موقع الأديب خضر محجز
إزالة الصورة من الطباعة

أم كلثوم: أنا وانت

أم كلثوم

أنا وانت

مقدمة لمقالة مطولة حول أغنية أم كلثوم


كلمات: عبد الوهاب محمد، وألحان بليغ حمدي. مقام بياتي. ديسمبر 1962

هذه الأغنية نموذج واضح لاعتماد اللحن على الصوت. وقد كانت اللقاءَ الموسيقي الثاني بين بليغ حمدي والست. إذ كان اللقاء الأول قبل عامين في 1960 مع أغنية «حب إيه» لعبد الوهاب محمد كذلك.

نستطيع أن نرى في لحن «أنا وانت» بدايةً حقيقية لصعود أسطورة الموسيقى العربية بليغ حمدي، بعد بسنوات: ذلك الصعود الذي سيتكامل ويبلغ ذروته مع «سيرة الحب».

ما أريد قوله أن لحن «أنا وانت» يكرر لازمةً موسيقية (Thema) مع كل مقطع، هي ذاتها لا تتغير، إلا مع المقطع الخير. حين نشهد انتفاض الرتابة في وثبة مفاجئة، أراد بها بليغ أن يقول: هٰأنذا شخصٌ مختلف. وذلك قبيل خفوت صوت المطربة الأعظم وهي تقول:

أنا وانت، نسينا.. حتى نتعاتب.. ونتصارحْ

وعَزّ عليك تسيب العِنْدِ وتسامحْ

وعزَّ عليّا اكون البادي واتصالحْ

وبعد أن تُكرر هذا الخفوت الحزين مرات، تعود لتصدح بصوت كأنه يُقَرّعُ عاشقَين أضاعاً من بين أيديهما حباً عظيماً:

وأصبح كل يوم بينا، يفوت أصعب من امبارحْ

ثم ترجع مرة أخرى إلى استخلاص الحكمة من وراء اللوم، كأنها تقول لكل العاشقين: تعلموا كيف تحافظون على حبكم:

نسينا رقة العاشقينْ

قسينا واحنا مش داريينْ

نسينا ازاي؟.. كده نسينا

وايه ده اللي جرى لينا؟

منتهى الندم حيث لا ينفع الندم.

لقد كان الصوت هنا وحده هو المبهر، حيث منح الكلمات معنى، وأعطى اللحن «هوية القمة» التي لم يكن بليغ قادراً على بلوغها، بعد.

فلئن كانت الافتتاحيات الموسيقية للأغنية ـ باستثناء المقطع الأخير ـ مكرورة، فلقد جاء أداء الست مختلفاً تماماً.. كانت الموسيقى تزحف، وكان الصوت هو اللحن والأداء.

ففي كل مقطع، بعد الافتتاحية ذاتها، يفاجئنا الأداء العبقري لأسطورة الغناء العربي أم كلثوم، بأداء مختلف، عن المقطع السابق، مما يُنسينا أننا استمعنا قبل لحظة إلى مقدمة موسيقية تكررت.

فقط في المقطع الأخير، نشهد بليغ حمدي وقد صحا من غفوة التكرار، ليصعد نحو مقاربة إبداع الصوت العبقري الذي تَشَرَّف لحنُه بمصاحبته.

يا لله!

لكأن أم كلثوم هي من لحنت هذه الأغنية، لا بليغ!

كل كلمة كانت تخرج من حنجرة أم كلثوم كانت مختلفة: تصدح ريثما ترقّ.. تعلو قبيل أن تفاجئنا بهبوط يشبه أنين قلب مجروح.. تتحدى كأنثى جريحة.. تتدلى كثمرة ناضجة، ما إن تمد يدك لتقطفها حتى تتمنع!

إنها السِّتُ رمز العبقرية والأنوثة معاً، في زمن صَعُب فيه أن يجتمعا معاً في جسد واحد، يحمل في داخله روحاً متمردة كروح الست.

يا للعبقرية!

كيف استطاع هذا الصوت ـ في كل ما غناه خصوصاً هنا ـ أن يُوَحِّد بين متخاصمَين هما الكرامة والحب، فينتصر للحب حين تعاند الكرامة، وينتصر للكرامة حين يتسبب الحب بالضعف.

هذه الكلمات لا يكتبها أي أحد لأي أحد، بل عاشقٌ يعرف معشوقه، ويتولّه فيه بصمت.

لقد قيل كثيرٌ عن حب صامت مقدس بين رامي والست، لكن هذه الكلمات تقول إن عبد الوهاب محمد كان يعاني ما يعانيه رامي.