محمد حسونة


التشبيه السردي في رواية خضر محجز اقتلوني ومالكاً*: دراسة بنيوية


ملخص:

تهدف هذه المقاربة إلى الوقوف عند التشابيه في رواية: "اقتلوني ومالكاً" للدكتور خضر محجز، وذلك من أجل استكناه دلالتها الكامنة في التوازن والتحول والتغاير، ولأجل تحقيق هذا الهدف, جاءت المقاربة في محورين اثنين, يتناول الباحث في الأول منهما ماهية التشبيه وفي الثاني يعرض لأحياز هذه التشابيه. هذا وقد اتخذ الباحث من المنهج البنيوي سبيلاً للوصول إلى هدف هذه المقاربة، التي ختمها بأهم النتائج التي توصل إليها وثبت بالحواشي والمصادر والمراجع.

مقدمة:

يهدف هذا البحث، كما هو واضح منذ العنوان، إلى دراسة الأشكال التي جاء فيها التشبيه في رواية (اقتلوني ومالكاً). أي أنَّ الدراسة لا تبحث في دلالات التشبيه، بل في آليات تحققه.

ورب سائل يسأل عن أهمية بحث لا يتطرق إلى الدلالة، لما هو معلوم من كون المنهج البنيوي لا يظهر كبير رغبة في دراسة دلالات النصوص، على اعتبار أنَّ ما يحقق أدبية الأدب هو شكله لا محتواه، كما يقول ياكوبسون(1): إنَّ المعنى في البنيوية هو الدور، لا الدلالة، كما تقول يمنى العيد:

"وأن يكون للشيء معنى, هو أن يكون له دور, حسب تودوروف. ومعني الشيء هو وظيفته. والوظيفة تعني دخول العنصر في علاقة مع عنصر آخر, أو مع عناصر أخرى, ضمن البنية الواحدة, التي هي هنا بنية النص الأدبي"(2).

أي أنَّ معنى التشبيه وقيمته في رواية (اقتلوني ومالكاً) يمكن أن يظهر أثره، بكثير من الجلاء، إذا ما تمكنا من تبين كيف جاء هذا التشبيه في النص: أي ما هي أدوات الفن التي اتخذها خضر محجز لكي يجعل من هذا التشبيه مؤثراً في روايته مجتمع البحث؟.

"إنَّ مسألة الشكل ليست مسألة شكلية، بل هي مسألة معرفة موضوعها الشكل، أي بنية القول... إنَّ ثمة فرقاً ما بين المنهج الشكلي في تحيزه للشكل، وانغلاقه على ذاته، وبين المفاهيم التي أنتجها البحث على بنية الشكل، والتي بإمكان النقد... أن يفيد منها. فقد يعتمد النقد هذه المفاهيم ـ أو بعضاً منها ـ لكشف أسرار البنية، ولمعرفة التقنيات التي تقوم بها... ولعلنا لا ننكر أنَّ البنية دال، والشكل يقول"(3).

هذا من حيث المنهج. أما من حيث الموضوع، فقد رأى الباحث أهمية دراسة التشبيه في السرد، لما وَقَرَ في ظنّ البعض، من اقتران التشبيه بالشعر، دون غيره من المدونات الإبداعية؛ من رواية وقصة ومسرحية، وغير ذلك من أشكال الفن المختلفة، كالرسم والنحت والموسيقى... إلخ. بل يمكن القول إنَّ هذا الظن قد غدا منتشراً ولافتاً، بما يعنيه ذلك من الإعراض عن تصور اقتران التشابيه بالفنون النثرية الأخرى كالرواية أو القصة القصيرة. وربما عزز من هذا الظن ما ورد في كلام الجاحظ عندما قال: "إنَّ الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير"(4).

ولا ريب أنَّ مثل هذا الاعتقاد لا يحتاج إلا إلى جهد متواضع لِفَرْيهِ، فالقرآن الكريم يستند في آيات كثيرة إلى التشابيه، لتأسيس وظائف دلالية متعددة. كما أنَّ أكثر الإنتاج الإنساني من الأمثال برمته عبارة عن تشابيه، بل إنَّ الإنسان ـ في منطوقه اليومي ـ يستخدم، من ناحية الكم، ما لا يستخدمه شاعر منها في كل أعماله الشعرية.

وقد لا نذهب بعيداً إذا قلنا: "إنَّ الأسماء التي ينعت بها الآباء أبناءهم إن هي إلا هي تشابيه. وإلا  فبم نفسر هذا التردد والتراخي في نعت المولود، إذا كان أنثى؛ ثم هذا التأنق إذا كان ذكراً؟!. بل إنَّ الألقاب التي يتنابز بها الناس: "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان"( الحجرات/49) هي تشابيه دالة.

ولكن المسألة لم تقف عند الاقتران فقط، بل امتدت إلى المقاربات الأدبية والنقدية، التي لا نراها تدرس التشابيه إلا ما كان منها في حيز المدونات الشعرية. والحقيقة أنَّ الكلمة في التصوير السردي، كثيراً ما تمثل أشياء متشابهة؛ العلاقة بينها منطقية، بينما هي في الصورة الشعرية متباعدة زماناً ومكاناً، ومرتبطة ارتباطاً شعورياً غربياً5).

صحيح أنَّ التشابيه في الشعر لها سمت مغاير لما هو عليه في المدونات النثرية, وذلك لا يحدث في كل الحالات. بيد أنَّ هذا التمايز، في بعض الحالات، لا يجعل هذه الدراسات في حلّ من مقاربتها في المدون النثري؛ لأنَّ بعضها ـ في مثل هذا المدون النثري ـ قد وصل إلى حدود لمَّا يصل إليها في الشعر، خاصةً وأنَّنا نشهد زحفاً للشعر تجاه النثر فيما يسمى بالقصيدة النثرية.

ولعل الحصر النقدي للتشابيه، في المدون الشعري، يقف في مقدمة الأسباب التي دفعت الباحث إلى هذه المقاربة؛ بالإضافة إلى قناعته بأن كل ما في الرواية له دلالته(6).

وثاني هذه الأسباب: الإهمال القصدي لإنتاج خضر محجز الروائي وغير الروائي من قبل الدارسين والنقاد، وهو إهمال، في ظنّي، غير مبرر.

وثالث هذه الأسباب: أنَّ الباحث أراد أن يقدم التشابيه في هذه الرواية في ثوب تناولي جديد، يظهر التحول والتوازن والتغاير الذي تبثه التشابيه في هذه الرواية.

وآخرها: أنَّ هذه الرواية لها ميزتها الخاصة في منتوج محجز الروائي، لأنَّها تمزج بشكل عجيب ثلاث مراحل فاصلة في حياة الإنسان الفلسطيني، وهي: مرحلة الوطن:"الجيَّة"، مرحلة الهجرة: "المخيم"، مرحلة الكفاح: "السجن". وهي مراحل تنبثق من المكان وتثير جدلاً عميقاً.

ومن أجل رصد قدرة التشابيه على خلق التحول والتوازن والتغاير, أدرك الباحث أنَّ عملية الرصد هذه لا يمكن لها أن تتحقق، بأكبر قدر من المثالية، إلا عن طريق المنهج البنيوي التحليلي. لذا فقد جاءت هذه المقاربة في ثلاثة محاور هي:

مفهوم التشبيه.

أهمية التشبيه.

أحياز التشابيه ودلالاتها.

أولاً: مفهوم التشبيه:

التشبيه لغة: التمثيل. وهو مصدر مشتق من الفعل "شبَّه" بتضعيف الباء، يقال: شبَّهت هذا بهذا تشبيهاً، أي مثلته به"(7).

وقد حدَّ البلاغيون التشبيه بتعريفات كثيرة، مختلفة لفظاً متفقة معنى:

أولاً/1: فابن رشيق مثلا يعرِّفه بقوله: "التشبيه: صفة الشيء بما قاربه وشاكله، من جهة واحدة، أو عدة جهات كثيرة، لا من جميع جهاته؛ لأنَّه لو ناسبه مناسبة كلية، لكان إياه"(8).

أولاً/2: أما أبو هلال فيعرِّفه بقوله: "التشبيه: الوصف بأنَّ أحد الموصوفين ينوب مناب الأخر، بأداة تشبيه"(9).

أولاً/3: فيما يعرِّفه القزويني بقوله: "التشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى"(10).

أولاً/4: في حين يقول التنوخي: إنَّ: "التشبيه: هو الإخبار بالشبَّه، وهو اشتراك الشيئين في صفة أو أكثر، ولا يستوعب جميع الصفات"(11).

أولاً/5: وعندما يعرض عبد القاهر الجرجاني للتشبيه يقول شارحاً: "أن تثبت لهذا معنى من معاني ذاك، أو حكماً من أحكامه؛ كإثباتك للرجل شجاعة الأسد. وللحُجَّة حكم النور، لأنَّك تفصل فيها بين الحق والباطل, كما يفصل النور بين الأشياء"(12).

أولاً/6: أما تعريف الصّرصري فيعرف التشبيه بقوله: "هو إلحاق أدني الشيئين بأعلاهما، في صفة اشتركا في أصلها، واختلفا في كيفيتها؛ قوة وضعفاً"(13).

أولاً/7: وفي آخر هذا المطاف من الاقتباسات نورد تعريف الرماني للتشبيه، إذ قال عنه إنه: "العقد على أنَّ أحد الشيئين يسدُّ مسدَّ الآخر، في حس أو عقل"(14).

ها نحن ندرك الآن ـ وبعد كل هذا النقل عن السابقين ـ أنَّ التشبيه ينهض على بنية التحول المتحققة بالمشاكلة أو المناسبة: أي الصورة الجامعة. يقول الجرجاني في أسرار البلاغة: "إنَّ الشعر يصنع من المادة الخسيسة بدعاً يغلو في القيمة ويعلو"(15). ويشبه هذا كلام ابن وهب ـ صاحب "كتاب البرهان" ـ حين يقول: "لا يجوز أن يشبه شيء شيئاً في جميع صفاته ويكون غيره"(16). ومثله قول "بوالو": "الفنُّ يصنع من الحياة ومن المسخ المرعب شيئاً جميلاً يسرُّ النظر"(17).

وهذا التحول، المتحقق عبر المشاكلة أو المناسبة، يتجاوز البعد الجمالي وغير الجمالي، إلى كل من التصور والرؤيا والاستشراف والذاكرة؛ لأنه يحدث بمقصدية ولقصدية، تكمن في الوعي الفردي أو الجمعي، وتحدد مقداره وما يتسلط عليه: فالإنسان العربي القديم عندما قرن جمال المرأة بمقدار قربها من أوصاف الحيوانات، التي تعيش معه في هذا الكون(18), لم يصنع ذلك تحت تأثير المتاح للرؤية والمعرفة؛ لأنَّ ذلك يعطل جمرة الخيال، الذي يصل إلى المجهول وغير المنكشف، ويقرب المتباعد(19)؛ وإنَّما فعل ذلك، لقناعات تصورية مركزية، خارجية أو داخلية غائرة، في أسطورتيها وتراثيتها واجتماعيتها وممارساتها السلوكية، تجاه هذه الحيوانات. وإلا فبم نفسر هذا الإجماع العربي القديم على هذا المعيار، الذي امتد طويلاً، إلا أن يكون معياراً توافقياً له أبعاده أنفة الذكر؟!.

إنَّ هذا التحول قد يهزُّ تصورات راسخة، لها جذورها الأسطورية أو التاريخية أو الأدبية، لا تستطيع أن تثبت ـ بإكليشاتها المعهودة ـ أمام رغبة التحول الجامحة، التي قد تزيلها بشكل تام، أو تعدل فيها، أو تدخلها في مجالات دلالية غير معروفة.

إنَّ الفنان في ممارسته للتحول، يجد الفضاء أمامه مفتوحاً، ليختار ما يشاء من أدوات فنية، قديمة أو مستحدثة، لإجرائه. فيمتلك بذلك شرعية فنية، تمكنه من تسجيل رؤاه وتصوراته، في السجل الإبداعي للرؤى والتصورات. وإنَّ القدرة على القيام بهذه المهمة، يتفاوت في امتلاكها فنان عن آخر: أعني ذلك التفاوت الحادث بالطبيعة، بين الأشخاص المختلفين في قدراتهم ـ سواء الموهوبة من السماء، أو الحادثة بالمران والصقل ـ في إحداث التحول الفني الفاخر، الذي يصيب الموجودات والكائنات، فيؤسس لحالة تغايرية انتقائية، تكشف قدراتهم الإقناعية والتأثيرية.

ربما يصطدم هذا الحكي مع الوظيفة التقليدية للتشبيه، التي تعودنا على حفظها من كتب البلاغة. لكن هذا الاصطدام إن حدث؛ يؤشر إلى الطبيعي، أكثر مما يحيل إلى رغبة المخالفة؛ فوظيفة التشبيه في الفن الأدبي اليوم لا تملك ثباتاً، لأنها تجاوز مهمة التشبيه الكلاسيكية ـ التي حددتها سابقاً كتب البلاغة ـ إلى وظائف دلالية أخرى؛ خاصة ذلك الضرب من التشبيه الذي يستند إلى حركة سردية منعكسة، تحيله إلى بؤرة دقيقة في التصور السَّردي، تؤدي إلى نوع من عقد التوازنات داخل النسيج السَّردي، مهمتها أن ترصد ذلك التغاير المستمر في النسيج الاجتماعي، وما يتبعه من تحولات سيكولوجية وسياسية. وبذا يؤول الأمر إلى أن تغدو نتائج التشبيه محصلة للوظيفة السردية؛ فيما يمكن أن نعتبره دلالة التشبيه الناتجة عن تصور الأبطال لذواتهم، والتغيرات الانتقائية ـ من الداخل أو الخارج ـ للزمكان.

وهذا يعني أنَّ التشبيه السَّردي، يضم بين عطفيه توازناً وتغايراً. فالتوازن مفتوح يطال الموجودات حسية ومعنوية، كما أنَّه البوصلة التي تقدر التغاير كيفاً وكماً. وعلى الرغم من فنِّيّته، إلا أنَّه موضوعي فيما يتعلق بتمظهراته التغايرية. وهو ليس نتاج انسجام أو مناسبة، بل نتاج جدل متأصل أو مستحدث ودائم، يرقد في التغاير المتمخض عنه، ليحدث توازناً وتغايراً مستقبلياً.

هذا التوازن ـ الذي تحدثه التشابيه ـ لا يصل إلى التغاير مباشرة، أو بسهولة قياسية؛ وإنَّما بمشقة بالغة. لأنَّه بحاجة إلى قوة خارقة، تدفع كل ما في الرواية من عناصر باتجاهه. وفي حالة فقدان مثل هذه القوة، يصبح العمل الروائي كله مغامرة فريدة من نوعها. وهذه القدرة الخارقة تتأتي من عبقرية روائية ذات قدرات عالية، في البناء والتشكيل. وهي متفاوتة من روائي لآخر، وتأتي كذلك، من مجتمع يشهد جدلاً عميقا حول الموجودات والأشخاص؛ سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسة أو الدولة، وكذلك مع الآخرين في الخارج. فمثل هذا المجتمع يوفر فرصة هائلة لنمو التوازن والتغاير بشكل متميز.

ثانياً: أهمية التشبيه:

ثانياً/1: التشبيه بصفته انزياحاً:

إنَّ أهمية التشبيه تنشأ في التصور، بسبب ما يقدمه لنا من صور، تبث في الكلام حياة من نوع خاص. لكأننا أمام نوع من إعادة الخلق!. لقد عودتنا تجربة التلقي الأدبي على انتقال التشبيه بنا من الكلمة إلى الصورة. يجري هذا في الكلام العادي بين الناس، ولا يحقق الإدهاش لكثرة استعماله. لكن استعمال الأديب له، هو الذي ينفض عنه عاديته، ويحيله إلى صورة تنبض بالحياة، وما ذاك إلا لأننا نراها لأول مرة.

دعنا نتأمل قول المتنبي في وصف الحمى، إذ يقول:

وزائرتي كأن بها حياءً/ فليس تزور إلا في الظلام

ما الذي حقق الشعرية والإدهاش هنا؟. لا ريب أنَّه التشبيه. تشبيه الحمى بالمرأة الزائرة، التي يغلبها الحياء، فلا تزور محبوبها إلا في غياب أعين الرقباء. وأي شيء أنسب لمثل ذلك من الليل!.

إنَّ التشبيه هنا هو الذي أعطى كلمة عادية كـ(الزائرة) كل هذه الشحنة من اللاعادية. إنَّ هذه الكلمة لم تأت وحدها، بل جاءتنا محوطة بحزمة من الدلالات التصورية الذهنية، التي أنشأتها. وبذا قفزت هذه الكلمة من عاديتها اليومية إلى شعريتها الجمالية.

بإمكانك أن تقول قدر ما تشاء: إنَّ الحمى لا تأتيك إلا في الليل. كما أنَّ بإمكانك التأكيد بأنَّ هذا الاستخدام اليومي يحمل نوعاً من التشبيه، الذي هو أحد أركان هذا التركيب الاستعاري. لكنك مع ذلك لن تظن أنك بهذا تحدث شعراً أو أدباً. أتدري لماذا؟. لأنك استخدمت كلاما كثر تداوله بين الناس. وكثرة التداول تذهب البهجة. ها هنا ينشأ الفرق بين ما هو أدبي وما هو يومي. إنه ينشأ من تأملك للفرق بين التشبيه الذي أتى به المتنبي، وبين التشبيه الذي يأتي به الناس كل يوم.

إذن فجمالية التشبيه تنشأ من انتقاله بنا من الشيء نفسه، إلى شبيهه المصور الذي يمثله، فيعيد خلقه لنا من جديد. وكلما كان هذا الانتقال بعيداً قليل الحضور بالبال، ممتزجا بالخيال، كان أكثر جمالية.

أما إذا أردنا استعارة لغة اللسانيين فبإمكاننا القول إنَّ التشبيه البلاغي هو نوع من الخطأ المقصود. إنَّنا نتعمد في الأدب أن نستخدم الكلمات فيما لا تستخدم فيه. بإمكاننا أن نقول إنَّ التشبيه الأدبي هو نوع من الانزياح (deviation) عن المألوف. يقول جان كوهن:

"والانزياح هو التعبير نفسه الذي يعطيه (شارل برونو) للواقعية الأسلوبية، آخذاً في ذلك عن قول ڤاليري. وهذا التعريف تبناه اليوم أغلب الاختصاصيين، وليس له في الواقع إلا دلالة سالبة: فتعريف الأسلوب باعتباره انزياحاً، ليس أن نقول ما هو، فالأسلوب هو كل ما ليس شائعاً ولا عادياً، ولا مطابقاً للمعيار العام المألوف. ويبقى مع ذلك أنَّ الأسلوب ـ كما مورس في الأدب ـ يحمل قيمة جمالية. إنَّه انزياح بالنسبة إلى معيار، أي أنَّه خطأ. ولكنه ـ كما يقول برونو أيضاً ـ خطأ مقصود"(20).

ثانياً/2: التشبيه بصفته وعياً طبيعياً:

أمر آخر نود الإشارة إليه، وهو أن التشبيه يجري مع الإنسان مجرى الحياة. فهو أحد نتاجات اتحاد الإنسان بالطبيعة من حوله. ونحن نعلم أنَّ التشبيه هو أول محاولات الإنسان لتمثيل ما هو واقع، عن طريق إقرانه بالموجودات من حوله. فالشجاع من الرجال كالأسد، والجميلة من النساء كالقمر... إلخ.

ها نحن أولاء الآن أمام الحقيقة التي تقول إنَّ الوعي التصوري أقدم من الوعي المنطقي. يقول غيورغي غاتشف:

"إنَّ الصلة الفنية بين الأشياء والأفكار، تتميز بطابعها المباشر: فهي مقارنة وتشبيه وتداعٍ؛ أي هي تقريب حر لا يتطلب براهين. وهي ـ بهذا المعنى ـ تقريب أكيد (بديهي)، يتحقق فوراً، بين موضوعين أو ظاهرتين في المجتمع أو الطبيعة... لم يكن لدى البشرية في عهودها الغابرة ـ وفي أوليات خروجها من الحالة الطبيعية شبه الحيوانية ـ ما هو أيسر وأكثر عفوية من التشبيه والمقارنة المباشرة... بهذا يكون الشكل التصوري المجازي للوعي أقدم من الشكل المنطقي... لذا كان أقدم تاريخ للوعي هو تاريخ الفكر المجازي (الفني) الذي ينطوي على ما للصورة من أسرار كثيرة طمستها مع الزمن تراكمات بالغة التعقيد. ها نحن أولاء عند بداية انفصال البشر عن الطبيعة. قبل ذلك كان التطابق بين الطرفين قائماً"(21).

إنَّ أهمية هذا النقل تنبع مما يقدمه لنا من وجود وعيين أحدهما تصوري والآخر منطقي. ولا شك أنَّ أهم ما تتناوله الحياة الأدبية هو الوعي التصوري، كونه يعيد الإنسان إلى مراحل الدهشة الأولى، قبل سيطرة المنطق الجامد على مقاليد الحياة.

ثالثاً: أحياز التشابيه ودلالتها:

ثالثاً/1: المرأة:

ثالثاًـ1/أ : صفات المرأة في الرواية:

لا بد أولاً من التشوير إلى صفات المرأة المختلفة في هذه الرواية، وذلك من أجل استحضار السياق العام الذي تتحرك فيه هذه التشابيه. فلقد اتخذت المرأة في هذه الرواية صفات متعددة على النحو التالي:

الممتعة، الخصوبة، السهلة، المعتدة، الشريرة، المغتنية، الشهوانية، اللعوب، الجامدة، الحالمة، المتنفذة، المغرية، العاملة، المتمرسة، العنيدة، المترفة، المتسلطة.

ثالثاًـ1/ب:  المقاطع السردية لتشابيه المرأة:

1: "تأملها مشدوها ؛ فقد كانت ممشوقة القوام، متهدلة الشعر، متوردة الخدين، يندفع صدرها أمامها كرشاش آخر"(ص21).

2: "ماتت غضة طرية مثل ريحانة أودى بها شتاء قاسٍ"(ص43).

3: "لطالما أغاظت هذه القامة الممشوقة كخيزرانة جاراتها، وجعلتهن يتلمظن غيظاً"(ص31).

4: "أم خليل كانت بيضاء، طويلة القامة، عريضة المنكبين مثل رجل، تتمنطق بمنديل قماش مطرز كحزام حول وسطها"(ص74).

5: "صارت تحزم وسطها بخيط يظهر خصرها كأضعف من دين المنافق، ويبرز صدرها مثل جنة محتاجة إلى جهاد مرير، وهى تقف له على الشباك"(ص74).

6: "شعرها الغزير المنسدل على كتفها حتى أسفل ظهرها، مثل غابة من ليل داكن السواد حول قمر خمري تزينه عينان واسعتان يختبئ فيهما الخائف، وأهداب مثل عريشة نخل وارفة فوق أنفٍ دقيق منساب كدموع الفقراء ومبسم صغير ذي شفتين متفجرتين مثل شهوة وعل، وأسنان كمحارات خارجة لتوها من البحر"(ص65).

7: "غفرة شمعة البيت وجميلة القرية.. هي دافئة في الفراش، وبنت رجال، تذبح وتقري وتكرم مثل رجل في غيابي"(ص108).

8: "وكان من الممكن أن يستحوذ الأقربون الأقوياء على مليحة، كتراث متملك لا يصلح لغيرهم"(ص110).

9: "كانت مليحة هناك دائماً، أمامه، تبرق في الأرض الخالية مثل قطرات الماء البكر فوق الأعشاب الصباحية"(ص143).

10: "أين السفيرة عزيزة من ابنة محمود خليل !.. بيضاء مثل قطعة جبن طازجة مثل قشدة دافئة، فوق إناء الحليب, ساعة الصباح.. ميادة مثل عيدان القصب التي زرعها محمد إبراهيم إلى جانب الوادي... ممدودة مثل عمود الجامع.. عالية المجتنى، مثل نخلة ساحقة، غزيرة الشعر مثل خيمة سوداء.. مملوءة الخدين، مثل رغيف خارج لتوه من الفرن واسعة العينين مثل كوكبين في ليالي الحصاد.. عامرة الصدر، مثل خابية القطين في بلاد الجبل.. أما عنقها.. اه يا عنقها!.. مثل عمود المرمر القائم بطرف القرية.. منذ أيام الرومان"(ص118).

11: "كانت خلود، في تلك الليلة، في أحسن حالاتها: عروساً في ثوب زفافها وكان الثلج يملأ المساحات وراء الزجاج.. لملت أطراف فستانها الأبيض، وهي تخطو ممشوقة، مثل رمح إفريقي، يلمع في عينيها الثلج"(ص198).

12: "كانت العروسة جالسة في الزاوية المظلمة، وقد توقفت عن الحركة والصراخ ولمعت عيناها كشمعتين، حين قالت يافا بأنها سوف تقذفه بالثلج"(ص198).

وقد بلغ عدد التشابيه المعقودة للمرأة، في هذه الرواية، من خلال المقاطع السردية السابقة، ثلاثين تشبيهاً، هي: خيزرانة، ريحانة، جنَّة محتاجة إلى جهاد مرير، غابة، قمر، عريشة نخل، محارات، شمعة، حورية، بحران، عيدان قصب، عمود الجامع، نخلة سامقة، كوكبان، عمود المرمر، قطرات ماء، شاش، رجل، حزام، أضعف من دين المنافق، كهف، دموع فقراء منسابة، شهوة وعل، تراث متمَلك، قطعة جبنة، قشدة دافئة، خيمة سوداء، رغيف، خابية قطين، رمح إفريقي.

المتأمل في جدول التشابيه السابق، يدرك تحولاً حاداً يصيب المرأة، متمثلاً في انتقالها من حالة القداسة المتجلية في عقد المشابهة بينها والماء والشجر والنبات، فهي: "قطرات ماء ,ريحانة، خيزرانة، غابة، عريشة نخل، عيدان قصب، نخلة سامقة", وبينها والبحر وما يتعلق به، فهي: "محارة وحورية وبحرين", وبينها والأماكن المقدسة، فهي: "عمود الجامع، عمود المرمر", وبينها والقمر والكواكب، إلى حالة الاندحار، الماثلة في هذه الخيمة السوداء، وكهف داخلها ويسكنها فقراء. أضحت المرأة فيها مقيدة "حزام"، ممتلكة "تراث ممتلك"، وظيفية: "شمعة، رغيف خبز، جبن، قشدة، خابية قطين"، إيروسية "شهوانية" يصيبها رجل منافق شهوته كوعل، ولا يستطيعان درك الجنة، لاحتياجها إلى جهاد مرير. وهذه الخيمة السوداء محاصرة برشاش آلة قتل حديثة، ورمح إفريقي: آلة قتل قديمة تبعث مشهداً تاريخياً مفجعاً(انظر: ص119 ــ 144).

يمكن القول بأنَّ هذا التحول، الذي أصاب المرأة، هو معادل موضوعي للانخلاع، الذي أصاب الفلسطيني، كاستحقاق دولي لنكبة 1948. وهو في ذات الوقت يتشاكل والصفات المفروزة للمرأة التي أشرنا إليها سابقاً.

ثالثاً/2: الرجل.

ثالثاًـ2/أ: صفات الرجل في الرواية:

تقدم الرواية الصفات الآتية: اللواط، الاحتقان، الخصوبة، الحمق.

ثالثاًـ2/ب: المقاطع السردية لتشابيه الرجل:

1: "نواف كان بدوياً أشقر، ولولا لهجته البدوية لما أمكن تصديق ذلك. أيام السلم كان فاكهة المجموعة،  وطعمها الحلو: يعزف على الربابة، ويصدح بالأشعار  ويروي الحكايات، ويلسع من حوله بلسان أحمر  كالدبور"(ص23).

2: "وعندما رآهن مستلقيات على ظهورهن يقضمن ويمضغن موحوحات هجم كإعصار جائح"(ص157).

3: "عندما بدأ الرشاش يحصد، تكركب الرجال من الخوف, على بعضهم البعض كالأواني"(ص24).

4: "وعندما أدركوا استحالة إدراك خالهم الهارب إلى الجية، من محاولة إكرام بربراوية، هتف كبيرهم وقد وضع يديه حول فمه كالبوق"(ص140).

5: "فجأة تحول الرجل المحبوب إلى قاسٍ متوحش، يقبض عليك بيدين كأنهما كلابتان من حديد، ويعري نصفك الأسفل، فاتحاً ما بين فخذيك"(ص42).

6: "ومن ذلك أن صاحب شاحنة رفض أن يقله، نظراً لأنه لا يملك الأجرة، وكان الناس في ذلك الزمان، كما لو كانوا صناديق بضاعة"(ص54).

7: "أي عبق ينبعث من ذلك البدوي الأسمر.. قصير القامة، رفيع البنية، ذو عينين غائرتين.. وفم صغير بشفتين رقيقتين كالتقاء سيفين على بوابة مغلقة لا تنفتح إلا لتخرج منها أعاصير الجنون"(ص84).

8: "ويداه النحيفتان !.. تلكما اليدان النحيفتان بأعصاب ممدودة مثل حبال من فولاذ... وجاءوا ليأخذوه، مد قامته كوتر، ولو نظر أحدهم في عينيه، إذن لأبصر في تلك اللحظة كهوفاً غائرة ودهاليز"(ص85).

9: "ونظر بعضهم إلى بعض شزراً، واحمر وجه الكبير حتى صارت أذناه مثل جمرتين طال النفخ فيهما"(ص139).

10: "وحيد أمه كان بين بنتين، وبعد أن ثكلت أباه في الاحتلال عام 1956.. مثل ذئب في فلاة"(ص84).

11: "والإنسان كذلك كما الزرع، يولد من طينة, ويكتسب لونه وتفوح من حديثه رائحته، وهؤلاء

لا يشبهون هذا الطين في شيء: ملامحهم باردة كما الثلج الذي نبتوا منه"(ص86).

12: "لو عاش أبي لدرست فيها ولكنت الآن أفك الخط وأوقع على الأوراق الرسمية. بدلاً من هذه البصمة أطبعها على الورق كما الحافر"(ص86).

13: "رمته الأقدار في طريقها. فاصطادته، وابتلع الطعم الذي كان قادراً على أن يحوله, في لحظة، إلي لهب أزرق كشيطان"(ص115).

14: "وهذا أبو زيد بسواده الفاقع، وشاربيه المشرئبين كسيفين قصيرين، يمتشق سيفه ويهلك أعداءه"(ص117).

15: "ولئن كانت المرأة البيضاء هي المرغوبة في الجيٌة، فإن الرجل لا يعيبه شيء ولو كان أسود كالغراب"(ص117).

16: "لهجت إلى الله بالدعاء ـ ودعوة الشريفة مستجابة، لأنها من بيت النبوة ـ أن يرزقها غلاماً كهذا الطير. فجاء أبو زيد كالصقر لوناً وانقضاضاً"(ص118).

17: "لمح شجرة رمان.. صار قلبه كالطبل وغامت عيناه.. توقف قليلاً يستجمع أنفاسه المتفرقة"(ص88).

18: "الدولة التي هزمت أربع عشرة دولة عربية تحكم الحصار على رجل نحيف أسمر, مستدلة عليه وسط الظلام بعينيه اللتين كانتا في تلك اللحظات مصباحين من نار"(ص85).

لقد بلغ عدد التشابيه المعقودة للرجل في هذه الرواية ـ من خلال المقاطع السردية السابقة ـ تسعة عشر تشبيهاً هي: ثلج، زرع، طير، صقر، غراب، دبور، ذئب، حافر، شيطان، إعصار، براغيث، أواني، صناديق، سيوف، حبال، مصابيح، وتر، طبل، جمر، بوق، لهب، كهوف، دهاليز، كلابتان.

المُدْرَك لنا ـ بتأمل هذه التشابيه ـ أنَّها، في المجموعة الأولى، تشير إلى حياة، يظهر فيها النبات والحيوان والطير والحشرات، بفعل مصدر الجعل الثلج "الماء"؛ ولا يظهر فيها العنصر البشري، ويتحرك فيها الشيطان. وهذه الحياة متحققة، على ما يبدو، في قرية "الجيَّة" التي هُجّرَ منها والد صابر. وتشابيه هذه المجموعة منسجمة، فيما عدا الشيطان الرامز إلى الإغواء، الذي كان في هذا التحول إلى الحياة الفاقعة، في المجموعة الثانية المتجلية في المخيم. وهي حياة لا تظهر إلا أدواتها.

واللافت للنظر في تشابيه هاتين المجموعتين غياب العنصر البشري. والغياب عن الحياة الأولى "الجيَّة" تمَ بإغراء الشيطان، وما تبعه من طرد ممتص من القرآن الكريم. وأما الغياب عن الثانية "المخيم" فمرده, كما يبدو، إلى الخسف الناتج عن الصفات المعقودة للرجل، والتي أشير إليها، وهي: " اللواطية، الاحتقان، الخصوبة، الحمق". وهو ممتص أيضاً من القرآن الكريم.

ثالثاً/3: الشيوخ العميان.

ثالثاًـ3/أ: صفات الشيوخ العميان في الرواية:

اتخذ هؤلاء الشيوخ العميان صفات متنوعة في هذه الرواية، وذلك على النحو التالي: المتسول، الشيطان الرجيم، الفاجر، الملقن، الصالح، المجاهر بالإثم، المرتزق بالقرآن، الساذج، شيخ السلاطين، شيخ لغير السلاطين.


 ثالثاًـ3/ب: المقاطع السردية لتشابيه الشيوخ العميان:

1: "وبغضب شديد، تناولت يد الشيخ سيفاً  مثل لمع البرق، وطعن به أحد الحاضرين  بحيث خرج النصل من خاصرته أمام الجميع"(ص55).

2: "هو شاب  في مقتبل العمر، قوي البنية، طويل القامة ممدودها، أبيض الوجه تخالطه حمرة، وتضج منه العافية، حليق الذقن، مهذب الشارب، يافع كريحانة مرفوع الصدر كرياضي محترف"(ص59).

3: "ومشى يتحسس الطريق.. ثم، وبحركة سريعة في مثل لمح البصر، كان العكاز يهوي على دمي الفتي جميل"(ص61).

4: " كان العميان من المتسولين هم أشد الناس بنية،  وأكثرهم شراسة وشراً، فإضافة إلى أجسامهم  الملفوفة مثل جذوع ضخمة، كانوا يملكون سواعد قصيرة مثل الأوتاد تنتهي بأكف غليظة ذوات أصابع كالكلاليب"(ص61).

5: "وخلال انشغال كل امرأة بجرجرة شعر جارتها كان الاهتياج قد بلغ بالشيخ رشدي أشده، حتى تحول إلى قلعة نار"(ص62).

6: "ومن يستطع أن يخلص رقبة من يدي أعمى محمر العينين !... قبض عليها قفل محكم"(ص62).

7: "غير أن أبو الأسد كان بالمرصاد: هجم عليهم بذراعيه المفتولتين كجذعي شجرة، وأخذ يطيح بهم ذات اليمين وذات الشمال"(ص180).

8: "وابتعد حسب الله إلى الجانب الآخر من المردوان، فيما وراء الخيام، حتى لا يشاهده الشيخ دياب، قريباً من صابر، فيحقد عليه، وقهقه صابر عالياً، وهو يري حسب الله مذعوراً كالعصفور"(ص183).

9: "لقد أصبح بإمكان حسب الله، في نهاية المطاف، أن يمشي ممتشقاً قامة مخروطية كما سروة جافة ذات رأس صغير"(ص216).

10: "رغم أنني أظهر أمام الأخوة نفسي كأسد شجاع، إلا أنني أعترف الآن أمام نفسي، بأنني لست كذلك"(ص220).

11: "طاف بخياله، متصوراً جهاد الحطيم بلحيته المدببة الكثة. المفتقرة إلى التشذيب مثل تيس أرمل لا ينقصه إلا أن يطلق سالفيه ليصبح حاخاماً بجدائل"(ص229).

12: "ثم كيف اشتد به الحمق حتى نصَّب من نفسه حارساً يمنع المارين، بحجة أنهم يطأون مصطبته، وكأنه الشيطان الواقف للناس في طريق الهدى"(ص229).

13: "كانت العروسة جالسة في الزاوية المظلمة، وقد توقفت عن الحركة والصراخ ولمعت عيناها كشمعتين، حين قالت يافا بأنها سوف تقذفه بالثلج"(ص198).

وينعقد للشيوخ العميان في هذه الرواية ـ من خلال المقاطع السابقة ـ ستة عشر تشبيهاً، هي: لمع البرق، قلعة، ريحانة، عصفور، شمعتان، أسد، رياضي محترف، الصاعقة، جذوع ضخمة، أوتاد، كلاليب، قفل محكم، جدعي شجرة، سروة جافة، تيس أرمل، شيطان.

هذه التشابيه الواردة تكشف تحولاَ كبيراً يصيب الشيوخ العميان، ويمكن تجلية ذلك في المقابلات الآتية:

القلعة مقابل أوتاد،

العلوي مقابل الأرضي.

الأسد مقابل تيس أرمل.

وردة، ريحانة، مقابل سروة جافة.

اللين، الطيب مقابل اليبس والنضب.

عصفور مقابل كلاليب.

الانفتاح مقابل الانغلاق.

نار مقابل شيطان.

الهداية مقابل الغواية.

لمع البرق، الصاعقة، رياضي محترف مقابل جذوع ضخمة، جذعي شجرة.

الحركة مقابل الجمود.

وليس هنالك حرج من العودة إلى الرواية لتبرير هذا التحول. يقول الكاتب الضمني في المقطع السردي التالي: "فأي مهمة يصلح لها الأعمى، في مجتمع المخيم إلا قراءة القرآن؟!.. إن لم يكن للأعمى أي أمل بالقيام بأي مهمة أخرى ـ كما يفكر الأهل ـ فإنَّ له مهمة لا تصلح إلا له, ولا يصلح إلا لها: قراءة القرآن على المقابر, وضرب الطريق بالعكاز، وتصور النساء في أوضاع مشينة. لهذا كان على كل أعمى أن يُرَسَّم شيخاً، حتى لو كان شيطاناً رجيماً(انظر: ص58 ــ 59).

ثالثاً/4: المكان:

ثالثاًـ4/أ: دلالات المكان:

 إنَّ اختيار المكان في حد ذاته يحقق عدداً من الغايات الفنية والفكرية يقع في مقدمتها قدرة المكان على عكس جملة من المشاعر الإنسانية والحالات النفسية والمواقف الاجتماعية التي "تضفي عليه جملة من السمات والأبعاد الجمالية والإضافية التي تخرجه من حياديته واعتباره مجرد كتلة فراغية مكونة من أحجار وملاط و أخشاب وأثاث"(22).

وإذا كان اختيار المكان يحقق مثل هذه الغايات، فإنَّ التحويل الذي يجري فيه عن طريق التشابيه، يحقق ما هو أبعد من هذه الغايات، وذلك عندما تكون غير ممثلة للمكان المقيس، بل المكان النفسي(23).

ثالثاًـ4/ب: مقاطع سردية للمكان:

1: "لم تكن غزة في ذلك الوقت، قد وصلت إلى البحر: فقد كان يفصلها عنه سوافي رمل ناعمة تتدرج فوقها خطوط متموجة سوداء، كرماد متخلف من نار ذرّته الرياح"(ص11).

2: "خيام متجاورة ومزدحمة، على قطعة صغيرة من الأرض المزدحمة بالذئاب والفضلات مثل بقايا جيش مهزوم، تحت السماء مباشرة في الحر والقرّ والجوع"(ص12).

3: "وكان خلال مراحل التشكيل المتعددة حريصاً على جمع أبناء كل قرية في حارة واحدة،. ككتلة متجانسة! فهذا بلوك المجادلة، وذلك بلوك البرابرة..."(ص16).

4: "نخل كانت في الليل باردة مثل سوط يجلد ظهوراً عارية لرجال يصبحون متخشبين، يلعنون الحياة والغربة والليل"(ص20).

5: "أما البرش فقد كان رقيقاً، مفلطحاً، مثل سجادة جلدية سميكة"(ص75).

6: "كان المشطاح يتكون من أربع قطع خشبية بصورة متوازية مثل سكتي قطار وفيه ألواح خشبية رقيقة مثبتة بالمسامير على وجهي السكتين كليهما بحيث يصبح المشطاح مثل شطيرة حشوتها الخشبات الأربع المتباعدة"(ص76).

7: "وصار المناضلون عائمين على أبراش تجري من تحتها الأنهار"(ص77).

8: "وليس أدل على شرهم من تلك الأطواق التي يضعونها على الأرض، مثل أفاع ساكنة تنتظر أن تقع عليها"(ص172).

10: "ولكن إلى متى؟!.. الأرض لامعة مصقولة مثل مرآة سوداء.. ثعابين النقب الآن في جحورها ترتعد من البرد"(ص227).

وقد انعقد للمكان في هذه الرواية ـ من خلال المقاطع السردية السابقة ـ اثنا عشر تشبيهاً هي:

السوافي تشبه الرماد.

والخيام تشبه بقايا جيش مهزوم.

والحارات تشبه كتلاً متماسكة.

والنخل يشبه سوطاً يجلد.

والبرش يشبه سجادة جلدية.

والمشطاح يشبه شطيرة.

ويشبه سكتي قطار.

والأبراش تشبه جنة تجري من تحتها الأنهار.

والأطواق تشبه أفاعيَ ساكنة.

والأرض تسبه مرآة سمراء.

مما سبق يتضح أنَّ المكان: "السوافي" تصيبه محرقة حقيقية، توغل في حيز جديد هو "فلسطين" وتطال كائنات بشرية جديدة هي "الفلسطينيين". وهذه المحرقة تنهك الأرض وما عليها، فتحولها رماداً ينتج، بمشقة بالغة، انبعاثاً هزيلاً منحسراً مقيداً، يوفر مكاناً ضيقاً، مرآة سوداء، تتسع لبقايا جيش مهزوم، وكتل متماسكة من المهاجرين الفلسطينيين، تختزل كل المدن والقرى والمضارب التي أصابتها المحرقة، وتُلْهِبُ ظهورهم سياط، ويفترشون سجاداً جلدياً يحسبونه جنات تجري من تحتها الأنهار, وسكتي قطار لا يسير عليها قطار، وفي أياديهم شطائر، وتحوطهم أفاعٍ سامة.

ثالثاً/5: متفرقات:

وهذه المتفرقات منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي.

ثالثاًـ5/أ: المقاطع السردية لتشابيه المتفرقات:

1: "فلأمت مثل كلب، ولا تقبلني أرض، ولا تبكي عليّ سماء، إن أنا نسيت حديدة أو زاوية أو شجرة أو قبضة طين"(ص27).

2: "والهلع في الصحراء معروف: إنه رغبة مثل النار تزداد اضطراما كلما ألقمتها الحطب"(ص25).

3: "فمن أين جيئ بهذا العم؟!. وهل ينبت الأعمام هكذا مثل نبت صحراوي في سافية!"(ص41).

4: "ثم يعود إلى أمه آخر النهار, متسخ الثياب، مسود الأسنان، ممتلئ بالجروح، فلا تنهاه عن العود، راغبة في أن ينشأ ابنها طبيعياً قوياً، مثل تلك الأشجار"(ص40).

5: "يعرف مكانه وإن ردم.. يعرف الحصى: حصاة حصاة، كما يعرف أنفاسه ودقات قلبه"(ص87).

6: "إنني أعرف الأمكنة والحدود والعلامات، كما أعرف كف يدي، وطعم لساني.. يا سلام!"(ص88).

7: "ولا ترفع رأسها عن ذراعها فوق الأرض، ولو كان المتحدث بدوياً، إذا لهبت فزعة من نوم  بدوي يشبه العورة"(ص103).

8: "أنجب منها بنتين، ثم امتنعت منه، تاركة إياه يعاني مثل شجرة نتش"(ص158).

9: "كنا ثلاثة أو أربعة نمسح الباطية مسح. وننام بعدها زى الحيطان الواقعة"(ص206).

10: "يكبت نفس الاعتراف، لأشخاص آخرين، متمترساً خلف صمته مثل قبر"(ص207).

11: "أف.. صحراء قاحلة وجيش ولعنة الله.. اليوم بسنة.. والحياة دون امرأة تشبه الحطب"(ص231).

12: "كانت أيام زى قرش الصوان.. بس كنا في بلادنا"(ص132).

13: "وإذ اكتشف المعلم ضعف أسلوبه في التحقيق، فقد لجأ إلى الحيلة ؛ فقد قال وقد تحول إلى الرقة فجأة حتى أصبح صوته هامساً كالفحيح"(ص36).

14: "رقَّ صوت غسان، مثل ربابة راع صحراوي وهطلت دموع الصحراء"(ص167).

15: "الدنيا ماء.. والخيام منسدلة أطرافها تقطر الماء.. نسيم بارد يهز أعمدة الخيام وأصوات تشبه مفاصل عظام تتكسر"(ص227).

16: "وتغطي عينيه غشاوة سوداء، كستارة من ليل لا يري من وراءه شيئاً"(ص37).

17: "وبعد لحظات عاد الصوت: نواحاً متطاولاً ممدوداً كأنه ينبعث من قعر الجحيم"(ص70).

18: "تلمس الزاوية بحنان بالغ.. احتضنها كما يحتضن قلبه"(ص90).

19: "كان الوادي يسيل متباطئا يراقب ما يحدث بصمت، وصار خرير الماء الآن حزيناً مثل بكاء مجنون"(ص150).

20: "في كل مرة يمس بكهربائه هاتين القدمين الموحلتين، كان يمس بالرعشة في أوصاله، مثل اختلاجة ذبيح أخيرة"(ص151).

21: "فظهر ثريد العدس؛ أصفر ممتقع الوجه كوجه المنافق عند انكشافه، وفوقه فحول البصل، حمراء فادحة مثل خطبة الحرب"(ص139).

ويمكن تصنيف هذه التشابيه وفق الصورة التالية:

1: معنويات:

حيث:

الهلع = سوط يجلد.

الموت = موت كلاب.

الرغبة = نار

النمو = نمو نبات صحراوي.

النشأة = نشأة الأشجار.

المعرفة = معرفة الكف وطعم اللسان.

المعرفة = معرفة الأنفاس ودقات القلب.

النوم = عورة.

المعاناة = معاناة شجر النتش.

النوم = نوم حيطان واقعة

الصمت = صمت قبر.

الحياة = حطبة.

الأيام = قَرش الصوان.

2: حسيات:

الصوت = فحيح، ربابة.

غشاوة = ستارة.

نواح = صوت من قعر الجحيم.

احتضان التين = احتضان القلب.

خرير الماء = بكاء مخنوق.

ارتعاد = ارتعاد عشبة.

أصوات = مفاصل تتكسر.

اختلاج = اختلاجة ذبيح.

ثريد العدس = أصفر.

فحول البصل = خطبة الحرب.

الصورة الكلية السابقة تعكس بداية متجلية في النشأة والنمو: نشأة الأشجار ونمو النبات الصحراوي. وهذه البداية متحققة في قرية "الجيَّة". كما يعكس نهاية تمثلت في تحطب الحياة جراء تهجير الإنسان الفلسطيني من أرضه، وهذا التحطب يعني غياب مقومات الحياة الإنسانية، الغياب الذي أفرز سياقاً عاماً مفرداته أو نثرياته: الصمت، السياط، القمع، البكاء، النار، الخوف، القلق، النفاق، المشقة، الدمار، القتل، الكذب... إلخ يتحرك فيه والد صابر المحتضن لتينته كما قلبه، والعالم بالحصى كما لسانه وأنفاسه ودقات قلبه.

الخاتمة:

تناولت هذه المقاربة التشبيه السردي في رواية: " اقتلوني ومالكاً" للدكتور خضر محجز، وفي مقدمة البحث أشار الباحث إلى أهمية دراسة الشكل، بما يعنيه ذلك من أهمية المنهج البنيوي في الدراسات السردية. كما اهتم الباحث بتجلية الظَّنَّ الخاطئ الماثل في قصر التشبيه على المدون الشعري فقط، وإلى إحجام الدارسين ـ من ثم ـ عن دراسة التشبيه السردي، موضحاً مبرراتهم في ذلك. وأوضح كذلك أهمية هذه الدراسة ومنهجها، وأسباب اختيار كل من المنهج والموضوع.

وقد جاءت هذه الدراسة في ثلاثة محاور رغبة في تحقيق الهدف المنشود، القاضي بضرورة الكشف عن دلالات التشبيه السردي وأبعاده. حيث دار المحور الأول حول مفهوم التشبيه، فيما تناول المحور الثاني أهمية التشبيه، الذي بين فيه الباحث ماهية التشبيه وارتكاز هذه الماهية على بنية التحول. أما في المحور الثالث فتعرض لأحياز التشابيه ودلالاتها: في المرأة والرجل والمشايخ العميان، وصولاً إلى المكان والمتفرقات.

وبعد هذه الدراسة توصل الباحث إلى نتائج عدة يقف في مقدمتها:

1.إنَّ التحول الذي أصاب المرأة عبر التشابيه السردية هو معادل موضوعي للانخلاع الرهيب للفلسطيني من أرضه إثر نكبة عام 1948.

2.إنَّ الاندحار الذي طال الرجل من خلال هذه التشابيه السردية يحاكى الطرد لأدم عليه السلام من الجنة والخسف الذي تعرض له قوم نوح عليه السلام.

3.إنَّ التحول الذي طال المشايخ العميان هو نتاج للبيئة الجديدة التي فرضت على الإنسان الفلسطيني بعد هجرة 1948م.

4.المحرقة الحقيقية هي التي نالت من الشعب الفلسطيني المهجر، وهي محرقة أعادت صياغة الجغرافيا وتوزيع السكان.

5.إنَّ الخروج من الوطن يعني التحطب أي الموت، وهذا الموت عريض قد نال حظه من كل الموجودات.

التوصيات:

بناء على ما سبق، يوصي الباحث بما يلي:

1.عقد مقاربات للإنتاج الروائي للدكتور خضر محجز، وهذا الإنتاج هو: (اقتلوني ومالكاً، قفص لكل الطيور، عين إسفينه).

2.مقاربة بعض الظواهر اللافتة في هذه الراويات، مثل: لغة السرد، لغة الحوار، وظاهرة الاعتراض و الإطناب والهوامش، وافتتاحية فصول الروايات.

3.دراسة الأبعاد الفكرية والفنية والثقافية للمكان في هذه الروايات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:

*خضر محجز. اقتلوني ومالكاً (رواية). ط1. سلسلة الإبداع الأدبي. وزارة الثقافة. غزة. 1988

1ـ انظر: رومان ياكوبسون. قضايا الشعرية. ترجمة محمد الولي ومبارك حنون. ط1. دار توبقال للنشر. سلسلة المعرفة الأدبية. الدار البيضاء. 1988. ص24

2ـ يمنى العيد. تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي. ط2. بيروت. دار الفارابي. 1999. ص25

3ـ يمنى العيد. تقنيات السرد الروائي. مرجع سابق. ص17 ــ 18

4ـ الجاحظ. الحيوان. تحقيق عبد السلام محمد هارون. ط3. بيروت. 1969. ج3. ص132

5ـ عز الدين إسماعيل. الشعر العربي المعاصر. ط6. دار الفكر العربي. القاهرة. 2003. ص132

6ـ انظر: أحمد فرشوخ. جماليات النص الروائي. ط 1 . دار الأمان. الرباط. المغرب. 1996. ص11

7ـ ابن منظور. لسان العرب. دار صادر للطباعة والنشر. بيروت. 1956. مادة: شبه. 

8ـ ابن رشيق. العمدة. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. ط1. مطبعة السعادة. 1995.  ص256

9ـ أبو هلال العسكري. الصناعتين. تحقيق محمد على البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم. ط1. الحلبي الثانية. د. ت. ص239

10ـ الخطيب القزويني. الإيضاح في علوم القرآن. شرح وتعليق وتنقيح محمد عبد المنعم خفاجي. دار الجبل. بيروت. مجلد1 . ط3. 1993. ص473    

11ـ التنوخي. الأقصى القريب. مطبعة السعادة بمصر. القاهرة. د. ت. ص41

12ـ عبد القاهر الجرجاني. أسرار البلاغة. تحقيق محمد رشيد رضا. 1954. ص78 ـ 79      

13ـ الطوفي الصَّرصري. الإكسير في علم التفسير. تحقيق عبد القادر حسين. مكتبة الآداب. 1977. ص123

14ـ الرماني. النكت في إعجاز القرآن. (ضمن كتاب بعنوان: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن). تحقيق محمد خلف أحمد، ومحمد زغلول سلام. دار المعارف. القاهرة. 1968. ص25

15ـ عبد القاهر الجرجاني. أسرار البلاغة. مرجع سابق. ص298

16ـ ابن وهب. البرهان في وجوه البيان. تحقيق وتقديم حفني محمد شرف. مكتبة الشباب. القاهرة. 1969. ص145

17ـ انظر: روز غريب. تمهيد في النقد الحديث. ط1. دار المكشوف. بيروت.1971. ص125

18ـ انظر: الأصمعي. الأصمعيات. تحقيق أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون. دار المعارف. القاهرة. 1955. ص178 وانظر كذلك: المفضل الضبي. المفضليات. تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون. طبعة دار المعارف السابقة. القاهرة. د. ت. ص44 وانظر أيضاً: شوقي ضيف. دراسات في الشعر العربي المعاصر. ط2. دار المعارف بمصر. مكتبة الدراسات الأدبية. القاهرة. 1959. ص239

19ـ انظر: عيسى الناعوري. أدب المهجر. ط2. دار المعارف بمصر. مكتبة الدراسات الأدبية. القاهرة. 1967. ص129

20ـ جان كوهن. بنية اللغة الشعرية. ترجمة محمد الولي ومحمد العمري. ط1. دار توبقال للنشر. سلسلة المعرفة الأدبية. الدار البيضاء. 1986.  ص15

21ـ غيورغي غاتشف. الوعي والفن. ترجمة محمد الولي ومبارك حنون. ط1. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء. 1988. ص13 ــ 14

22ـ صلاح صالح. قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر. ط1. دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة. 1997. ص55

23ـ انظر: عز الدين إسماعيل. الشعر العربي المعاصر. مرجع سابق. ص137