النمور في اليوم العاشر


لزكريا تامر


روعة الفن وجمال المحتوى


 

الأديب العربي السوري الكبير زكريا تامر (1931ـ) كتب للكبار أدباً رفيعاً، بأسلوب قادر على الوصول إلى الصغار، حتى لقد عُدّ بحق شاعر القصة العربية. ورغم ذلك فقد اختص الطفل العربي بسبعة وعشرين قصة، نُشرت كلها في كتيبات مصورة.

ومعلوم أن زكريا تامر قد بدأ منذ العام 1985 في إعداد صفحتين أسبوعيتين للأطفال، في جريدة (القبس) الكويتية، إضافة إلى مواظبته على إصدار صفحات خاصة بالأطفال، في جريدة (الأخبار) الأردنية، طوال عامين كاملين.

باختصار يمكن لنا القول بأن زكريا تامر مبدع استثنائي، استحق بالفعل أن يفوز في العام 2009، بجائزة (بلو ميتروبوليس الماجدي بن ظاهر) للأدب العربي.

ولخصوصية زكريا تامر، ولبيان كيف استطاع أن يكتب للكبار، كما لو كان يكتب للصغار، وكيف يكتب الصغار، كما لو كانوا كباراً، نورد إحدى قصصه، لنرى كم هو قادر على الوصول للشريحتين معاً. ثم نرى في نفس الوقت كيف يمكن للإبداع المتميز أن يجمع بين المتعة والمعرفة ـ كليهما ـ فلا يتنازل عن أحدهما في سبيل الآخر.


النمور في اليوم العاشر:


النص:


رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص. ولكنه لم يستطع نسيانها، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه، وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف. وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة:

ـ إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي ـ مهنة الترويض ـ عليكم ألا تنسوا، في أي لحظة، أن معدة خصمكم هدفكم الأول. وسترون أنها مهمة صعبة وسهلة في آن واحد. انظروا الآن إلى هذا النمر: إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه. ولكنه سيتغير ويصبح وديعاً ومطيعاً كطفل صغير. فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام، وبين من لا يملكه. وتعلموا.

فبادر الرجال إلى القول إنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض. فابتسم المروض مبتهجا. ثم خاطب النمر متسائلا بلهجة ساخرة:

ـ كيف حال ضيفنا العزيز؟.

قال النمر:

ـ أحضر لي ما آكله، فقد حان وقت طعامي.

فقال المروض بدهشة مصطنعة:

ـ أتأمرني وأنت سجيني؟ يا لك من نمر مضحك!. عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا إصدار الأوامر.

قال النمر:

ـ لا أحد يأمر النمور.

قال المروض:

ـ ولكنك الآن لست نمراً. أنت في الغابات نمر. وقد صرت في القفص. فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر، وتفعل ما أشاء.

قال النمر بنزق:

ـ لن أكون عبداً لأحد.

قال المروض:

ـ أنت مرغم على إطاعتي؛ لأني أنا الذي أملك الطعام.

قال النمر:

ـ لا أريد طعامك.

قال المروض:

ـ إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه.

وأضاف مخاطباً تلاميذه:

ـ سترون كيف سيتبدل؛ فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة.

وجاع النمر، وتذكر ـ بأسى ـ أياماً كان فيها ينطلق، كريح دون قيود، مطارداً فرائسه.

وفي اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر. وقال المروض:

ـ ألست جائعاً؟. أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم. قل إنك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم.

ظل النمر ساكتاً. فقال المروض له:

ـ افعل ما أقول، ولا تكن أحمق. اعترف بأنك جائع، فتشبع فوراً.

قال النمر:

ـ أنا جائع.

فضحك المروض، وقال لتلاميذه :

ـ ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه.

وأصدر أوامره، فظفر النمر بلحم كثير.

وفي اليوم الثالث قال المروض للنمر:

ـ إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، فنفذ ما سأطلب منك.

قال النمر:

ـ لن أطيعك.

قال المروض:

ـ لا تكن متسرعاً، فطلبي بسيط جداً. أنت الآن تحوم في قفصك. وحين أقول لك: قف، فعليك أن تقف.

قال النمر لنفسه:

ـ إنه فعلاً طلب تافه، ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع.

وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة:

ـ قف.

فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح:

ـ أحسنت.

فسر النمر، وأكل بنهم. بينما كان المروض يقول لتلاميذه:

ـ سيصبح بعد أيام نمراً من ورق.

وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض:

ـ أنا جائع، فاطلب مني أن أقف.

فقال المروض لتلاميذه:

ـ ها هو ذا قد بدأ يحب أوامري.

ثم تابع موجهاً كلامه إلى النمر:

ـ لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط.

وقلد مواء القطط. فعبس المروض، وقال باستنكار:

ـ تقليدك فاشل. هل تعد الزمجرة مواء؟.

فقلد النمر ثانية مواء القطط. ولكن المروض ظل متهجم الوجه. وقال بازدراء:

ـ اسكت، اسكت. تقليدك ما زال فاشلاً. سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط. وغداً سأمتحنك، فإذا نجحت أكلت، أما إذا لم تنجح فلن تأكل.

وابتعد المروض عن قفص النمر، وهو يمشي بخطى متباطئة. وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين.

ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.

وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر:

ـ هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج.

قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة:

ـ عظيم! أنت تموء كقط في شباط.

ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.

وفي اليوم السادس، وما إن اقترب المروض من النمر، حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط، ولكن المروض ظل واجمًا مقطب الجبين. فقال النمر:

ـ ها أنا قد قلدت مواء القطط.

قال المروض:

ـ قلد نهيق الحمار.

قال النمر باستياء:

ـ أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أُقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك!

فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.

وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعا، وقال للنمر:

ـ ألا تريد أن تأكل؟

قال النمر:

ـ أُريد أن آكل.

قال المروض:

ـ اللحم الذي ستأكله له ثمن: انهق كالحمار، تحصل على الطعام.

فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق. واندفع ينهق مغمض العينين. فقال المروض:

ـ نهيقك ليس ناجحاً، ولكني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك.

وفي اليوم الثامن، قال المروض:

ـ سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق إعجاباً.

قال النمر:

ـ سأصفق.

فابتدأ المروض إلقاء خطبته، فقال:

ـ أيها المواطنون، سبق لنا ـ في مناسبات عديدة ـ أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية. وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل، مهما تآمرت القوى المعادية. وبالإيمان سننتصر.

قال النمر:

ـ لم أفهم ما قلت.

قال المروض:

ـ عليك أن تعجب بكل ما أقول، وأن تصفق إعجاباً به.

قال النمر:

ـ سامحني أنا جاهل أُميٌّ، وكلامك رائع. وسأصفق كما تبغي.

وصفق النمر. فقال المروض:

ـ أنا لا أحب النفاق والمنافقين. ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك.

وفي اليوم التاسع جاء المروض حاملاً حزمة من الحشائش، وألقى بها للنمر، وقال:

ـ كل.

قال النمر:

ـ ما هذا!. أنا من آكلي اللحوم.

قال المروض:

ـ منذ اليوم، لن تأكل سوى الحشائش.

ولما اشتد جوع النمر حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً. ولكنه عاد إليها ثانية. وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً.

وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.


التحليل:


هذه قصة مكتوبة في الأساس للكبار. لكن من هو الذي يظن أنها لا تنفع للصغار!. إنها قصة الكرامة الجريحة، كرامة الأمة قبل أن تكون كرامة النمر السجين. إن هذه القصة يمكن اعتبارها نموذجاً ذهبياً لتزاوج المنفعة والجمال. المتعة واضحة في قصة تقود المتلقي إلى دروب التوقع والاستنتاج والمقارنة: يتوقع ما سيحدث، ويستخلص النتائج من الأحداث، ثم يقارن بين العالم التخييلي المصنوع ورقياً، والعالم الواقعي الذي يعيش. على العكس من قصص الوعظ المباشر.

هي ذي قصة تبشر بالثورة. مقابل قصة أخرى تنظّر للخضوع. هي ذي قصة لا تتنازل عن الإمتاع حتى وهي تقدم المحتوى الأخلاقي العالي. وشتان ما بين قصة وقصة!. 

النمر رمز شعب أبيّ في أصله، لكن العوادي تتكفل بترويضه، فيغدو ذليلاً يخضع لإرادة القوة. في البداية نرى النمر في قفصه، والمروض يقدم لتلاميذه الدرس الأول في كيفية الإخضاع.

الغابات هي المعادل الموضوعي للحرية. وبوجود النمر في القفص ترحل عنه الغابات، فلا يستطيع نسيانها، ويحدق في سجانيه بغضب جدير بالأحرار. والسجان ـ الذي هو المعادل الموضوعي للطاغية ـ يعلم مقدار هذا الغضب، لكنه يرى فيه علامة عجرفة يجب القضاء عليها. والطعام هو السلاح.

وهنا يمكن مقارنة هذا بما يحدث للأمة العربية، التي تستورد طعامها من عدوها، ثم تدعي الكرامة!.

ها نحن نرى كيف يستغل المهيمنون حاجات الناس، لفرض الخضوع عليهم. في البداية على المستهدفين للإخضاع أن يعترفوا بموازين القوى الجديد. إنها حرب على الوعي قبل كل شيء: (افعل ما أقول، ولا تكن أحمق. اعترف بأنك جائع، فتشبع فوراً). وإن مجرد حدوث هذا الاعتراف، سوف يؤمن للمهيمن الفوز بالجولة الأولى والأهم: (ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه). وفي الواقع العربي نرى شيئاً مشابها، حين لا يبدأ الطاغية ـ أو العدو الخارجي ـ بمواجهة الشعب دفعة واحدة. فهجوم كهذا ربما لا تحمد عقباه. من هنا تبدأ محاولات الترويض باليسير من المطالب، صعوداً نحو الأعلى منها. وهذا هو الترتب كما جاء في القصة:

1: ففي اليوم الأول رفض النمر الاعتراف بالهزيمة فجاع.

2: وفي اليوم الثاني وازن بين جوعه الممض، وقول كلمة يسيرة بها يعترف بأنه جائع.

3: وفي اليوم الثالث تطور الأمر لدى المهيمن فطلب الطاعة. ولكن تمرد النمر لم يبلغ قوة تمرده في اليوم الأول. فوافق على تلبية الأمر، الذي أقنعته حاجته أنه تافه القيمة.

4: وفي اليوم الرابع، بادر النمر بنفسه إلى بذل الخضوع مقابل الطعام. ولكن هذا التطور في الخضوع ظل يقتضي تطوراً في الهيمنة بالمقابل.

5: وفي اليوم الخامس، برع الخاضع في الخضوع، ورغم أن المهيمن قد شجعه، إلا أننا نراه قد بدأ يسخر منه: (عظيم! أنت تموء كقط في شباط).

6: وفي اليوم السادس، تصاعد سلم الهيمنة، وصار المطلوب خضوعاً أكبر. ولكن الخاضع ـ الذي كانت قد تبقت لديه أثارة من كرامة ـ رفض في البداية. ولم يكلف المهيمن نفسه محاولة إقناعه.

7: وفي اليوم السابع، بلغ الذل بالخاضع درجة أنه لم يعد يتذكر الشرف: (فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق. واندفع ينهق مغمض العينين).

8: وفي اليوم الثامن، تحول الخاضع ـ النمر أو الشعب ـ إلى صف الطاغية، وأخذ يصفق لما لا يفهم. ومع ذلك فقد حرص المهيمن على الإمعان في إذلاله: (أنا لا أحب النفاق والمنافقين. ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك).

9: أما في اليوم التاسع، فقد كان على الخاضع أن يدفع ثمن الهزيمة كاملاً: فتحول النمر إلى حمار يأكل الحشائش.

10: أما اليوم العاشر والأخير، فقد آن له أن يشهد كشف الأقنعة، بعد إذ لم تعد هناك حاجة للتخفي. فالنمر هو الشعب، والقفص هو المدينة، فيما اختفى الطاغية وراء أستار قصره العالي، مطمئناً إلى أن طول الخضوع قد أنتج مشروعيته الخاصة وأدواته. ومن لا يصدق، فليتأمل هذا الواقع العربي اللعين.