• تاريخ
  • 5273 قراءة
  • 19:01 - 01 نوفمبر, 2016

الحسين بن علي في كربلاء

 سطور من سيرة سيد الشهداء في يومه الأخير

 

 

لا شك أن معدن الحسين يختلف عن معدن أخيه الحسن ــ عليهما السلام ــ فقد رأيناه يعارض محادثات الصلح بينه وبين معاوية، معارضةً بلغت بأخيه أن يقول له: "لقد هممت أن أسجنك في بيت، وأطبق عليك بابه، حتى أفرغ من هذا الشأن ثم أخرجك"(1). 

ورغم أن كليهما كان ينطلق من نظرية آل البيت القائلة بأحقيتهم بالخلافة، إلا أننا رأينا الحسين ــ من دون أخيه ــ يلهج بهذه النظرية منذ طفولته، حين صعد المنبر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: "انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك". فقال الفاروق للطفل ملاطفاً: "إن أبي لم يكن له منبر". ثم أجلسه معه. فلما نزل سأله: "أي بنيّ، من علّمك هذا؟". فقال الحسين: "ما علمنيه أحد". فقال الفاروق: "أي بنيّ، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا الله ثم أنتم!"(2). 

من هنا فقد علم الجميع أن الحسين لن يبايع يزيد بن معاوية، مهما كان ثمن ذلك، خصوصاً وقد استعصم بالرفض طوال حياة أبيه، مع ألم قاهر لا يزال يقض مضجعه، ويلهب ضميره، من جراء الحادثة التالية التي يرويها ابن الأثير: 

كان عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، يرفضون أن يبايعوا ليزيد في حياة معاوية. وقد ظلوا مستعصمين بذلك. فلما حضر معاوية إلى الحجاز في بعض المواسم، قابلهم بمكة وحثهم على البيعة ليزيد، لكنهم أبوا عليه ذلك، قال لهم: "إني قد أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر. إني كنت أخطب فيكم، فيقوم إليّ القائمُ منكم، فيكذبني علي رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائمٌ بمقالةٍ، فأقسم بالله لئن ردَّ عليَّ أحدُكم كلمة، في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمةٌ غيرها، حتى يسبقها السيفُ إلي رأسه. فلا يُبقين رجلٌ إلا علي نفسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم، فقال: أقم علي رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد سيفٌ؛ فإن ذهب رجل منهم يرد عليَّ كلمةً ــ بتصديقِ أو تكذيبٍ ــ فليضرباه بسيفيهما. ثم خرج وخرجوا معه، حتى رقي المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يُبتَزّ أمرٌ دونهم، ولا يُقضى إلا عن مشورتهم. وإنهم رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا علي اسم الله. فبايع الناس"(3). 

فإن صحت هذه الحادثة، فهي بيان آخر على أنهم لم يبايعوا، وعلى أن ما فعله معاوية بهم إن هو إلا خديعة مقرونة بالتهديد. وإذا كان عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس قد بايعا ليزيد، بعد ضغط الأمويين عليهما، فإنما فعلا ذلك بعد موت معاوية فقط. أما إذا كان ابن عمر يرى في هذه الحادثة دليلاً على أن الحسين قد بايع، فأباح لنفسه أن ينهاه عن نكث بيعته، فلعمري لقد أخطأ، لأن الحسين كان قد اتخذ من هذه الحادثة دليلاً إضافياً، على ضرورة مواجهة القوة بالقوة(4). 

فلما مات معاوية، لم يكن أحد من أهل التقى، يرى في أرستقراطية آل عبد مناف، إلا أفضلها وأخبثها: الحسين ويزيد. وإن شئت فتأمل الرواية التالية التي ينقلها الذهبي المحقق الموثوق: "بينما عمرو بن العاص في ظل الكعبة، إذ رأى الحسين، فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم"(5). 

ولعمري لقد أفك من طلب من أحب أهل الأرض إلى أهل السماء، أن يولي المسلمينَ أخبث فاسقيها. لكن ذلك الإفك كان لا بد له من أن يكون، لكي تملي الدنيا شروطها، بعد عهد طويل من انتصارها على الآخرة، في صفين ودومة الجندل: فلقد رأينا من بعد كيف صار العلماء لا يشجبون كل دعوة للثورة على الظلم فحسب، بل صاروا يمتنعون عن مجرد ذكر آل البيت بخير. فقد رأينا رجالاً كالأوزاعي والزهري، يتخوفان من بني أمية ــ أو يرغبان بما لديهما ــ فيكتمان فضائل آل البيت. فذلك حكم الدنيا، الذي صار يقال له حكم الدين(6). 

إذن فقد قضى قانون الدنيا أن يطلب يزيدُ من واليه على المدينة المنورة، الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، أن يجبر الحسين على البيعة. وكان مروان بن الحكم ــ الذي ستصنع له قوانين الدنيا صحبةً، وتسميه شيخ قريش(7) ــ قد نصح ابن عمه التقي، بأن يخير الحسين بين الموت والبيعة. فلما عصاه الوليدُ وترك الحسين يرحل دون ذلك، وبخه مروان، فرد عليه: "وبخ غيرك يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه، من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسيناً. سبحان الله!. أقتل حسيناً أن قال لا أبايع!. والله إني لأظن امرأ يُحاسب بدم حسين، لخفيفُ الميزان عند الله يوم القيامة"(8). 

رحل الحسين إلى مكة، ليجنب واليها إلحاحاً يحرج الطرفين. وهناك في مكة بدأ يراجع نفسه في أي الخيارات يختار. وعلم أهل الكوفة بذلك فأرسلوا وفدهم إليه، يدعونه إلى قبول بيعتهم والخروج إليهم، وقالوا: إنا قد حَبَسْنَا أنفسنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضر جمعة ولا جماعة بسببك"(9). 

قلنا إن الحسين قد اختار الثورة، لأنه يراها واجباً دينياً محضاً. ولكي ندلل على ذلك، ها نحن نسوق الرواية الآتية: 

أرسل مروان بن الحكم من المدينة إِلَى معاوية ينصحه بأن يحذر نوايا الحسين بالثورة. فَكَتَبَ إِلَى الحُسَيْنِ يقول: "إِنَّ مَنْ أَعْطَى اللهَ صَفْقَةَ يَمِينِهِ وَعَهْدَهُ، لَجَدِيرٌ أَنْ يَفِي. وَقَدْ أُنْبِئتُ بِأَنَّ قَوْماً مِنَ الكُوْفَةِ دَعَوْكَ إِلَى الشِّقَاقِ، وَهُمْ مَنْ قَدْ جَرَّبتَ، قَدْ أَفْسَدُوا عَلَى أَبِيْكَ وَأَخِيْكَ، فَاتَّقِ اللهَ، وَاذْكُرِ المِيْثَاقَ، فَإِنَّكَ مَتَى تَكِدْنِي، أَكِدْكَ. فرد عليه الحسين يقول: أَتَانِي كِتَابُكَ، وَأَنَا بِغَيْرِ الَّذِي بَلَغَكَ جَدِيرٌ، وَمَا أَرَدْتُ لَكَ مُحَارَبَةً وَلاَ خِلاَفاً، وَمَا أَظُنُّ لِي عُذْراً عِنْدَ اللهِ فِي تَرْكِ جِهَادِكِ، وَمَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَعْظَمَ مِنْ وَلاَيَتِكَ. فقال معاوية لمن حوله: إن أثرنا بأبي عبد الله إلا أسداً"(10). 

فإذا كان الحسين يرى نفسه مقصراً في ترك جهاد معاوية، الذي كان قد سبق أن بايعه، فلا شك أن هذا الشعور سيتنامى، حين سيتولى الخلافة يزيد، الذي انطوت قلوب أهل الحجاز على مقته. لذا فإنني أرجح بأن الحسين قد شعر، في هذه اللحظة الفارقة، بأنه لم يعد ثمة أحد في العالم، منوط به أن يُقيم شهادة آل بيت النبي، على التاريخ، سواه. وإلا فدعونا نتصور كم كان سيكون صعباً علينا، اليوم، أن ندعو إلى الثورة على الطغاة، لو لم تتواصل ثورات آل البيت عليهم!. بل إنه لا يزال صعباً حتى اليوم، وبرغم كل هذا الدم الشريف المهراق، أن نثبت خطيئة تصوير بعض الناس للإسلام، ديناً يحرض معتنقيه على الاستخذاء للظلم، بحجة درء الفتنة. وإن شئت فتذكر نهي ابن عمر للحسين ــ الذي أوردناه آنفاً ــ أن يشق عصا الطاعة؛ ثم انظر أثر هذا النهي من ابن عمر في وعي إمام كالأوزاعي، يشجب فتاوى أبي حنيفة الثورية، قائلاً: "احتملنا أبا حنيفة على كل شيء، حتى جاءنا بالسيف"(11). 

لقد نصح الناصحون الحسينَ بعدم الخروج. لكن كل النصائح لم تكن لتجدي مع من لا يزال يحدث نفسه بالثورة، منذ تسميم أخيه؛ فيما هو الآن يرى من جده العظيم صلى الله عليه وسلم في الرؤيا، ما يشجعه على ذلك. فإذا انضاف إلى ذلك خشيته من أن يقول الناس إن آل الرسول قد سنوا للناس سنة القبول بالظلم؛ مستشهدين بصمته يوم بيعة مكة، لعلمنا أهم دوافعه(12). 

ومن جهة أخرى يمكن القول بأن الحسين كان يرى، بأن قتله مسألة وقت: فبنو أمية يتربصون به القتل، والصحابة كلهم باستثنائه وابن الزبير قد بايعوا؛ لذا فلم يعد لديه من خيار، سوى أن يجبر نفسه على تصديق أهل العراق. وقد يصدق الكذوب(13). 

قلنا: يجبر نفسه على تصديق أهل العراق، لأنه يعلم صحة نصيحة من نصحوه، بألا يأمن لقوم غدروا بأبيه وأخيه، من قبل، فأجاب بعضهم بأنه يفضل القتل خارج مكة، حتى لا يستحلها بنو أمية(14). فلما أكره الجبرُ المجبورَ على تصديقه، حسم الحسين أمره وسافر إلى العراق، كراهية أن يقوده صبيان بني أمية من عنقه إلى ما يفضل عليه الموت. ولا أقول: ليته لم يسافر. فلو لم يسافر، لما علمنا أن قتال الظالمين واجب، على كل حال(15). 

ومثل أي ثائر، رأى الحسين أن يستوثق من نوايا العراقيين، فأرسل إليهم رسولاً، ريثما يجهز متاعه ويلحق به إن كان ما يقوله العراقيون صحيحاً. فكان رسوله مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وترك له تقدير الموقف. وليت حسيناً وجد أنسب من مسلم بن عقيل(16). 

فلما وصل مسلم إلى الكوفة مع وفدها، رحب به أهلها وبايعوه. وقد بلغ من شعبية هذه البيعة أن عبيد الله بن زياد، حين أقبل من البصرة ملثماً، متولياً عليها مكان النعمان بن بشير ــ الصحابي الذي قدر يزيد أنه سيرفض قتال الحسين ــ كان لا يمر على جماعة من أهلها إلا وظنوه الحسين، فسلموا عليه قائلين: "مرحباً يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم"(17). 

وكان يزيد بن معاوية حين علم بنيّة الحسين، عليه السلام، الخروج؛ كتب إلى واليه على البصرة، عبيد الله بن زياد، يجمع إليها الكوفة تحت إمرته، فذكره بأصله الرديء، كما ذكره بعبوديته الأصيلة، المنحدرة إليه من أبيه وأمه وجدته، وخيره بين حريته ونسبه المدعى، وبين العودة إلى العبودية؛ ثم أمره بقتال الحسين، فقال: "إن حسيناً صائرٌ إلى الكوفة. وقد ابتُلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وأنت من بين العمال، وعندها تُعتَق أو تعود عبداً"(18). 

وهكذا تصدى لآل رسول الله، أرذل مخلوقات الله. 

إذن فقد سار مسلم بن عقيل إلى الكوفة، ليجمع الأنصار ويعد العدة لقدوم الحسين. ولكن يبدو أن ابن عقيل كان قليل الحيلة متردداً، لا يقدر لكل أمر قدره، فقد رأيناه في أول دخوله الكوفة، يدخل ــ كما يدخل كل مستجير حذر ــ دار رجل لم يكن من شيعته، يؤثر السلامة هو هانئ بن عروة المرادي، الذي رأى نفسه في موقف من يُطالَب بفعل أمر يكرهه، ولا يستطيع رفضه؛ فألْجِأه دارَه على كُرْهٍ منه. ثم بدأ الأنصار يتوافدون، وكان منهم رجل يظهر صداقة ابن زياد ويبطن ولاء آل البيت، اسمه شريك بن الأعور. ورغم أن الأصفهاني يواصل روايته بما يبدو أن ابن الأعور هذا قد سكن في بيت هانئ مع مسلم، إلا أن الراجح لدينا أنه قد انتقل إلى بيته، ونقل معه مسلماً، لأننا رأينا ابن زياد يعود صديقه المريض شريك بن الأعور، خلال وجود مسلم بن عقيل داخل البيت. وعند هذا الحد، رأينا ابن الأعور يغري مسلماً باغتيال ابن زياد. ولو فعل مسلم ذلك، لأطفأ كثيراً من النيران. لكنه تعذر بالمعاذير الواهية، وترك ابن زياد يعود سالماً، ليشن حربه على آل البيت(19). 

اجتمعت الكوفة على بيعة الحسين، ولكن ابن عقيل لم يجمعهم جيشاً إلا بعد أن علم أن مخبأه انكشف، فجمع أنصاره ومضى بهم نحو قصر الإمارة، فأحاطوا به، إلى درجة أن ابن زياد لم يجد له مأوى منهم، سوى أن يتحصن بداخل القصر. وهنا نرى كم يبلغ حزم فاجر يعلم ما يريد، مقابل تردد تقيٍّ لا يعرف السبل نحو ما يريد. وإنها لمعضلة الدهر والله! فابن زياد المحاصَر مع ثلة قليلة من جنده داخل القصر، لا يذهله الواقع عن عقله، ولا يبدد تدبيره، فهو لا يصمد داخل القصر فحسب، بل يجد السبيل لإرسال عيونه ومساعديه، من منافذ الحصار ــ بطريقة تزيد من تأكدنا بعدم صلاحية مسلم بن عقيل للمهمة التي أنيطت به ــ ليسعوا في تبديد الحصار، فيما الرجل الذي يفترض أنه قائد الحصار لا يقتحم الأبواب!(20). 

وهكذا ــ ربما لأول مرة في التاريخ ــ نرى الوقت يمر في غير صالح الذين ضربوا الحصار. وبمرور الوقت، تمكن رسل ابن زياد من الوصول إلى بيوت المحاصِرين وأهاليهم، فحذروهم عواقب وعقوبة ما يفعله أبناؤهم حول قصر الإمارة. فنهض الأهل لمنع الأبناء، "حتى إن المرأة كانت تأتي ابنها وأخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف"(21). فما زال الأمر على هذه الشاكلة، حتى لم يتبق مع مسلم بن عقيل، من كل هذا الجيش، سوى خمسمائة شخص. وبعد قليل قتال لم يتبق منهم إلا ثلاثمائة، ثم تناقصوا حتى صاروا ثلاثين فقط. وبعد أن صلى بهم المغرب لم يتبق منهم سوى عشرة، ثم انصرف عنه الباقون، فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق، ولا من يؤويه إلى منزله، فلجأ إلى بيت امرأة يقال لها (طوعة) زوجة أسيد الحضرمي، فآوته وأطعمته وسقته حتى نام(22). 

 وخرج ابن زياد من القصر، ونادى مناديه في الكوفة، يهدر دم من تأخر عن صلاة العشاء في المسجد. وفي العشاء أهدر دم كل من ضبط متلبساً بإيواء مسلم بن عقيل، واغرى الناس بتسليمه لينالوا جائزة بقدر ديته. ثم أمر صاحب شرطته برصد كل الشوارع ومنحه سلطة تفتيش البيوت. لكن بلالا ابن المرأة التي أخفت مسلماً في بيتها كفى الشرطة مؤونة التفتيش، ووشى بمكانه إلى أنصار ابن زياد. فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط به. فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات، وأصيبت شفته العليا والسفلى، ثم جعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب. فخرج إليهم فقاتلهم، فأغروه بمنحه أماناً كاذباً فاستسلم. فاقتادوه إلى ابن زياد أسيراً مصفداً بالأغلال(23). 

وفي المواجهة التي حدثت فيما بعد، بين الآسر والمأسور، ما يعزز استنتاجنا بعدم أهلية مسلم لمهمته: فرغم أن مثله لا ينبغي في مثل هذا الموقف أن يتوقع السلامة، إلا أننا رأيناه يرجوها، مما يجعلنا نستبعد رواية من قالوا إن حواراً ساخناً جرى بينه وبين ابن زياد(24). وهذا هو نص ما جرى، مما يرويه الأصفهاني المتعاطف مع آل البيت: 

"ثم أُدخل على عبيد الله بن زياد، فلم يسلم عليه. فقال له الحرس: ألا تسلم على الأمير؟ فقال: إن كان الأمير يريد قتلي، فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي، فليكثرن سلامي عليه. فقال له عبيد الله: لَتُقتَلَنّ. قال: أكذلك؟ قال: نعم. قال: إذن دعني إذن أوصي إلى بعض القوم. قال: أَوصِ إلى من أحببت. فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد، وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر، إن بيني وبينك قرابة دون هؤلاء، ولي إليك حاجة". فامتنع عمر بن سعد من قبول رجاء مسلم، حتى أمره بذلك ابن زياد. فأوصاه مسلم بأن يسدد بعض ديونه في الكوفة، وأن يدفن جثته بعد القتل، وأن يرسل إلى الحسين فينصحه بعدم القدوم. 

ورغم أن ابن زياد أمر عمر بن سعد أن يكتم وصية قريبه، إلا أن عمراً أفشى الوصية، فلم يمنعه زياد من قضاء الدين، ولكنه رفض الاستجابة للطلبين الآخرين فقال: "وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه. وأما جثته فإنا لا نشفعك فيها، فإنه ليس لذلك منا بأهل، وقد خالفنا وحرص على هلاكنا".

 فصعدوا بمسلم فوق القصر، فضربوا عنقه، وهو يدعو على أهل الكوفة. ثم ضربوا عنق هانئ بن عروة المرادي، وأرسلوا برأسيهما إلى يزيد بالشام. ولم تصل الأخبار بذلك إلى الحسين، إلا بعد أن قطع شوطاً من الطريق(25). 

ثم وجه ابن زياد جيشاً قوامه أربعة آلاف فارس، بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، ليقطع الطريق على الحسين ويشاغله، حتى قدوم باقي الجيش الكوفي. فأخذ الحُرّ يسير بمحاذاة الحسين، يمنعه من الوصول إلى الكوفة، أو العودة من حيث جاء. ودار بينهما حوار، حاول فيه كل واحد إقناع الآخر بحجته، حتى وصل جيش الكوفة، وقد أَمَّر ابنُ زياد على الجميع عمر بن سعد أبي وقاص، بعد أن وعده بإمارة الريّ، وأرسل معه شخصاً يشبه أن يكون رقيباً عليه، يقال له شَمْر بن ذي الجوشن الذي ستلعنه الأجيال من بعد(26). 

وفي ليلة عاشوراء من العام الحادي والستين للهجرة، بعد أن رأى الحسين من بايعوه في جيش الأعداء، أقال أصحابه من بيعته ــ وكانوا خمسة وأربعين فارساً ومائة راجل ــ وأباح لهم أن يغادروا المكان في جنح الليل. فقالوا له: "لا أبقانا الله بعدك. والله لا نفارقك"(27).

 فلما أصبح الصباح، وتراءى الجمعان، عرض على الحسين على العراقيين ثلاثة خيارات: أن يتركوه يلحق بيزيد بالشام، أو يرجع من حيث أتى، أو يدعوه يمضي إلى بعض الثغور ليقيم فيها مرابطاً. ففرح ابن سعد بذلك، وكتب إلى ابن زياد به، وظن أنه سيقبله. لكن ابن مرجانة لم يكتف بالرفض، بل طلب الاستسلام الكامل، بحيث ينزل الحسين على حكمه. وكتب بذلك إلى عمر بن سعد، وأرفق كل ذلك بكتاب أرسله إلى شَمْر بن ذي الجوشن(28)، يأمره بمراقبة ما يفعل عمر، فإن رأى أنه متلوّم في قتال الحسن، ضرب عنقه، وتولى الإمارة مكانه. ففهم ذلك عمر، فكان من بعد حريصاً على ابتداء القتال(29). 

أما الحسين فأبى النزول على حكم ابن مرجانة. والحق أنه لم يكن بمستطاع قوانين الشرف في تلك الحقبة، وفي ذلك المكان، أن تقبل بأن ينزل هاشمي على حكمِ دعيٍّ، منسوبٍ في بني عبد مناف زوراً، فكيف إذا كان المقصود ابن بنت رسول الله!. ولعمري إن ابن مرجانة كان في هذا الطلب المستحيل، منطلقاً من وعي عميق بالصغار، أمام رجل يعلم أنه ــ ككل قريش ــ ينكر دعوى أبيه زياداً في انتسابه إلى أبي سفيان. 

وإني لأظن أن ابن فاطمة، الحسينَ بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، كان يمكن له أن يُقتل مئات المرات، قبل أن يلقي بيده لابن مرجانة، عبيد الله بن زياد بن أبيه، ابن سمية، التي زعم أبو سفيان أنه زنى بها في الجاهلية، فأولدها زياداً، على فراش الحارث بن كلدة، فنسبه معاوية إليه أخاً لأهداف سياسية. ولو أن يزيداً صدق هذه الفرية من آبائه، لما رأيناه يقول لآل البيت، حين حُملوا إليه بعد النكبة: "قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينه وبينكم رحم، أو قرابة، ما فعل هذا بكم"(30). 

 من هنا فقد أخذ الحسين يذكر الكوفيين برسائلهم إليه، ويعظهم، ويحذرهم عاقبة الخيانة. فاستجاب له نحو ثلاثين فارساً، تركوا جيش العراق ليقاتلوا معه. وكان شَمْر بن ذي الجوشن، يراقب كل ذلك بنفاد صبر، ويراقب تلوّم عمر بن سعد في مناجزة الحسين، فلا يعجبه. وكان عمر بن سعد من جانبه يرى مراقبة شَمْر بن ذي الجوشن إياه فيحذر أن ينفذ فيه أمر عبيد الله بن زياد. وكان الجيش كله من أهل الكوفة لم يحضرهم شامي قط، بل إن بعض من ذكّرهم الحسين برسائل بيعتهم، كانوا ثمة يقاتلونه وقد أنكروا ما قال(31) 

كنا قد رأينا الحر بن يزيد الرياحي يراجع نفسه، فيما هو يمشي مراقباً للحسين، مانعاً إياه من العودة إلى المدينة، كما أمره ابن زياد. وإنه لواضح لدينا أن طول الطريق والمراجعة، كان قد أنضج التفكير، في وعي الحر بن يزيد؛ إذ سرعان ما رأيناه يقول لعمر وشمر وجيش الكوفة: ويحكم! ألا تقبلون من ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعرض عليكم، من الخصال الثلاث، واحدة منها؟. والله لو كان ذلك إليّ لقبلت(32). 

وكما تبدأ كل التحولات الفكرية، بمحاولات الإصلاح غير المجدية، انتقل الحر من موقف العداء لآل البيت، إلى التعاطف معهم، فبدأ بتوجيه النصح إلى قومه الكوفيين، يحذرهم من قتال ابن رسول الله. فلما استغربوا هذا التغير في لهجته وعابوها، أعلن لهم موقفه الجديد قائلاً: "والله إني أخيّر نفسى بين الجنة والنار. ووالله لا أختار على الجنة غيرها، ولو قُطّعت وحُرقت". ثم تقدم نحو الحسين، وهو يقول: "والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة... وإني قد جئتك تائباً مما كان مني، إلى ربي، ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك. أفترى ذلك لي توبة؟". فقال له الحسين: "ـنعم يتوب الله عليك ويغفر لك. ما اسمك؟". فقال: أنا الحر بن يزيد. فقال الحسين: أنت الحر، كما سمتك أمك. أنت الحر، إن شاء الله، في الدنيا والآخرة"(33). 

وكان جيش ابن زياد قد منع آل البيت من الوصول إلى الفرات، ليشربوا. فالتفت أيهم الحُرّ يخاطبهم، لعله يجد في بقايا أنفسهم، بقية من الشرف، فقال: "ويحكم! منعتم الحسين ونساءه وبناته الماء الفرات، الذى يشرب منه اليهود والنصارى، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه!"(34). لكن صرخته كانت في واد غير ذي زرع. 

ثم حدثت بعض المبارزات الفردية، التي تفوق فيها أنصارُ الله على أنصار يزيد. وتقدم عبد الله بن حوزة الكوفي إلى الحسين، فقال له: أبشر بالنار. فسأله الحسين عن اسمه، فرد بأنه ابن حوزة. فرفع الحسين يديه إلى السماء وقال: "اللهم حزه إلى النار". فأراد ابن حوزة أن يقحم عليه الفرس، فشمست به، فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقى جانبه الآخر متعلقاً بالركاب. فضربه أحد جنود الحسين، فأطار رجله اليمنى، وغارت به فرسه، فلم يبق حجرٌ يمرّ به إلا ضربه في رأسه، حتى مات إلى لعنة الله(35). 

وتواصلت المبارزات الفردية بين الفريقين، وتواصلت انتصارات آل البيت عليهم السلام، فقد كانوا مستميتين في مواجهة القوم، ولا عاصم لهم إلا سيوفهم. وقد رأينا أعدائهم يحذرون هذه الاستماتة ويتجنبونها، كما فعل عمرو بن الحجاج حين دعا الكوفيين إلى ترك المبارزة، والمبادرة بالهجوم. 

وعمرو بن الحجاج الزبيدي هذا، كان واحداً من الزعماء الكوفيين، الذين أغروا الحسين بالقدوم وراسلوه وبايعوه، ثم فعل كما فعل قومه، فنكث العهد، وأنكر الرسائل، وانتقل إلى جيش الأمويين، فولاه عمر بن سعد على مفرزة من مفارز الجيش العراقي. وكما يحدث دائماً، حين يبدي المتلونون أقصى الولاء لمن يشتريهم، في كل صفقة، قام عمرو بن الحجاج هذا بالصراخ في جيش الكوفة قائلاً: "أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر، قوماً مستميتين. لا يبرز إليهم منكم أحدٌ، فإنهم قليلٌ، وقلما يبقون. والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم. يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام"(36). 

لقد كان الرجل يحاول أن يمحو موقفاً سابقاً، بالتطرف في موقف يقابله. 

وأمام هذه الاستماتة الهاشمية، والانحيازات الفردية من بعض عناصر الجيش العراقي إلى صف الحسن، كان لا بد لقائد متعلق بالدنيا مهدد بالموت، كعمر بن سعد، إلا أن يأمر بالقتال، خوفاً على جيشه أن يتبدد، وعلى رأسه أن يقطعها شمر بن ذي الجوشن؛ فجمع ما تبقى من نفسه الذاهبة، وشمر عن ساعده، ورمى جيش الحسين بسهم، مؤذناً باشتعال المعركة، وهو يقول لمن حوله: "أشهدوا أنى أول من رمى القوم"(37). 

وجاء رجل ــ يبدو أنه من المارين بالطريق ــ فدخل في عسكر الحسين، ليخبر أحد المقاتلين، بأسر الديلم لابنه، ويدعوه إلى الانسحاب لافتدائه. فسأله الوالد: "حتى أصنع ماذا؟ عند الله أحتسبه ونفسي. فقال له الحسين: انصرف وأنت في حل من بيعتي، وأنا أعطيك فداء ابنك. فقال: "هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك. لا يكون والله هذا أبداً، ولا أفارقك". ثم حمل على القوم فقاتل حتى قُتل"(38). 

ولما علم عبد الله بن عمير، بخبر الحسين، قال: والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصاً، وإني لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عند الله، من ثوابه إياي في جهاد المشركين. ثم دخل إلى امرأته أم وهب، فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يريد. فشجعته وخرجت للقتال معه، فأخذت عموداً، وأقبلت نحو زوجها تقول له: فداك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين، ذرية محمد(39). 

ولكن ديدن التاريخ أن تكتبه الدنيا ــ وقانون الدنيا كان هو السائد في تلك الحقبة، خصوصاً لدى العراقيين ــ ويقضي بأن تغلب الكثرةُ الشجاعةَ. لذا فقد كان لا بد في نهاية الأمر أن يتساقط آل البيت صرعى، حول الحسين، حتى وصل (شَمْر بن ذى الجوشن) إلى الحسين، فحمل عليه، لكن المتبقين من أصحابه استلحموا حوله، وقد عقرت خيولهم، فنزلوا إلى الأرض. وأخذ الحُرّ بن يزيد يضرب أعداء آل البيت بسيفه، ويرتجز: 

آليتُ لا تقتلَ حتى أُقتلا

ولن أُصاب اليوم إلا مقبلا

أضربهم بالسيف ضربا مقصلا

لا ناكلاً عنهم ولا مهملا(40). 

وبعد أن قتل العديد من أبطالهم، تكاثروا عليه، وأحاطوا به من كلّ الجهات، يضربونه حتى تمكنوا منه فأردوه قتيلاً. 

ثم صلى الحسين بأصحابه الظهر، صلاة الخوف. ثم اقتتلوا بعدها قتالا شديداً. فاستشهد عليّ بن الحسين ــ الذي صار فيما بعد يُقال له علي الأكبر ــ فوقف الحسين عليه وهو يقول: قَتل الله قوما قتلوك يا بنى، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك محارمه! فعلى الدنيا بعدك العفاء(41). 

وحمل عمرو بن سعد بن نفيل على القاسم بن الحسن ــ الذي كان مجرد طفل ــ فضرب رأسه بالسيف. فوقع الغلام وهو يصرخ: يا عماه. فشد الحسين على القاتل، فضربه فقطع ذراعه. فهجم الكوفيون يستنقذون صاحبهم، فداسته خيلهم فوقع صريعاً لليدين وللفم. وحمل الحسين جثة الغلام. فخرجت زينب بنت علي فصرخت: يا أخاه، ويا ابن أخياه. ثم أكبت عليه نبكي. فجاء الحسين فأخذ بيدها فأدخلها الفسطاط(42). 

تفانى أصحاب الحسين في الدفاع عنه. وهو طوال ذلك يصول في صفوف الأعداء فيبددها، كما كان يفعل أبوه. لكن القتل استحرّ في آل النبي، فتساقط أكثرهم شهداء. وصار ريحانة رسول الله يقاتل وحيداً، آخر الأمر، وصار الجنود يفرون من أمامه: فبعضهم يفر جبناً، وبعضهم يفر مخافة أن يتولى إثم قتل الحسين. وتوالى النهار حتى أصيب المقاتل بالإعياء، فصار يقاتل ويكبو. فجاء عدو الله (مالك بن البشر) فضربه على رأسه بالسيف، حتى امتلأت عمامته بالدم. فقال له الحسين: "لا أكلت بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين"(43). 

وهجم أحدهم على القاسم بن الحسن بن علي ــ وكان غلاماً ــ فصرخ الغلام: يا عماه. فتصدى له الحسين بضربة، تلقاها الكوفي بيده، فقطعتها. فهجم أهل الكوفة يستنقذونه، فوقع تحت حوافر خيلهم، فداسته حتى مات إلى لعنة الله(44). 

واستمرت المعركة طوال النهار، حتى أصيب الحسين بالإعياء، فجلس على باب الخيمة، ومعه صبى من أولاده اسمه عبد الله، فأجلسه في حجره، ثم جعل يقبله ويشمه ويودعه، ويوصى أهله. فرماه رجل من بنى أسد ـ يقال له ابن موقد النار ـ بسهم، فقتل الغلام. فتلقى الحسين دمه في يده، وألقاه نحو السماء وقال: "رب، إن تكُ قد حبست عنا النصر من السماء، فاجعله لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين"(45). 

ثم استشهد أبو بكر بن الحسين، ثم أخوة الحسين: عبد الله، والعباس، وعثمان، وجعفر، ومحمد. 

واشتد عطش الحسين، فحاول أن يشرب من ماء الفرات، فرماه رجل يقال له حصين بن تميم بسهم في فمه، فانتزعه الحسين ففار الدم، فتلقاه بيديه، ثم رفعهما إلى السماء وهما مملوءتان دما، ثم رمى به إلى السماء، وقال: "اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على الأرض منهم أحداً". فكان حصين بعد ذلك يشرب الماء فلا يرتوي، حتى انفطر بطنه. فلعنة الله عليه"(46). 

لقد أصبح الحسين الآن وحيداً، وليس لديه إلا سلاحان: شجاعته الموروثة، وهيبته السماوية. وكان معتماً بعمامة تخرج من تحتها جمته، المخضوبة بالسواد ــ ولعلها الآن مخضبة بالدم ــ وعليه قميص من خَزٍّ. وبالمختصر، كان أشبه الناس برسول الله كما ينقل البخاري عن أنس(47). وكأن البغيض شَمْر وقد شعر بما نال رجاله من هيبته وجبنهم، فأخذه الغضب، فألح عليهم بالوعيد، فهجموا على الحسين هجمة رجل واحد، فأحاطوه ذات اليمين وذات الشمال. فشد ابن علي بسيفه على من باليمين فانكشفوا، ثم شد على الشمال فتبدد من فيه. وفي هذا يقول الكوفي عبد الله بن عمار: "فوالله ما رأيت مكسوراً ــ قط ــ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربطَ جأشاً، ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً منه. والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله: إن كانت الرجّالةُ لتنكشف، من عن يمينه وشماله، انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب". لكن تكاثر الضباع على الأسد أثخنته بالجراح، فبدأ الإعياء ينال من جسده. وإنا لنتصوره يقوم ويكبو، وتنازع روحه الوثابةُ جسده الكليل، حين خرجت زينب بنت فاطمة من فسطاطها فرأته فصاحت: "ليت السماء تقع على الأرض"(48). 

الأرض الآن فضاء براح صحراء بلقع، من حول نهر يجري قريباً من الرجل العطشان. فلله شجاعٌ مطهر يقوم ويسقط، وينهض ويهوي!. وللشيطان جيشٌ يتلجلج رجاله على حافة جهنم!. وإني لأتصور الحسين كلما قام من كبوته ونظر فيما حوله، يزداد استمساكاً بسيفه، لكن قبضته تخونه فيسقط، فتتلمسه يده ليعاود القبض عليه، لكنه يعاود السقوط. فلما شعر بثقل السيف على يده، تناول سكيناً صغيرة كانت بجنبه، ليواصل القتال بما تبقى له من قوة. فليت شعري، ما تغني السكين في يد جريح لا يملك ساعده!. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولعن الله الشيطان شَمْر بن ذي الجوشن، إذ يخوف جنوده بالصراخ قائلاً: "ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ فاقتلوه، ثكلتكم أمهاتكم"، ليحملوا على ابن فاطمة الزهراء، فيضربه زرعة بن شريك التميمي ـ لعنه الله ـ على كتفه اليسرى، ثم ينصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو، في أكثر من سبع وستين طعنة(49). 

وقاوم عمر بن سعد جبنه، فاقترب مما تبقى من الحسين. وكانت زينب بنت علي وفاطمة أخت الحسين قد خرجتا من الفسطاط، فلما رأتاه، صرخت به زينب ، كأنها تستثير فيه ما تبقى من نخوة: "يا عمر بن سعد، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟". ولكن النخوة كانت قد ماتت في صدر ابن سعد بن أبي وقاص، منذ أن قَبِلَ أن يخرج لقتال الحسين، طمعاً في إمارة الريّ. فبكى نخوته بدموعه وتراجع(50). 

الآن يوشك الجسد الشريف أن يبرد، ولما تتبق فيه إلا لعاعة من حياةٍ، تقيمه هنيهة فيختلج بها هنيهات، وسط أشقياء يدفع أحدهم أخاه ليتقدمه نحو النار، فيتقدم من كتب الله له الشقاء من قبل ميلاده، إلى الجريح المثخن المصر على النهوض، فيطعنه في ترقوته، ثم في صدره، فيخرّ ما تبقى من الجسد، وتصعد روحٌ طالما كانت تتوق إلى الصعود، متيحةً لأشقاها أن ينزل ليذبح الحسين، ويقطع رأسه، ليختلف الرواة من بعد فيمن تولى ذلك في ثلاثة رجال: شمر بن ذي الجوشن، وسنان بن أبى عمرو بن أنس النخعي، وخولي الأصبحي!(51). فإن كان أي من شمر أو أنس قد ذبحه، فقد ألقى الرأس إلى خولي: ذلك لأننا سنرى فيما بعد خولياً يحمله إلى بيته فخوراً ينتظر الجائزة. وأيا من كان أشقى الثلاثة فإني لأرجو أن يكون قد باء بغضب الله، ثم فليهنأ بالجائزة إن شاء(52). 

قلنا بأن قانون الدنيا كانت له الغلبة، منذ انقضى عهد الدعوة. ولقد كانت لدينا على ذلك شواهد كثيرة، لا في العراق وحده ــ وإن بلغ في ذلك الحد الأقصى ــ بل في المدينة عاصمة الدعوة، منذ أن رأينا الخليفة الثالث يدني أقاربه من حوله. أما في العراق، فقد كان القوم خليطاً من القبائل التي أسلمت متأخراً، قبل أن يستقر في قلبها أن الدين ليس أسلاباً تُغنم كأسلاب الجاهلية، خصوصاً وقد لحقت بجيوش الفتح طامعة، فمارست في القتال هناك، ما مارسته في حروبها الصغيرة في الجزيرة قبل عهد قريب. من هنا فلقد يقل استغرابنا قليلاً حين نرى كيف فعل هؤلاء الأجلاف بآل بيت رسول الله، في أشد لحظات كربهم. لقد كانت كلاب الصحراء تنازع الدين بالدنيا. فحين هجموا على ما تبقى من آل البيت، أسرع بحر بن كعب إلى جثة الحسين، فسلب الشهيد الكريم ثيابه، وأخذ سراويله بحر بن كعب، وأخذ قطيفته قيس بن الأشعث، وأخذ نعليه رجل من بني أود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل، ثم تركوه مكشوفاً بالعراء. فلما أن جاء الباقون فلم يجدوا لدى المقاتلين ما يسلبونهم إياه، مالوا إلى بنات رسول الله ينزعون عنهن ثيابهن وحليهن، حتى إذا ما أخذ أحدهم حلي فاطمة بنت الحسين بكى، فلما سألته لم بكى؟ أجاب: "أأسلب بنت رسول الله ولا أبكي؟". فلما قالت له بأن يدعه، قال: "أخاف أن يأخذه غيري". ثم أمر عمر بن سعد عشرة فرسان أن يدوسوا بخيولهم جسد الحسين(53). 

وهَمّ الأعور المشؤوم شَمْر بن ذي الجوشن بقتل على بن الحسين (زين العابدين) وهو صغير مريض، لولا أن صرفه الله عن ذلك. وبذا فلم يتبق من أهل بيت الحسين من الذكور سوى ولده المريض علي الأصغر، الذي أوشك ابن زياد أن يقتله، بعد أن حملوه إليه، لولا أن الله صرفه عن ذلك. فكل حسيني هو من ذرية علي الأصغر الملقب بزين العابدين(54). 

وحمل خولي الأصبحي رأس الحسين إلى والي الكوفة، عبيد الله بن زياد بن أبيه. فلما وجد القصر، رجع به إلى امرأته يبشرها بعز الدهر. فقالت: وما هو؟ فقال: برأس الحسين. فقالت: جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت أنت برأس ابن بنت رسول الله!. والله لا يجمعني وإياك بيت أبداً(55). فلما أصبح غدا به إلى ابن زياد، فوضعه في طست، وأخذ ينخز فيه بقضيب، وقد بهره حسنه!(56). 

ثم جمع ابن زياد الناس في المسجد، فخطب فيهم يلعن الحسين، فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي فقال: "ويحك يا ابن زياد، تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين!". فأمر بقتله وصلبه. ثم أمر برأس الحسين فُنصب بالكوفة، وطيف به في أزقتها. ثم سيره مع زحر بن قيس، ومعه رؤوس أصحاب الحسين، إلى ربه من دون الله، يزيد بن معاوية بالشام. فقيل إن يزيد أخذ ينخس فيه بقضيب في يده، حتى نهره بعض الجالسين. ويبدو أننا لا نستطيع أن نقبل هذه الرواية، فرغم ما قيل من كفره، إلا أن الثابت لدينا أن رَحِمَهُ قد عطفته على أبناء عمومته، فأخذته شفقة شديدة عليهم، خصوصاً وقد ظفر بهم، حتى قالت في ذك سكينة بنت الحسين: "ما رأيت رجلاً كافراً بالله خيراً من يزيد من معاوية"(57). 

فماذا قيل من كفر يزيد؟ لقد قيل بأنه فيما بعد، حين وصله خبر من قُتلوا من أهل المدينة المنورة ــ التي استباحها جيشه أيام الحرة ــ قد أخذ يُنشد مستشهداً بشعر ابن الزبعري، التي تشفى فيها بقتلى المسلمين في أحد: 

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأَسَلْ 

حين حكّتْ بقُباءٍ بَرْكَها

واستحرّ القتلُ في عبد الأَشَلْ 

قد قتلنا الضعف من أشرافهم

وعَدلنا ميلَ بدرٍ فاعتدلْ 

لعبت هاشمُ بالمُلكِ فلا

مَلَكٌ جاءَ ولا وحيٌ نَزَلْ 

وبعد أن يورد ابن كثير هذا، يعلق عليه قائلاً: "فهذا، إن قاله يزيد بن معاوية، فلعنةُ الله عليه ولعنةُ اللاعنين. وإن لم يكن قاله، فلعنة الله على من وضعه عليه، ليشنع به عليه"(58). 

وعلى كل حال، فالعقوبة الدنيوية بالمثل، لم تكن من نصيب يزيد ــ وإن كان شراً من ذلك ــ بل كانت من نصيب ابن زياد: فقد نقل ابن كثير أن الإمام أحمد وغيره قد رووا عن عبد الملك بن عمير، أنه رأى رأس الحسين على ترس أمام ابن زياد، ثم رأى رأس ابن زياد على ترس أمام المختار، ثم رأى رأس المختار على ترس أمام مصعب بن الزبير، ثم رأس مصعب بن الزبير على ترس أمام عبد الملك بن مروان(59). 

لقد دارت الدوائر، بعد سنوات قليلة، على قتلة الحسين، فظفر بهم جيش المختار بن عبيد الله الثقفي، قائد جيش من يسمون أنفسهم بالتوابين، فجيء إليه برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، فنُصبها في المسجد جزاءً وفاقاً، فكانت حية تأتي في كل يوم، لتدخل في منخري رأس ابن زياد"(60). 

ثم اقتاد أعداءُ الله بنات رسول الله إلى الكوفة، فلما مررن بمكان المعركة، ورأين الحسين وأصحابه مطروحين هنالك، بكينه وصرخن. وندبت زينب أخاها الحسين وأهلها، فقالت وهي تبكي عبارة، الله أعلم بصحة نقلها، لكن النائحين في الحسينيات أغرموا بها فيما بعد، فصارت لهم تسبيحاً. قالت باكية: "يا محمداه، يا محمداه.. صلى عليك الله ومليك السماه.. هذا حسين بالعراء مُزَمَّلٌ بالدماه.. مقطع الأعضاء يا محمده.. وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا"(61). 

وبعد حوارات بين نساء آل البيت وابن مرجانة ــ داخل نقلَها الكثيرُ من المبالغة والوضع ــ أمر بنقلهن إلى مولاه يزيد بالشام. فلما وصلن، دارت بينهن وبينه حوارات أخرى تشبه تلك، لكنها تعجب الشيعة فيصححونها، رغم أن لغتها تشي بالانتحال. لكن الراجح عندي من مجمل الروايات، أن يزيد قد عطفته على أبناء عمومته الرحم ــ لا مخافة الله ــ فأكرمهم، واعتذر إليهم بما يعتذر به الظالم إلى المظلوم، وسمح لنساء بني أمية أن يقمن على الحسين النواح، ثم رد نساء آل البيت إلى المدينة المنورة"(62). 

لقد اختلف الرواة فيما بعد فيم حدث لقبر الحسين ورأسه. فأما القبر فقيل بأن الأمويين قد عفّوا على موضعه، فأجروا عليه من الفرات ساقية، فنضب ماؤها بعد أربعين يوماً. فلما جاء أعرابي يبحث عن القبر، أخذ يشم تراب الأرض، فدلته طيب الريح عليه، فبكى وأنشد: 

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه

فطيب تراب القبر دل على القبر 

وريح الوضع تفوح من هذه الأسطورة. 

هذا ما حدث للجسد. أما الرأس الشريف، فقد تضاربت في مصيره الأقوال والروايات، ولا يكاد يصح منها شيء: 

فقيل بأن يزيد بعث به إلى نائبه بالمدينة، عمرو بن سعيد الأشدق، فدفنه عند أمه فاطمة بالبقيع. 

وقيل بأنه بقي في خزانة يزيد، فلما توفي إلى لعنة الله، أُخذ وكُفّن ودفن بباب الفراديس بدمشق. 

وقيل: بل ظل في خزانة يزيد، إلى عصر سليمان بن عبد الملك، الذي طلبه فجيء له به، وقد صار عظما أبيض؛ فكفنه وطيبه وصلى عليه، ودفنه في مقبرة المسلمين، فلما جاء بنو العباس نبشوا القبر وأخذوه فلا يعلم أحد أين انتهى به المطاف. 

وأضعف ما قيل في كل هذا الضعيف، ما زعمه الفاطميون من أن الرأس وصل إليهم، بعد أكثر من خمسمائة عام من وفاة صاحبه، فدفنوه بالقاهرة، في المشهد المعروف بالحسين(63).

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات: 

1ـ البداية والنهاية. ج8. ص161

2ـ نفس المصدر. البداية والنهاية. ج8. ص16. وانظر كذلك: الذهبي. سير أعلام النبلاء. ج3. 285

3ـ الكامل في التاريخ. ج3. ص354 ــ 355

4ـ انظر: الطبري. ج3. ص272

5ـ سير أعلام النبلاء. ج3. ص285

6ـ انظر: أسد الغابة. ج2. ص28

7ـ انظر: البداية والنهاية. ج8. ص263، ص282 ــ 284

8ـ الطبري. ج3. ص270

9ـ البداية والنهاية. ج8. ص157، وسير أعلام النبلاء. ج3. ص295، ومروج الذهب. ج3. ص51

10ـ سير أعلام النبلاء. ج3. ص294، والبداية والنهاية. ج8. ص174 ــ 175

11ـ أحكام القرآن. ج1. ص86 

12ـ انظر: الطبري. ج3. ص271، ص294، وأسد الغابة. ج2.  ص28

13ـ انظر: الطبري. ج3. ص272

14ـ البداية والنهاية. ج8. ص174

15ـ انظر: نفس المصدر. ج8. ص174

16ـ انظر: البداية والنهاية. ج8. ص179، ومروج الذهب. ج3. ص51

17ـ مقاتل الطالبيين. ص99

18ـ سير أعلام النبلاء. ج3. ص305

19ـ انظر: مقاتل الطالبيين. ص100 ــ 101، والبداية والنهاية. ج8. ص164

20ـ انظر: مقاتل الطالبيين ص103

21ـ نفس المصدر. ص103 ــ 104

22ـ انظر البداية والنهاية. ج8. ص166، ومقاتل الطالبيين. ص105 ــ 107

23ـ انظر: مقاتل الطالبيين. ص105 ــ 107 ، والبداية والنهاية. ج8. ص167

24ـ انظر: البداية والنهاية. ج8. ص168

25ـ انظر: مقاتل الطالبيين. ص108، والبداية والنهاية. ج8. ص169، ص171

26ـ انظر: سير أعلام النبلاء. ج3. ص300، ومقاتل الطالبيين. ص112، والبداية والنهاية. ج8. ص186

27ـ انظر: سير أعلام النبلاء. ج3. ص301، ص318

28ـ هو شَمِر بن ذي الجوشن بن الأعور بن عمرو الضبابي الكلابي. ويكنى أبا السابغة. وربما لكنية أبيه هذه يتشاءم الناس بكل الأعور، فيقولون عنه: (شَمْر) انظر: الأعلام للزركلي. ج2. ص175 والطبقات الكبرى. ص169

29ـ انظر: الطبري. ج3. ص298، ومقاتل الطالبيين. ص112، والفتنة الكبرى (علي وبنوه). ص240

30ـ نفس المصدر. ص399

31ـ انظر: مقاتل الطالبيين. ص112 ــ 114، ومروج الذهب. ج3. ص56

32ـ انظر: البداية والنهاية. ج8. ص194

33ـ الطبري. ج3. ص320

34ـ نفس المصدر. ص321

35ـ انظر: البداية والنهاية. ج8. ص195 ــ 196

36ـ الكامل في التاريخ. ج3. ص385، ص423

37ـ الطبري. ج3. ص321

38ـ مقاتل الطالبيين. ص115 ــ 116

39ـ انظر: الطبري. ج3. ص321 ــ 322

40ـ انظر: البداية والنهاية. ج8. ص199 

41ـ انظر: الطبري. ج3. ص328، ص331

42ـ انظر: نفس المصدر. ص331

43ـ نفس المصدر. ص331

44ـ انظر: نفس المصدر. ص331 ــ 332

45ـ نفس المصدر. ص331

46ـ الطبري. ج3. ص331، والبداية والنهاية. ج8. ص203

47ـ انظر: صحيح البخاري. حديث رقم 3748. ص921

48ـ البداية والنهاية. ج8. ص161، ص207، والطبري. ج3. ص334، وسير أعلام النبلاء. ج3. ص291، ص305

49ـ انظر: البداية والنهاية. ج8. ص204، والطبري ج3. ص334 ــ 335

50ـ انظر: الطبري. ج3. ص334

51ـ انظر:  انظر: مقاتل الطالبيين. ص118

52ـ انظر: الطبري. ج3. ص334، وسير أعلام النبلاء. ج3. ص299، والأعلام للزركلي. ج2. ص234، والبداية والنهاية. ج8. ص204، وانظر ما يقوله محقق البداية والنهاية في هامش الصفحة.

53ـ انظر: الطبري. ج3. ص331 ــ 335، وسير أعلام النبلاء. ج3. ص303 ومروج الذهب. ج3. ص57

54ـ انظر: سير أعلام النبلاء. ج3. ص303

55ـ انظر: الطبري. ج3. ص336

56ـ انظر: صحيح البخاري. حديث رقم 3748. ص921

57ـ البداية والنهاية. ج8. ص207 ــ 208، والطبري. ج3. ص341

58ـ البداية والنهاية. ج8. ص245 ــ 246

59ـ انظر: نفس المصدر. ص354

60ـ رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح الإسناد. انظر: سنن الترمذي. حديث رقم 3780. ص854

61ـ الطبري. ج3. ص336

62ـ نفس المصدر. ص338 ــ 339

63ـ انظر: البداية والنهاية. ج8. ص221 ــ 222