعد أن رفضوا إعطاء الشيخ ذياب ما يريد. كما لم يكفهم اعتداؤهم على العجوز باب الله، الذي استشهد ولده في الانتفاضة، وتهديدهم إياه بِحلق لحيته بالحذاء!"(ص189). ثم إن المخجل أكثر في هذا الموقف، ذلك الحل الذي ارتضاه مجلس الحكماء، باعتبار المسألة سوء فهم، يتيح للشيخ ذياب التنصل من الاعتذار. وهكذا فقد "تم الانْحياز للقوي حتى لا يتمادى، وتم إغراء الضعيف بالصمت حتى لا يصيبه أكثر مما أصابه"(ص196). وهو الأمر ذاته الذي مارسته، وستمارسه، هذه الجماعة في غزة، مع كل من يخالف رأيها. ففي الاحتجاج الذي قاده صابر، على قرار الكاهن، بقطع التموين عن الذين تخلفوا عن المسيرة باتجاه الحدود "هتفت عدة أصوات ـ كان يبدو أنها الأغلبية ـ لاحظ صابر أن لا أحد من أهل غزة فيها، ربما لأنهم يَخافون عواقب ما بعد العودة"(ص204).


وترسم الرواية في نهايتها صورة لمبعوث التنظيم، الذي حضر لإقناع شيخ الدهر، بالموفقة على عودة المجموعتين الأولى والثانية، فهو "صورة لحكام هذه المنطقة، لكن بلحية"(ص221). ثم إنه عَكَس ــ بشدةِ حِرصِهِ على عودة المبعدين ــ مدى التنازع بين قيادتي الداخل والخارج، على تولي زمام التنظيم، فـ"إذا كان من بين هؤلاء الأربعمئة، آباء الحركة الروحيون، ومؤسسوها الأوائل، فماذا سيتبقى للقادة الجدد، فيما لو صار هؤلاء مبعدين إلى الأبد، وجاؤوا يطالبون بأمكنتهم الطبيعية في القيادة"(ص220).


ومثلما تتعدد المواقف وتتكرر، حول سلوك جماعة المسلمين في الإبعاد، فإن الرواية تعود إلى ماضي معظم شخصياتها، لتسقط هالة القدسية التي تحيط الجماعة نفسها بها، وتظهر ــ من خلال الاتهامات المتبادلة بالخروج عن الجماعة أو عن رأيها ــ أن أمراءهم، رغم ظاهر وحدتهم، ليسوا بأكثر من مجموعة من الديكتاتوريين، يستغلون الناس، ومن هو أدنى منهم، باسم الدين؛ ولا يتورعون عن غض الطرف عن تجاوزات بعضهم بعضاً، فيما يلحقون الضرر بغيرهم، سواء صدرت عنهم أم لم تصدر؛ ويتعامل كبيرهم بدونية مع صغيرهم، فيما يُبقي الخوفُ حيناً ــ والجهلُ والطمعُ أحياناً اخرى ــ الصغارَ لصيقين بالكبار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الإحالات:


*بحث استكمالي لنير درجة الماجستير من جامعة النجاح بعنوان(الشعراء الروائيون في فلسطين: 1948 ــ 2013) بإشراف أ. د. عادل الأسطة. الصفحات من 191 ــ 201

1ـ خضر محجز. عين اسفينه. طبعة خاصة. عطية للنشر والتوزيع. غزة. 2012

2ـ أبرز المقالات والدراسات التي تناولت الرواية:

أ: يسري الغول. قراءة في رواية خضر محجز "عين اسفينه". الحياة الجديدة (رام الله). 16/5/2005

ب: عبد الوهاب أبو هاشم. حول رواية "عين اسفينه" لخضر محجز. الحياة الجديدة (رام الله). 18/7/2005

ج: زكي العيلة. ازدواجية المواقف في رواية "عين اسفينه" لخضر محجز. موقع الكاتب: زكي العيلة بتاريخ 3/4/2007

د: زكي العيلة. صورة الذات وصورة الآخر في الرواية الفلسطينية في الأرض المحتلة بعد عام 1967. أوغاريت. رام الله. 2005. ص88، 89، 102

هـ: جميل السلحوت وآخرون. رواية "عين اسفينه" للأديب خضر محجز في اليوم السابع. موقع الكاتب جميل السلحوت. 14/2/2013

 3ـ انظر: ص77. حيث أعلنت الحكومة الإسرائيلية ــ بضغط من الإدارة الأمريكية، بتاريخ 1/2/1993 ــ تجزئة عودة المبعدين على النحو الآتي:

*العودة الفورية لـ(101) من المبعدين: أي بعد 3 شهور من الإبعاد.

*عودة (88) مبعداً، بتاريخ 9/9/1993. أي بعد 9 شهور من الإبعاد.

*عودة المتبقين (226) مبعداً، بتاريخ 15/12/1993. أي بعد سنة من الإبعاد.