هشام نفاع


(سكرتير الحزب الشيوعي الإسرائيلي ـ راكاح)




باق في حيفا رغم كل شيء


كأنّ ظلم ذوي القربي قدَرٌ يرافق إميل حبيبي وقومه




القدس العربي اللندنية. 2006/12/14



 

تحت العنوان اتهامات جديدة في كتاب للناقد خضر محجز "هوية إميل حبيبي المبعثرة تحن الي التئام جروحها" كتبت السيدة أمينة غصن في جريدة الحياة اللندنية في 11/11/2006 مقالة ذات شجون تثير الشجون.


فقد تناولت كتابًا عنوانه إميل حبيبي الوهم والحقيقة لخضر محجز، صدر عن دار قدموس (دمشق، 2006). وهو ما لم أقرأه بعد، كونه لم يصل بعد للباقين في هذا الجزء من الوطن، الذي نسيه كثيرون من ذوي القربي حتي أمسِ القريب؛ والذي كان حبيبي أحد أشدّ الدروع لأجل بقاء أهله فيه، أسوة برفاقه الذين كتبت ذاكرة أهلنا أسماءهم بحروف من نور، مثل: توفيق طوبي، توفيق زياد، إميل توما، حنا نقارة، وتلامذتهم (الكبار بنفوسهم ممّن يعترفون بمعلّميهم ولا يعرفون لهم جحودا) كمحمود درويش وسميح القاسم وآخرين.


باستسهال يجافي التحليل، بل حتي التأويل، تكتب الناقدة أنه مذ تسلّم إميل حبيبي جائزة الإبداع الإسرائيلية من يد رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحاق شامير، في عزّ الانتفاضة الأولى، أمسي كاتب البُدع الداعي الي ضرورة تطبيع العلاقات الثقافية مع الكتّاب والأدباء الصهاينة . وهنا يروح كل الحديث ينصبّ علي السياسة، ضمن مسعي عجيب لتقييم الأدب. كيف؟ هكذا، لا جواب.


إن قبول حبيبي بالجائزة أثار جدلاً واسعا، وهناك متّسع كبير للتأييد والمعارضة ولو بأحدّ أشكالها. هذا شرعيّ بل حيويّ. لكنّ المسافة تظلّ شاسعة جداً، بين هذا الجدل التعدّدي المُثري وبين التلميح والتلويح بأشباح التخوين. هذا سيكون اغتيالاً أكيدًا للتفكير وللفكر. والاغتيال ليس من وظائف المثقف.


إنّ من لا يعرف حيفا والناصرة واللد ويافا، الشقيقات الباقيات رغم كل العنصرية والتعسّف، ومن لم يسمع حبيبي يهتف بضراوة في سخنين يوم الأرض، سيسهُل عليه الخروج ببُدع كتلك. من لا يعرف سوي العناوين البرّاقة العابرة، قد يجد نفسه متورّطًا في صفقة تسويق، لم يمحّص في محتواها فيضطلع فيها، لاهياً عما تنطوي عليه من استغلال مريب مؤلم، للعقل والنفس، داخل الوعي العربي المُنهك من المحيط حتي الخليج. فوكيل الاستسهال غير المجتهد لا يعرف، أو لا يهمّه أن يعرف، علي سبيل المثال، إميل حبيبي الصارخ في ثمانينيات القرن الماضي، في خان العمدان، من قلب عكا القديمة، مواجهاً دعاة الترانسفير، أمام آلاف من الجماهير، حيث كنت يومها بينها فتيً يتعلّم دروس الحياة، بما مفاده: إنّنا نجتمع هنا وقد عدّي السبت في أقفية كل ذوي دعاة الترانسفير، كي نقول لهم وللعالم أجمع: هنا باقون. أولئك لا يعرفون إميل حبيبي، الذي قاد إحدى أهم مؤسسات بقائنا الثقافية والسياسية، صحيفة الاتحاد ، التي طالما أغلقتها السلطات الإسرائيلية، لشدّة عناد وبهاء تطاولها الثوريّ، كالعين التي تلاطم المخرز. وهو مثلٌ باتَ لازمةً لملحمة أهلنا التي انزرعت، أيضًا، بفضل حبيبي ورفاقه، في أذهاننا، نحن الشباب الفلسطيني الذي يصرّ علي البقاء في وطنه، الذي لا وطن لنا سواه. وهي المقولة التي دأب إميل حبيبي علي استخدامها في مقالاته وخطاباته.


الناقدة تتوقف عند مجلة مشارف، التي تصفها بلغة تنزع للتسطيح، عديم العمق، بأنها مجلة تجاورت (فيها) مقالات الكتاب الفلسطينيين والإسرائيليين. من هم أولئك الإسرائيليون؟ ما هذا التعميم المريب؟ هل سمعت عن مناهضي الصهيونية والحروب منهم؟ هل تعرف مواقفهم الواضحة، الأقرب الي قضيتنا من كثيرين كثيرين من ذوي القربي المتحكّمين؟ هل قرأت ما كتبوه في المجلّة نفسها؟ لا بل إنّها تمدّ مدادها متماديةً، متهمة حبيبي بتبنّي حق تقرير المصير لليهود في فلسطين، مضيفة بلهجة ـ هوليوودية الطابع في إثارتها ـ كيف هبّت كل الجبهات الثقافية العربية مشتعلة في مواجهته، وحاسمة في رفضه. هكذا يتم تشويه التاريخ والحاضر؛ بهذه الطريقة يتم تحويل ملحمة بقاء الباقين من شعبنا في وطنهم، الي هامش هزيل تحت فجاجة نصّ/كذبة بطولات النّظم العربية المتحكمة، التي تركتنا كالأيتام علي موائد لئام الاستعمار. هكذا يجري تناسي أيام حالكة شكّلت فيها معركة البقاء آخر الصخورن وسط تلاطم أمواج الهيمنة والتواطؤ، وهما اللذان لا يحلان سوي متلاحمَين.


السيدة الناقدة تسخر، بلهجة تنسجم مع اللغة الريغانية البائدة، من إيمان حبيبي بـ"حتمية التحوُّل الطبقي في المجتمعات، وصولاً إلي الكمال الشيوعي وجناته الموعودة". لربما أنها تمكنت من رؤية ما لم ترَه شعوب فلسطين والعراق ولبنان، من مغازي الأمركة المناهضة للشيوعية، ونعمها الديمقراطية التي بها اليوم نرفُل.. لكن أشدّ ما في الأمر من تراجيكوميةن تجلي في ذلك الوصف المُجافي للمعني وتاريخيته. ولنقرأ التالي: طإميل حبيبي ينضم إلي الحزب الشيوعي الفلسطيني سنة 1940، وبعد فشل ثورة 1936 (...) تحوَّل من الأممية إلي القومية، وانخرط في عصبة التحرّر الوطني، بحثاً عن سلطة تتلبس أيديولوجية حزبية، تزعم رفض الكولونيالية الصهيونية".


لا حاجة للإطالة في هذا التشويه المريعن علي مستوي المعلومة التاريخية البسيطة والمؤرشفة، لأن عصبة التحرّر الوطني، الموسومة هنا بألوان قومية من النوع الضيق، والمشكَّك بها، كمن تزعم رفض الكولونيالية الصهيونيةن ليس أكثر، هي هي الحزب الشيوعي الفلسطيني قبل 1948. أهكذا تتعامل الدراسات واستطراداتها النقدية مع معطيات تاريخية، يفترَض أن تقع في متناول كل طالب جامعي في سنته الأولي؟ بالله عليكم وعلينا. قليلا من الجدّ والجدية. إن الحركة الشيوعيةن في منطقتنا، تستحقّ لأهميّتها علاجات متأنّية بمبضع النقد، بأحدّ أشكاله، كأيّ حركة سياسية. بالمبضع وليس بالبلطة ولا المسدّس. ففي النهاية، الشيوعيون هم أصحاب مقولة إن المعصوم عن الخطأ هو وحده ذاك العازف عن العمل. ولكن النقد سيكون طائشًا حين يتم إغفال استيضاح الحقائق الأساسية المرتبطة به. النقد ليس حقاً، بل إنه واجب، شرط التزام الاستقامة الفكرية، لدي من يأخذ علي عاتقه همّ مهمّة النقد.


علي سبيل النوادر الساعية لتدعيم النصّ، الذي لا يصادق الوقائع كثيراً، تنير الناقدة ألبابنا بكشف تاريخيّ غير مسبوق، لربّما استقته من الكتاب الذي تستعرضه، واصفة كيف أحرقت الجماهير مقرَّات عصبة التحرّر الوطني، وهرب إميل حبيبي إلي لبنان، وظلَّ طوال حياته المُدافع المستميت عن حق إسرائيل في الوجود. أين تم إحراق هذه المقرّات؟ من أين هذه المعلومات؟ من أحرقها، افتراضاً؟ الجماهير؟ أهؤلاء الباقون الذين وقف حبيبي ورفاقه بأجسادهم معهم، لمنع تشريدهم مع بقيّة شعبهم؟ هل تعرف السيدة الكاتبة، مثلاً، أنّ أحد أهمّ مقرّات عصبة التحرّر الوطني، المسمي مؤتمر العمال العرب، لا يزال عامراً محمياً في كنف أهله، داخل حي وادي النسناس العريق في حيفا، حتي اليوم؟ هل تعرف أنّ أحفاد العصبة الباقين يحافظون عليه كقرّة العين. يوم الجمعة الماضي، حين اشتريت خضاري وأغراضي العاديّة من سوق الوادي، مررت بمحاذاة مؤتمر العمّال. لا يزال شامخا. وعلي جداره لوحة فنيّة، ضمن معرض جماعيّ، كُتب عليها درب إميل حبيبي. هل تعرف الناقدة معني كل هذا؟ هل تشعر به؟


لا أعرف الكاتبة، لكني أرغب في الدفاع عنها هي نفسها في وجه قلمها، والذي كتب: لمّا قامت دولة إسرائيل العتيدة، عاد إليها إميل حبيبي، بالتعاون مع قوّة الاستخبارات التابعة للوكالة اليهودية، كما يقول معارضوه. أهكذا يكون إنتاج الثقافة؟ أهكذا يُلقي الكلام علي عواهن نخيله المتيبّس؟ أهكذا تُصاغ الادّعاءات النقدية، وكأنّه يكفي إضافة جملة: كما يقول معارضوه، لتمسي دليلاً ثاقبًا علي صحّة الادّعاءات الواهية؟ أبهذه الصيغ المستسهلة الواهية تُثقَّف الأجيال العربيّة؟! ثم أنّه ما معني تفشّي المحاولات المريبة، لدمغ مثقفينا الفلسطينيين المناضلين، في هذا الجزء من الوطن، بعلامات سؤال قاتمة علي تاريخهم؟ من يخدم هذا بالضبط؟ هذا سؤال للتفكير بتبعات الاستسهال.


لكنّ الحقيقة هي أنّ هناك ما أثار فيّ ابتسامات ساخرة. مثلاً، التفسير العجيب الغريب للمُقتبس التالي عن إميل حبيبي، ونصّه: مليح أن صار هكذا، وما صار غير شكل . (الاقتباس غير دقيق، بالمناسبة، وهو من رواية المتشائل ). فكيف فسرت الناقدة أو تبنّت تفسير هذا الاقتباس؟ هكذا تكتب: وعى حبيبي أن طقس التطهُّر من الماضي وكوابيسه لا يتم إلا بالاعتراف الكامل، بتحول الماضي حاضراً لا يشبهه، بل ينقضه ويهدمه. يا لقسوة وإحراجات عدم فهم المقروء، لدي من يُفترض فيهم سعة المدارك الدراسية والنقدية!. فقد وردت تلك المقولة في ذروة من السخرية الذاتية السوداء المرّة، بصدد ما وقع للباقين من شعبنا الفلسطيني في وطننا، حين وجدوا أنفسهم يبحثون، ولو عن أخفّ بصيص من نور، لمواجهة العتمة الباردة الحالكة التي أحاطت بهم، وبفضل غير قليل ممّن امتلكوا ولا زالوا يمتلكون متّسعًا من جرأة للوم الضحيّة. فرانتز فانون رفض لوم الضحية، في سياق رفض الاستعلاء الأخلاقي للاستعمار علي مقاومة ضحاياه. في مسرحيته لكع بن لكع يكتب إميل حبيبي: "لا تلوموا الضحية" في سياق الدفاع عما يضطرّ عليه المقهورون لضيق الحال. يمكن استعارة الفكرة لتلائم سياق جدلنا هنا، ومطالبة ذوي القربي بالتمعّن قليلاً في تعقيدات مسيرة هذا الجزء الحيّ من الشعب الفلسطيني، الذي كان ولا يزال قابضا علي الجمر، قبل أن يُقدموا علي فعل المحو. خاصة إزاء من هبّوا وتمرّدوا علي كافة ممارسات محوهم.