موقع الأديب خضر محجز
إزالة الصورة من الطباعة

في صناعة الأولاد

في صناعة الأولاد


إلى الشمال الشرقي من المخيم، على حدوده وليس منه، إلى يسار الذاهب إلى المسلخ، بعد تَجاوز حاوية القمامة، التي يقذف الناس قمامتهم خارجها، لتفتش فيها الأغنام عما تأكله؛ يميل المار يساراً نَحو مشروع العلمي، في منحدر من الأرض، حيث توجد بيوت فيها ناس، أصلهم من المخيم. في الوسط منها بيت صابر، الذي ينام الآن بعد يوم انتفاضة طويل.

قلنا إن المكان ليس من المخيم. لكن أهله يعتبرونه من المخيم. فلا تثريب علينا إذن إن وافقناهم. والدنيا الآن عز الليل. ورتل سيارات عسكرية قادم تتقدمه سيارة مدنية.

أما المخيم الذي تعود على الليل والخوف، فلم يعبأ برتل السيارات، وهو يقطع الطريق القادمة من غزة، بمحاذاة النادي، قبل أن يصل إلى "الطعمة" ثم "الحليب" و"الصّحِّيَّة" و"التموين" ثم إلى مركز الجيش. ولو كان الوقت نهاراً، لخرج الأولاد إلى لعبتهم المفضلة. لكنهم الآن يأكلون الأرز مع الملائكة، فيما يمارس آباؤهم وأمهاتهم صناعة أولاد آخرين، يقتسمون معهم نصب الحواجز في الطريق، ورشق الجنود بالحجارة والزجاجات الحارقة.

لم يكن الليل وحده هو الذي يمارس هذه المهمة الخالدة زمن الانتفاضة؛ إذ شهدت صناعة الأولاد في المخيم، خلال ساعات النهار ازدهاراً كبيراً، بسبب عدة عوامل أهمها متعة مباشرتها، خصوصاً بعد أن يَخرج الأولاد إلى الشارع ليقذفوا الجيش بالحجارة، حيث تشتعل الدنيا في الخارج وتشتعل في الداخل، ويصبح بالإمكان تَحويل الغرفة الوحيدة إلى ورشة عمل، لمدة ربع ساعة ـ أو أكثر قليلاً حسب قدرات الأب وبراعة الأم ـ متوهجةٍ بالنار واللهاث والعرق، ما إن تنتهي حتى تقوم الأم، وقد امتلأت نشاطاً لتتزين، كأنها مقبلة على حفلة وقاعٍ جديدة، فيما ينهدّ الأب إلى جانبه، مسترخياً بلذة منهوكة، مثل ذكر البط، رغبة في استهلاك اليوم الطويل المملّ، المتوفر بفعل الإغلاق، وسحب الممغنط، ومنع العمل وراء الخط الأخضر.

لكن هناك بعض ساعات النهار التي لا تَحدث فيها مواجهات. وليس نادراً أن ترتفع فيها درجة حرارة الرجال، فتنبعثت منهم روائح تعرفها زوجاتهم ـ رغم أن الأولاد هنا ـ فماذا يفعلون سوى أن يكلفوهم بأعمال خارج البيت، تلهيهم عن تتبع سير العملية، بعد إذ لم يعد مستطاعاً منعها!.

عدنان أبو الذينين، زوج أم سمير العمصا، التي تسكن في الحارة المحاذية لسكنة الجباليّة، غافل الولد وزغد أمه في مؤخرتها، فقفزت تفحّ وطلبت منه أن يستحي، لكنه شتم أباها وصار يُخنفر مثل قط في شباط.

والحق أن أم سمير العمصا كان لها ثلثا الخاطر، ولكنها أرادت أن تسمع الشتيمة فتشتعل أكثر. فقالت لزوجها: والولد؟. فقال: يلعن أبوه. فانفتلت بدلال نَحو الغرفة، لترود عينيها ببعض الكحل، إيذاناً بابتداء المعركة. وصرخ عدنان أبو الذينين على ابن زوجته، أن يصعد فوق سطح الأسبست، ليعدل هوائي التلفزيون. فقال الولد بأن الصورة واضحة ولا حاجة لذلك، فشتمه عمه وقال له بأنه لا يرى التشويش، لأنه أعمص مثل أمه. فنظر الولد في وجه أمه، فرأى عينيها العمصاوين وقد تزينتا بالكحل، ورآها مسرورة رغم ما سمعته من شتيمتها، فامتعض وقد فهم المراد. لكنه صعد متأففاً. وبمجرد أن صار فوق، وركب أبو الذينين فوق بطن العمصا، وخاف أن ينزل "ابن الكلب" قبل التمام، أحب أن يشغله بشغلات تؤخر نزوله، فقال:

ـ ولك يا سمير، شوف لنا جارنا أبو جابر ايش بيعمل؟.

فرد الولد:

ـ قاعد في الحوش كاشف عن طيزه وبيشمس بيضاته.

ولأن العملية ما زالت في البداية، فقد تَجاوز أبو الذينين عن هذا الجواب الوقح، وقال رغبة في منح نفسه وقتاً أطول:

ـ طيب، شوف جارنا أبو الدهن كيف حاله؟

فرد سمير متأففاً:

ـ قاعد بيتغدىٰ وطارد أولاده. يظهر مرته عاملة له حاجة تقوّيه!.

لكن نذر الخطر لم يفهمها أبو الذينين بعدُ، فقال:

ـ طيب، شو عامل أبو طبيخ؟

وهنا كان غيظ الولد قد بلغ ذروته، فقال بصوت سمعه كل الجيران:

ـ ناطط على أم طبيخ!.

وإذ ذهل أبو الذينين من هذه الإجابة، من ابن زوجته الذي لم يتجاوز العاشرة، فقد صاح عليه بصوت مغضب:

ـ كيف عرفت يا قليل الأدب؟.

فرد الولد:

ـ أصله مطلّع ابنه فوق السطح يعدل إيريال التلفزيون. 

لكن المتعة رغم أهميتها لم تكن السبب الوحيد، في ازدهار صناعة الأولاد في المخيم. فالأسباب الوجيهة الأخرى كثيرة ومتوفرة، لدى الناس هنا: فالرجال راغبون في امتداد الذكر، وفرض السطوة على الجيران، من قليلي الأولاد؛ أما النساء فمولعات بالمباهاة برشق المياه المختلطة بالصابون، من الطشت، في الشارع أمام الجارات، ليبدأن في التغامز والابتسام، ويتلمظن بِحسرة تنعش قلب صاحبة الطشت والصابون!.

لكن الليل يبقى أستر لهذه الصناعة، التي تتطلب قدراً من السرية، تَخوّفاً من مفاجأة ولدٍ هاربٍ من الجيش، يقتحم الغرفة ويقطع العملية في أي مرحلة من مراحلها، بصورة مفاجئة تَجعل الرجال متسرعين في لبس هندامهم، وشتم الاحتلال والجيش والأولاد والانتفاضة!..