موقع الأديب خضر محجز
إزالة الصورة من الطباعة

حديث مناديل سعد بن معاذ في الجنة

من مِشْكاةِ النبوّة

حديث مناديل سعد بن معاذ في الجنة


عن أَنَسٌ بن مالك خادم النبي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جُبَّةُ سُنْدُسٍ ـ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ ـ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فِي الْجَنَّةِ، أَحْسَنُ مِنْ هَذَا"([1]).

وعن علي بن أبي طالب عليه السلام: "أنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ـ ثَوْبَ حَرِيرٍ، فأعْطَاهُ عَلِيّاً، فَقالَ: شَقِّقْهُ خُمُراً بيْنَ الفَوَاطِمِ"([2]).

الشرح:

ذكرتُ الحديثين لأن ثانيهما يفسر أولهما. فـ«أُكَيْدِر دُومَة» هو عبد الملك الكندي، الذي أهدى للرسول، صلى الله عليه وسلم، جُبَّةً من سندس ـ وهو من أنعم نسج الحرير ـ فمنحها الرسول لعليٍّ، وأمره أن يقطعها خُمُراً (أغطية رؤوس) للفواطم، عليهن السلام.

أولاً: في أُكَيْدِرَ دُومَةَ:

«أُكَيْدِر»: لقب ملك منتدب، من قبل قيصر روما، لحكم «دُومَةَ الجندل»، بأطراف الجزيرة شمالاً ناحية الشام. فأُكَيْدِر في ذلك يشبه الحكام الغساسنة، عملاء القسطنطينية العرب، الذين كانت مهمتهم إخضاع كل من يتطاول على دولة الروم من جزيرة العرب، كما كانت مهمة المناذرة ملوك الحيرة ـ عملاء الفرس بأطراف العراق ـ إخضاع قبائل العرب بناحيتهم.

ولَعَمْرُ الله إنّهُ لَمِن أشدِّ الخزي، ما يفعله القوميون اليوم، حين يفخرون بهؤلاء العملاء.

ولقد كان أول يوم قومي للعرب ـ حقاً ـ هو اليوم الذي هزمت فيه القبائل الحرة، من بني ربيعة من شيبان بن بكر وائل، جيوش الفرس وعملاءهم العرب في يوم «ذي قار» في العام الثاني للهجرة، بعد وقعة بدر بأشهر.

وقد قيل إنَّ رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ـ قال فيه: «هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نُصروا». كما قيل: أن الوقعة قد مُثِّلَتْ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بالمدينة، فرفع يديه فدعا لبني شيبان بالنصر، ولم يزل يدعو لهم، حتى أُري هزيمة الفرس. فكان بنو ربيعة بعد ذلك إذا خاضوا معركة نادوا: "يا دعوة رسول الله"([3]).

أما «أُكَيْدِرَ دُومَةَ» فمنسوبٌ إلى بلده: «دُومَةَ الجندل»، كما يٌقال: «فرعون مصر»؛ مع الفارق الكبير بين ملكٍ عبدٍ لقوة خارجية ضد بني قومه، وملكٍ ملكَ مصر وشمال أفريقيا والحبشة والشام إلى حدود العراق لقومه.

وفي العام التاسع للهجرة، غزت خيلُ الله ـ بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه ـ «دُومَةَ الجندل»، وجاءت بأُكَيْدِرَ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسيراً؛ فصالحه نبيُّ الله على الخضوع لدولة الإسلام، ودفع الجزية، مع بقائه على نصرانيته.

فلما مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ارتدَّ الكلب عن الطاعة، مع من أرتد من العرب، وقطع الجزية. فداهمته خيل الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ فأسره خالدٌ وضرب عنقه.

وقد أخطأ من ظن أُكَيْدِرَ صحابياً.

ومن الراجح من سياق هذا الحديث أن أكيدر أهدى جُبَّةَ السندس هذه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زمن المصالحة والخضوع. ومن الممكن أن يكون قد فعل ذلك، قبل غزو المسلمين إيّاُه، مخادعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنها ليست تلك المرّةَ التي أُسر فيها، وذكر خبرها ابن إسحق في السيرة إذ قال:

"فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: رأيت قباء أُكَيْدَر حين قُدم به على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعل المسلمون يلمسونه، بأيديهم ويتعجبون منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده، لَمناديلُ سعد بن معاذٍ، في الجنة، أحسن من هذا([4]).

قلت: وهذا إسناد حسن لسلامته من عنعنة ابن إسحق. ويبدو أن عاصماً، خلط بين ما كان يرتدي أكيدرُ يوم أسره، وبين إهدائه جبة السندس لرسول الله ـ قبل ذلك أو بعده ـ فوضع عاصم تعجب الصحابة وقول الرسول في حادثة أسر أكيدر. وهيهات أن يعجب الصحابة بملابس أسير. ولكن كان تعجبهم من الهدية ـ كما هو في الصحيحين ـ دون وجود أكيدر الكافر.

ثانياً: في سعد بن معاذ:

هو زعيم الأوس، القبيلة الثانية في المدينة بعد الخزرج في العدد والبأس. أما زعيم الخزرج فسعد بن عبادة. فكان يُقال لهما: السَّعدان. رضي الله عنهما وأرضاهما.

وكانت مكانة سعد بن معاذ في الأنصار، مثل مكانة أبي بكر الصديق في المهاجرين([5]). حتى إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للمسلمين حين جيء بسعد ليحكم في بني قريظة: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ"([6]).

ولما كانت غزوة الخندق، أصيب سعدٌ بسهم في أَكْحَلِه ـ والأَكْحَل: الوريد الرئيسي في اليد ـ "فَضَرَبَ النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ خَيْمَةً في المَسْجِدِ، لِيَعُودَهُ مِن قَرِيبٍ"([7]).

فدعا سعدٌ ربّه فقال:

"اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أنَّه ليسَ أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ أنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، مِن قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسولَكَ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ وأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فإنِّي أظُنُّ أنَّكَ قدْ وضَعْتَ الحَرْبَ بيْنَنَا وبيْنَهُمْ، فإنْ كانَ بَقِيَ مِن حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيءٌ فأبْقِنِي له؛ حتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، وإنْ كُنْتَ وضَعْتَ الحَرْبَ، فَافْجُرْهَا واجْعَلْ مَوْتَتي فِيهَا"([8]).

ثم قال: "اللَّهمَّ لا تُخرِجْ نَفسي حتَّى تُقِرَّ عيني من بَني قُرَيْظةَ. فاستمسَكَ عِرقُهُ فما قطرَ قطرةً حتَّى نزلوا علَى حُكْمِ سعد"([9]).

ووافق حكمُهُ في بني قريظة، حكمَ الله القديم في اللوح المحفوظ في السماوات، والنازل على موسى في التوراة. نطق بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ قال: "قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرُبَّمَا قَالَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ"([10]).

ولما مات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ"([11]).

قال مولاي النووي قدس الله سره: "وَاهْتِزَازُ الْعَرْشِ: تَحَرُّكُهُ فَرَحاً بِقُدُومِ رُوحِ سَعْدٍ"([12]).

ونعاه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم([13]).

والمنديل في المعاجم العربية هو قطعة القماش التي يُتَمَسَّح به من العرق أو الوضوء أو الطهور، فهو ما يُقال له اليوم: المنشفة أو الفوطة أو البشكير([14]).

فمناديل سعد في الجنة خير من هذه الجُبَّةِ من السندس.

وقد قلنا من قبل: إنَّ الخُمُرَ جمع خِمار. وهو غطاء الرأس بالعموم، والمقصود منه رؤوس النساء، كما قال تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ (النور/31).

أي: وليُسْدِلن أغطية رؤوسهن على صدورهن.

فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علياً أن يشق جُبَّة السُّندس التي أهداها إياه أُكيدر دومة أغطية رؤوس بين الفواطم.

والفواطم ثلاث، وقيل أربع:

1: الأولى  فاطمة بنت محمد، بَضْعَة رسول الله المباركة، من أٌمِّنا خديجة بنت خويلد بن أسد. فهي وأمها امرأتان من أربع نساء هن سيدات نساء العالمين، الأخريين هما آسيا امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران. على أربعتهن سلام الله وبركاته في العالمين.

تزوجت فاطمة من علي بن أبي طالب، وأنجبت له الحسنين. ومنهما ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم. عليها وزوجها وذريتهما وآل بيت رسول الله صلاة الله وسلامه وبركاته إلى يوم القيامة.

توفيت السيدة فاطمة بعد وفاة أبيها بستة أشهر.

2: والثانية: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أم علي بن أبي طالب. أول هاشمية ولدت لزوج هاشمي.

3: والثالثة فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب. أمها سلمى بنت عُميس، خالتها أسماء التي كانت زوج جعفر بن أبي طالب. استُشهد أبوها حمزة يوم أحد. واختصم آل البيت في حضانتها، فقضى رسول الله بها لجعفر بن أبي طالب، لأنه زوج خالتها. عليهم السلام جميعاً.

هذا هو المتفق عليه بين الناس. وزاد بعضهم:

4: فاطمة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن مناف، أبوها أحد قتلى المبارزة الأولى يوم بدر. وهي ابنة عم هند بنت عتبة بن ربيعة، أم معاوية أول ملوك الإسلام. رضي الله عنه. وقد صارت فاطمة من آل البيت بالمصاهرة، فهي زوج عقيل بن أبي طالب ـ شقيق علي ـ شهدت مع زوجها عقيل معركة حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.

قال مولاي النووي قدّس الله سرّه:

"وذكر الحافظان عبد الغني بن سعيد وابن عبد البَرِّ ـ بإسنادهما ـ أن علياً رضى الله عن، قسمه بين الفواطم الأربع؛ فذكر هؤلاء الثلاث. قال القاضي عياض: يشبه أن تكون الرابعة فاطمة بنت شيبة بن ربيعة، امرأة عقيل بن أبي طالب، لاختصاصها بعلي رضي الله عنه بالمصاهرة، وقربها إليه بالمناسبة. وهي من المبايعات. شهدت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حُنَيْناً. ولها قصة مشهورة في الغنائم، تدل على ورعها. والله أعلم"([15]).

والله أعلم

اللهم صحبة النبي وصحبتهم. صباح الخيرات لعشاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

 

[1]ـ متفق عليه. واللفظ للبخاري.

[2]ـ صحيح مسلم.

[3]ــ انظر: الأصفهاني. الأغاني. الجزء24. ص67 ــ 72

[4]ــ سيرة ابن هشام. ج4. ص167

[5]ـ انظر: ابن قيم الجوزية. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. مج1. تحقيق: زائد بن احمد النشيري. دار عالم الفوائد. مجمع الفقه الإسلامي. جدة. دون تاريخ. ص436

[6]ـ متفق عليه بلفظه.

[7]ـ متفق عليه. واللفظ للبخاري.

[8]ـ متفق عليه. واللفظ للبخاري.

[9]ـ أخرجه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح" ووافقه الألباني. ج4. ص144. حديث رقم: 1582

[10]ـ متفق عليه. واللفظ للبخاري.

[11]ـ متفق عليه واللفظ للبخاري.

[12]ـ صحيح مسلم بشرح النووي. ج16. ص22

[13]ـ مرسل. رجاله ثقات إلى عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة. تحقيق: وصي الله بن محمد عباس. انظر الكتاب. ج2. ص819. حديث رقم: 1489

[14]ـ انظر: رجب عبد الجواد إبراهيم. المعجم العربي لأسماء الملابس. ط1. دار الآفاق العربية. القاهرة. 2002. ص481

[15]ـ صحيح مسلم بشرح النووي. ج14. ص51