• تاريخ
  • 4227 قراءة
  • 14:45 - 29 أبريل, 2019

حضارة اليونان

 

أولاً: قصة الدولة:

كثيراً ما أقام اليونانيون القدماء احتفالات تشبه الأعياد: أعياد تتجلى فيها كل أهواء الإنسان وميوله الغريزية الطبيعية.

لم يحارب الإغريق تلك الغرائز بضراوة كما فعلت المسيحية من بعد، بل تقبلوها باعتبارها شيئاً لا مفر منه، يفضلون بدلاً من قمعه منحه حقوقاً من الدرجة الثانية؛ فأعطوه مساحة ضمن عادات المجتمع وطقوس العبادة.

وحين رأوا أن ذلك يحفظ توازن البشر والمجتمع، سموه سماوياً، أو ـ بلغة نيتشه ـ كتبوه على جدران سمائهم.

لقد وضعوا هذه الغرائز ضمن سياق يمكن التعايش معه، مبتكرين احتياطات تمنع تحولها إلى سيول جارفة، تهدد المجتمع.

هكذا استقل العقل اليوناني وأبدع ما عاش أبد الدهر.

ثانياً: قصة الخلود:

لقد ورثت اليونان كل الحضارات التي سبقتها. ولم تكن تلك الحضارات ـ على عظمتها ـ قادرة على غزو العالم، دون اليونان. ذلك أن اليونان تسلمت راية الحضارة من السابقين، ولم تكتف بأن أضافت إليها، بل صاغتها في قالب من الجمال، وصدّرتها للعالم، فتقبلها العالم بقبول حسن.

 لقد أصر العقل اليوناني على عدم الاكتفاء بالتعبير عن المحتوى الفكري للعلوم، بل حرص كذلك على أن يكون هذا التعبير جميلاً، في الفن والأدب، وحتى في درس التاريخ والفلسفة. فكل قارئ لفلسفة أفلاطون يرى كم كانت الفلسفة مصوغة في قالب من الجمال الأدبي. لقد كان الكاتب اليوناني، يشبه الفنان اليوناني، يتوق إلى أن يكسب مادته شكلاً وجمالاً.

وهذا هو سر خلود الحضارة اليونانية وسعة تأثيرها، وقدرتها على غزو العالم من دون كل الحضارات التي سبقتها.

كانوا يصرون على أن يكون الحق جميلاً. وحين صار الحق جميلاً، أيقنوا أنه من السماء. فالجمال كان دليلاً قوياً على صحة الفكرة، لدى اليونانيين.

لقد كان الإغريق يعبدون ثلاثة أشياء: هي على الترتيب: الحرية، القوة، الجمال.

إنهم لم يكتفوا بتخيل الإلٰهات الإناث جميلات فحسب، بل جعلوا كذلك آلهتهم من الذكور، أقوياء جميلين.

ثالثاً: قصة الجمال:

لم ينشأ لدى اليونانيين تناقض بين الحق والجمال، فقد هدتهم غريزتهم إلى فلسفة تصالحية تقول بأن كل جميل هو حق. ولذا فلم يكن غريباً أن تبرئ المحكمة غانية من تهمة الكفر، لمجرد أنها جميلة. وإليكم الحادثة:

في القرن الرابع قبل الميلاد، كان جمال فريني (Phryne) حديث أثينا كلها، فلم تكن تظهر أمام الناس إلا محجبة، من ذؤابة رأسها إلى أخمص قدميها. لكنها كانت تقدم شيئاً من زكاة الجمال للشعب، مرتين في كل عام: ففي عيدي «إلوزيا» و«بسدونيا» تخلع ثيابها، وتسدل شعرها على جسمها، وتنزل البحر أمام الأعين الجاحظة.

وقد عشقت فريني الفنان براكسيتيليس (Praxiteles)، ووقفت أمامه لينحت على صورتها تماثيل أفروديت إلٰهة الجمال.

ولعلها غالت في الأجر الذي طلبته من عضو البرلمان يوثياس (Eothias)، فاتهمها بالإلحاد. ولكن «هيـﭘريدس» الخطيب كان من عشاقها المفتونين، فدافع عنها دون أن يستخدم بلاغته فحسب، بل شق ـ أمام المحكمة ـ جلبابها، فكشف عن صدرها، فنظر القضاة إلى جمالها، وبرأوها من تهمة الإلحاد في الدين.

لقد نظر القضاة إلى جمال فريني المذهل، فقال كل منهم في قلب قلبه:

ـ لا يمكن لهذا الجمال إلا أن يكون إلٰهياً!

وقد رأينا مثل ذلك ـ أو قريباً منه ـ يحدث مع «هيلين» التي عشقت الفتى الطروادي «باريس» وتركت وطنها لأجله، وتسببت ـ من ثم ـ في حرب طروادة: فقد رأيناها تتحول على يد الأسطورة اليونانية إلى إلٰهة خالدة، بعد استعادة اليونانيين لها بعد حرق طروادة. ورأينا «أوديسيوس» يحل ضيفاً عليها وزوجها «مينيلاوس» خلال رحلة العودة في ملحمة «الأوديسة» فيرى ملكة قديسة تعيش حياة تقية مع زوجها.

لقد تذكر اليونانيون أخيراً ـ أو اختلقوا ـ أن هيلين هي ابنة كبير الآلهة «زيوس» الذي أنجبها خلال غزوة من غزواته الداعرة، على فراش ملك إسبرطة.

وما كان ذلك ليحدث لولا أنها كانت جميلة الجميلات، كما يصفها «هوميروس».

رابعاً: قصة الشرف:

طوال السنوات السبعمائة، التي سبقت علو نجم اليونان، كانت حضارات عديدة قائمة ومزدهرة وتستعمر العالم القديم، في الصين والهند ومصر الفرعونية وفينيقيا وبلاد فارس.

وكانت بلاد فارس التي نتكلم عنها الآن أعظم الحاضرين على مسرح التاريخ، الذي يمس المدن اليونانية المتفرقة، في ذلك الوقت.

لكننا سنقرأ فيما بعد شاهداً على قبر جماعي لأبطال اليونان، الذين سقطوا على طريق العظمة. ويعود هذا الشاهد إلى ما بعد 23 سبتمبر سنة 480 ق. م، حيث كتب من شاهدوا تلك الأيام، على قبور أبطالهم الثلاثمائة، الذين سقطوا دفاعاً عن حرية اليونان: "اذهب أيها الغريب، ونبئ اللسدمونيين، أننا نحيا هنا طاعة لشرائعهم".

فما القصة؟

دعونا نوضح قبل كل شيء أن اللسدمونيين نسبة إلى لسدمونيا وهي إسبرطة.

وإسبرطة هي أرض الأبطال، وأعظم مدينة يونانية اعتمدت مبدأ القوة.

والقوة في إسبرطة هي الشرف. والشرف في إسبرطة أن تكون قوياً لتحمي الوطن، وأن تكون مواطناً بطاعة الشرائع، في وطن تودع فيه الأم ابنها الجندي الذاهب إلى حومة الوغى بقولها:

ـ عد بدرعك أو محمولاً عليه.

وكان الفرار بالدرع الثقيل أمراً مستحيلاً.

وكانت إسبرطة هي التي وضعت القوانين، ويبدو أن اليونان كلها تعلمت منها واتبعتها في ذلك، إلى هذا الحد أو ذاك.

إذن فالنص المكتوب على القبر الجماعي للأبطال، إنما هو نص يوناني يدين لهؤلاء الثلاثمائة بالمجد.

فكيف كان أصل ذلك؟

كان هؤلاء ثلاثمائة مقاتل إسبرطي، قادهم الملك ليونيداس الأول، في معركة «الثرموبايلي» في محاولة يائسة لمنع تقدم جيش ملك العالم، ملك الفرس «أحشويروش بن دارا» في العام 480 قبل الميلاد.

لقد كان على جيش الفرس، ملاحقة الجيش اليوناني المنسحب. ولم يكن ليتمكن من ذلك، إلا بعبور ممر ضيق.

وهناك كان أبطال إسبرطة: نخبة من الجنود قوامها 300 بطل، يقودهم محارب أسطوري هو ملكهم في ذات الوقت.

أمر «أحشويروش» طليعة جنوده بالهجوم عبر الممر. فجرت معركة يائسة. وتعاقب تدفّق الجنود الفرس على الممر، وفي كل مرة كانوا يُجبهون بعنف.

وما إن حلّ المساء حتى كان الأبطال الثلاثمائة كلهم صرعى، وقد أخّروا تقدّم قوات الفرس. وأتاحوا للجيش اليوناني فترة راحة، تسبق المعركة الفاصلة: «معركة سالاميس».

خامساً: قصة التحدي:

نعود إلى أصل قصة القبر الجماعي للأبطال الإسبرطيين الثلاثمائة، لنعرف ما سبب كل هذا، ولم كان على اليونانيين أن يموتوا هكذا؟

فلنقل إذن أن زمناً سبق هذه المعركة بسنوات، قبل أن يوجد «ملك العالم» الحالي، الذي هو الإمبراطور الفارسي «أحشويروش»: زمن أبيه الإمبراطور «دارا»، يوم أرسل إلى أثينا وإسبرطة ـ أعظم مدينتين يونانيتين ـ يطلب إليهما أن ترسلا إليه التراب والماء، رمزاً لخضوعهما لسلطانه. فعزّ على المدينتين اليونانيتين القبول بهذا الحجم من الخضوع، بل هذه الوقاحة التي لا يتصرف بمثلها إلا من يحرص على طعن روحك في مقتل.

فما كان من المدينتين إلا أن أعلنتاه بالتمرد وقتلتا رسله.

ورغم كل ما تم بعد ذلك من محاولات تجاوز هذه «الهفوة» من مدينتين صغيرتين بحق «ملك العالم» إلا أن ملك العالم لم يقبل بالتسامح مع هذه الجرأة، وأخذ يعد العدة لكسر روح اليونان. لكنه مات في عام 485 قبل الميلاد، قبل أن يفعل. فورثه في الحكم والتصميم ابنه «أحشويروش» وقاد أكبر جيش عرفه تاريخ تلك الأزمنة لغزو اليونان.

لا يمكن لنا نحن، الذين نتأمل ما حدث في تلك الحقبة، أن نتصور أن المسألة كانت مسألة كرامة عاهل ما يتحداه من يراهم رعاياه، لأننا نعرف أن ما يحرك الجيوش الكبرى دوماً هو المصالح: فاليونان تزدهر تجارتها وتسيطر على حوض البحر المتوسط اقتصادياً، والملك الفارسي يريد أن يستحوذ على ما تبقى من الثروة من أيدي هذه البلاد الصغيرة الجميلة.

وهكذا ابتدأت معركة «سالاميس Salamis» في العام 480 قبل الميلاد، حين تقدم جيش الفرس الذي يضم كافة القوميات التي تستعمرها فارس، إلى بلاد اليونان، بعمارة حربية هائلة مكونة من اثنتي عشرة ألف سفينة حربية، وجيش زاحف يغطي وجه الشمس. ووقفت اليونان وحدها، وقد وحّدتْ مدنَها المتفرقةَ المصيبةُ القادمة، لتواجه تلك العمارة الهائلة، بثلاثمائة سفينة وجيش يرى كثير من جنوده أن أحشويروش هو «زيوس» رب الأرباب نفسه.

ولكن اليونانيين ـ بما طُبعوا عليه من حب الحرية حتى لو جابهوا في سبيلها الأرباب ـ تصدوا ببسالة يقدسها التاريخ إلى اليوم، لهذا الحشد الحاشد. فدارت بين الطرفين رحى حرب مستميتة، أخر فيها الإسبرطيون الثلاثمائة ـ الذين ذكرنا قصتهم بالأمس ـ تقدم الجيش الأقوى في العالم، قبل أن تحتدم «معركة سالاميس» حيث نشب الصراع الدامي المستميت بين أمة تنهض، وقوة أقوى منها بما لا يُقاس، تحاول منعها من ذلك.

ووقف الثلاثمائة إسبرطياً، حول الملك ليونيداس الأول، القائد الأسطوري المكتوب له أن يقودهم نحو موتهم وحياة اليونان: وقفوا على باب المضيق يدفعون جيش العالم ويموتون واحداً وراء الآخر، حتى يؤخروا تقدم الفرس، ويمنحوا جيوش المدن اليونانية الوقت الكافي لتعبئة قواتها، لابتداء المعركة الكبرى، معركة سالاميس.

ودارت المعركة، وشاءت الأقدار والبطولة أن تنتصر اليونان، ويعود الإمبراطور الفارسي أحشويروش إلى بلاده كسير الفؤاد، ليموت في الطريق غمّاً.

تلك كانت هي بداية النهضة اليونانية. إذ توسعت اليونان حتى صارت إمبراطورية تستحوذ على كل أوروبا وشمال أفريقيا وشرق آسيا. ثم امتدت فتوحاتها بعد ذلك لترث الإمبراطورية الفارسية، بعد أن هزم جيش الإسكندر الأكبر الدولة العظيمة، واستولي على كل ممتلكاتها في آسيا وأفريقيا.

سادساً: قصة النبوغ:

يلخص السير هنري مين (Sir Henry Maine) بصورة شديدة التكثيف، تأثير الحضارة اليونانية القديمة في حضارة العالم الحديث، بهذه الكلمات: "إذا استثنينا قوى الطبيعة العمياء، لم نجد شيئاً يتحرك في هذا العالم، إلا وهو يوناني في أصله".

فما من ميدان من ميادين الفكر والعلم والاختراع إلا وبرعت فيه اليونان، وتجاوزت كل العالم.

لقد أنجبت اليونان كل عباقرة العالم القديم ومفكريه وشعرائه، فخاضوا في كل ما يمكن للعقل أن يخوض فيه، وأسسوا لكل نظريات الفلسفة والفكر والفيزياء والفلك، وبحثوا في علوم الهندسة والرياضيات. وصور شعراؤهم العواطف أجمل تصوير: فالنساء كلهن جميلات، والأبطال كلهم لا ينهزمون، والعقل منطلق في آفاق التفكير، لا تحده الحدود. إنه يفكر في الكون ويستنتج أن له خالقاً، ويتصور هذا الخالق قويا بلا حدود، جميلاً بلا حدود، يونانياً تمام اليونانية، بل إنه يعيش في أثينا معه، وإن كان فوق قمة أعلى الجبال.

ودعونا وتذكر أن علوم الرياضيات ازدهرت في بلاد سومر، لكن اليونانيين هم من نقلوها إلى بلاد بابل.

وأن علوم الهندسة ازدهرت في مصر أولاً، لكن اليونانيين سرعان ما استفادوا منها، ونقلوها إلى بلادهم، وطوروها إلى حدود بعيدة، ثم انتقلت عن طريقهم من بعد، إلى العالم في إثر الإسكندر.

ولقد تُرجمت مؤلفات الهنود الرياضية فيما بعد إلى اللغة العربية. ثم تُرجمت مؤلفات اليونان في هذا العلم إلى تلك اللغة نفسها.

ولقد دخلت الأرقام الهندية إلى بلاد المسلمين، ثم انتقلت من هناك إلى فرنسا في العصور الوسطى.

وإن هذا الانتقال لمن أجلّ الحوادث وأعظمها شأناً في تاريخ العالم.

لقد بقيت علوم اليونان حية ـ على يد البيزنطيين ـ في بلاد الشام، حين فتحها العرب، فورثوا عن اليونان مفاتيح النقل الحضاري.

إن شأن الحضارة في تناسلها، كشأن البشر في التزاوج والتوالد والحب والتأثر ونقل الجينات، كما يقرر الزوجان ديورانت.

سابعاً: قصة البداية:

لكل شعب أسطورته الخاصة، تروي عنه أصله الأول. ولا يهم من بعد إن كان لهذه الأسطورة، أصل تاريخي أم لا: فالمهم لدينا حين نبحث في ثقافة شعب ما أن نتفهم استيهامته الكبرى عن نفسه، إذ هي التي تمنحه الشعور بما هو عليه، وما يستحق.

فالهوية نسق من الاستيهامات الجمعية، يجمع بين الناس في جامعة ثقافية، تربط وعي كل فرد بالمجموع: فالمصريون ـ على سبيل المثال ـ يعتقدون أن مصر هي أم الدنيا. والفلسطينيون يرون أنفسهم طائر فينيق لا يموت إلا انبعث من رماد الحريق. ويشبه هذا ما يقوله الرومان عن أنهم من نسل الأمير الطروادي «إينياس» الناجي الوحيد من حريق المدينة الذهبية، ليدللوا بذلك على أحقيتهم في وراثة اليونان. وكذاك الأمر بالنسبة للهنود الحمر الذين يجعلون أمريكا بلداً خلقته الشمس لهم اعترافاً بشجاعتهم حين صارعوها فهزمتهم... إلخ إلخ إلخ.

واليونانيون كذلك يمتلكون أسطورتهم الخاصة: فيزعمون أن رب الأرباب «زيوس» غضب على الجنس البشري، لما كان يقترفه من مظالم، فسلط عليه طوفاناً جائحاً، لم ينجُ منه إلا رجل واحد هو ديوكاليون (Deucalion) وزوجته ﭙيرها (Pyrrha) في فلك أو صندوق، استقر على جبل «ﭙارنسس». فأنجب ابنهما هيللن (Hellen) الذي انحدرت منه جميع القبائل اليونانية، واشتق من اسمه هيللن (Hellenes) اسم هذه القبائل مجتمعة.

وفيما بين الأعوام 1300 ـ 1100 قبل الميلاد، وكما يحدثنا هوميروس (Homeros) ـ أعظم شاعر في الدنيا ـ هزم «أغاممنون» وأبطالُ «الإلياذة» مدينة «طروادة» الآسيوية، التي كانت تتحكم في طرق التجارة. فكانت هذه الواقعة بداية للوحدة اليونانية على يد ملك الملوك «أغاممنون».

ويبدو أن هذه الوحدة قد تعثرت طويلاً، فقد رأينا من بعد ذلك اليونان دولاً عديدة، كـ«أثينا» و«إسبرطة» و«أتيكا» و«آرجوس» و«طيبة» و«كورنثوس» وغيرها، لكن هذه الوحدة سوف تتحقق تامة، بعد حوالي سبعمائة عام كاملة، وسوف تبدأ بمعركة «سالاميس» التي ذكرناها سابقاً.

ثامناً: قصة الديموقراطية:

يقول لنا التاريخ بأن أول ديموقراطية حدثت في أثينا، وأن أول من وضع مبادئها صولون (Solon) في العام 594 قبل الميلاد، حين قسم السكان إلى أربع طبقات، لكل منها حقوق محددة. ولهم الحق بأن يُنتَخبوا أعضاء في الجمعية الشعبية (البرلمان) فكان ذلك بداية لتأسيس الديموقراطية.

وبعد 87 سنة، في العام 507 قبل الميلاد، شرع الزعيم الأثيني كليسيثنس (Cleisthenes) بتوسيع الجمعية الشعبية التي أوجدها صولون، وجعلها منتخبة من الشعب. وقسم مجلس الحكم إلى عدة لجان، يتألف كل منها خمسين شخصاً، يديرون الحكم لمدة عشر سنوات وبذا فقد أنشأ أول حكومة ديموقراطية في التاريخ.

واغتبط الأثينيون أشد الاغتباط بهذه المغامرة الشاقة الخطيرة، وأقدموا عليها بشجاعة وأنفة، وباعتدال وضبط نفس.

ولقد عرفوا من ذلك الوقت لذة الحرية في العمل والقول والتفكير، وبدأوا يتزعمون بلاد اليونان كلها، لا في الآداب والفنون فحسب، بل في السياسة والحرب أيضاً؛ وتعلموا أن يطيعوا قانوناً يعبر عن إرادتهم، وأن يحبوا الدولة التي تمثل وحدتهم وسلطتهم، بحيث أن لما حاول الفرس الذين يملكون أقوى قوة في ذلك الزمن، أن يذلوا مدن اليونان المتفرقة، بفرض الجزية عليها، نسيت أن سيقاومها في أثينا رجال يمتلكون الأرض التي يفلحونها، ويسيطرون على الدولة التي تحكمهم.

أما أشهر الديموقراطيين في أثينا والعالم، فقد جاء بعد ذلك، بعد خمس سنوات من انتصار اليونانيون على الفرس في معركة سالاميس.

فما بين الأعوام 490 إلى 429 قبل الميلاد تزعم أثينا السياسي اليوناني الأشهر بيريكليس (Perikles) الذي لقبه اليونانيون فيما بعد بـ"المطوق بالمجد" ـ فتميز عصره باعتباره العصر الذهبي لأثينا في الاقتصاد والحريات والفن.

وكان بيريكليس قد وصل إلى السلطة رئيساً للحزب الشعبي في أثينا، فأظهر براعة سياسية واستقامة ونزاهة مطلقتين. وأسس لنمو الحريات الشعبية، إذ بلغت الديموقراطية في عهده أن كان معارضوه يهجونه وينعتونه بأقسى العبارات، دون أن يخشوا سطوة جلاد ولا ظلام سجن.

بنى بيريكليس الكثير من الآثار الخالدة، أهمها معبد البارثينون (Parthenon) فوق هضبة الأكروبوليس (Acropolis) فكان إحدى عجائب الدنيا السبع. وكلف بإنشائه عظماء المهندسين والفنانين. وتميز حكمه بمنجزاته السلمية، على الرغم من اضطراره لخـوض الحرب بين آن وآخر.

شجع الفنون على اختلاف أنواعها. وكان من أصدقائه النحات فيدياس (Pheidias) ـ الذي نحت أعظم تماثيل البارثينون وأشرف على الباقي ـ والكاتبان المسرحيان أرسطوفانيس وسوفوكليس. كما شجع الفلاسفة على المجاهرة بآرائهم مهما بدت مثيرة للجدل، من أمثال سقراط، الذي لم تبدأ مشاكله الا بعد وفاة بيريكليس.

تاسعاً: قصة الفلسفة:

يُقال عن الفلسفة بأنها أم العلوم. ولقد قيل هذا لأن الفلسفة كانت في العصور القديمة تبحث في كل ميادين العقل، من التأمل الجمالي، إلى البحث الهندسي والرياضي، إلى التأمل العلمي النظري، إلى صياغة القوانين السياسية، إلى التأمل العلمي المادي في الطبيعة، إلى البحث في ميادين الفلك والفضاء، إلى النظر في أصل الكون والخالق... إلخ. ولقد رأينا كل علماء الرياضيات والهندسة والدين والأدب والفن كلهم فلاسفة.

ولقد كان فيما بعد، أن ابتدأت العلوم بالاستقلال رويداً رويداً وعلى مدى قرون طويلة. ولكن هذا لم يحدث قطيعة بين الفروع العلمية إلا بعد انتهاء القرون الوسطى، وابتداء العصور الحديثة. وربما لهذا السبب رأينا الفلاسفة المسلمين في غالبهم أطباء ورياضيين وعلماء فلك وعلماء دين وشعراء، فقد تعلموا مناهج اليونانيين في التفكير، على قدر طاقتهم.

لم يكن ثمة ميدان من الميادين لم يبرع فيه اليونانيون، ولم يؤسسوا مقولاته الأولى، بما في ذلك العلوم الحربية.

ولما فتح الإسكندر المقدوني أثينا وسائر المدن اليونانية، أعلن نفسه يونانياً، مع أن اليونانيين كانوا يرونه بربرياً متوحشاً. لكنه رغم أنفهم صار يونانياً، واتخذ أرسطو معلماً له، واستكمل حروبهم في بلاد فارس فسيطر عليها، وحمل مشعل حضارتهم إلى مصر، حين تمصّر هناك. وفي واحة سيوة، أعلنه الكهنة المصريون ابناً للإله آمون، كما بنى في مصر مدينة جديدة حملت اسمه إلى اليوم، وانتقل إليها مشعل الحضارة اليونانية، الذي سينتقل منها إلى أوروبا، عن طريق شمال أفريقيا.

ولما آذنت شمس الإمبراطورية اليونانية بالمغيب، لم تغب معها شمس الحضارة، كما رأينا ذلك في الإسكندرية، فقد ماتت الإمبراطورية، وبقيت الحضارة اليونانية خالدة، كما سنرى في سطور لاحقة.

عاشراً: قصة الموطن الجديد:

وكما أن بلاد اليونان قد تعلمت في شبابها من مصر، واعترفت لها بالفضل، فإنها حين خارت قواها ماتت في أحضان مصرـ إذا جاز هذا التعبير ـ فقد مزجت في الإسكندرية فلسفتها وطقوسها الدينية وآلهتها، بنظائرها في مصر وبقايا الدين اليهودي، حتى تبعث وتحيا حياة جديدة في روما والمسيحية.

قلنا أن الإسكندر بنى في مصر مدينة باسمه (الإسكندرية) التي سوف يُقيّض لها بعد موته ـ في ظل خلفائه البطالمة ـ أن تصبح مركز الإشعاع الحضاري اليوناني في الشرق والغرب، فيقوم فيها أعظم مركز إشعاع حضاري في الزمن القديم، مكتبة الإسكندرية، لتصبح العاصمة الذهنية للعالم اليوناني، فترث تراث أثينا، وتعيد تمثّله، وتصدّره إلى أوروبا القديمة والعالم. حتى إن الحوليات المصرية الفرعونية، سوف يدونها الكاهن المصري الأكبر، في القرن الثالث قبل الميلاد باللغة اليونانية. 

ولما حان موت الإمبراطورية، تضافر على موتها عدة عوامل. وكما يقول ديورانت:

"ما من أمة عظيمة قد غُلبت على أمرها، إلا بعد أن دمرت هي نفسها. وقد دمرت بلاد اليونان نفسها، بتقطيع غاباتها، وإتلاف تربتها، واستنفاد ما في باطن أرضها من معادن ثمينة، وبتحول طرق التجارة عنها، واضطراب الحياة الاقتصادية لاختلال النظام السياسي، وفساد الديموقراطية، وانحلال الأسر الحاكمة، وفساد الأخلاق، وانعدام الروح الوطنية، ونقص السكان وتدهور قوتهم الجسمية، واستبدال الجنود المرتزقة بالجيوش الوطنية، وما أدت إليه الحروب الأهلية، من تطاحن بين الإخوة، وإتلاف لموارد البلاد، والقضاء على الكفايات بالفتن المتضادة الصماء؛ كل هذه قد استنفدت موارد «هللاس». في الوقت الذي كانت فيه الدولة الصغيرة القائمة على ضفة نهر «التيبر» والتي كانت تحكمها أرستقراطية صارمة بعيدة النظر، تدرب جحافلها القوية المجندة من طبقة المُلّاك، وتتغلب على جيرانها ومنافسيها، وتستولي على ما في البحر المتوسط من طعام ومعادن، وتزحف عاماً فعاماً على المستعمرات اليونانية في جنوبي إيطاليا".

حادي عشر: قصة الانتقال:

إذن فخلال سنوات طويلة، وخطوة وراء أخرى، كانت مستعمرات اليونان في حوض البحر المتوسط وأوروبا تسقط تباعاً بين مخالب الرومان، الجمهورية الفتية في إيطاليا، التي ولدت من رحم الحروب.

لقد كانت إيطاليا مستعمرة يونانية، لكنها نهضت وتوحدت ولملم أبناؤها شتاتهم، وأيقظوا عزيمتهم، وحرروا دولتهم ووحدوها، قبل أن يبدأوا بالتهام أطراف البحر المتوسط. وفي العام 146 قبل الميلاد، وبعد مراحل متعددة مختلفة من السيطرة والهزائم ومحاولات التوافق المتعثرة، بين المنتصر والمهزوم، استولت روما نهائياً على بلاد اليونان، بعد سلسلة من الهزائم الماحقة، التي أصابت حضارة أتلفها النعيم.

وحين استولى الرومان بعد ذلك على مصر في العام 47 قبل الميلاد كانت روما بهذا ترث كل الثقافة اليونانية مع آخر مراكزها في الإسكندرية.

لقد انتصرت روما العسكرية، لكن اليونان غلبت غالبها الهمجي ـ كما يقول هوراس ـ و"كانت الطريقة التي غزت بها بلادُ اليونان روما، أن بعثت إلى عامتها بالدين اليوناني، والمسرحيات الهزلية اليونانية؛ وإلى الطبقات العليا من أبنائها بالأخلاق وبالفلسفة اليونانية. وائتمرت هذه «الهدايا اليونانية» ــ مع الثروة الرومانية ومع الإمبراطورية الرومانية ــ على تقويض دعائم دين روما وأخلاقها.

إذن فهذا هو السر! الغزو الناعم! الغزو الجميل! لقد انهزمت اليونان أمام روما عسكرياً، لكنها انتصرت عليها حضارياً. ذلك أن الجمال ما لبث أن غلب القوة، فانتصرت آلهة الجمال اليونانية على سيف روما المسنون، وخنع السيف أمام الجمال، كما سينحني بعد قليل جبروت «يوليوس قيصر» راكعاً تحت عرش سلطان «كليوباترا» اليونانية البطلمية في مصر.

لقد انهزمت اليونان أمام روما، ولكنها ما لبثت أن جعلتها تابعة لها، ثقافياً وأدبياً. ولكي نفهم كيف حدث ذلك، دعونا نتمعن في حادثة تاريخية صورت لنا شيئاً من هذا:

لقد ذكرت المصادر التاريخية أن يوليوس قيصر حين دخل مصر فاتحاً، هالته هدية قدمتها له وصيفات كليوباترا، التي كان يجب أن تكون جاريته، وفق قانون تلك الأيام: سجادة ملكية فاخرة، ما أن فتحت طيتها حتى نهضت ممشوقة من داخلها عروس النيل، جميلة الجميلات، فأذهلت القائد الروماني المنتصر، وسيطرت على لبّه، حتى صار تابعاً لها، يسعى لتولية ابنها منه عرش روما.

لقد أذهل الجمالُ القوةَ، فغلبها وأودى بها بين مخالبه الناعمة. ولقد تمثلت كليوباترا أجدادها الأقدمين في اليونان. ولئن كان البرلمان الأثيني قد ركع أمام جمال فريني ـ في حادثة المحاكمة ـ فحريٌّ بقيصر أن يخضع لجمال حفيدتها، في واقعة الفتح!

ثاني عشر: قصة روما اليونانية:

بعثت اليونان المهزومة إلى الشعب في روما المنتصرة، الدين اليوناني، والآلهة الأقوياء، والإلٰهات الجميلات، والأساطير الجميلة، والملاحم البطولية، والمسرحيات الكوميدية.

أما للطبقات العليا في روما، فقد أرسلت اليونان الأخلاق والفلسفة.

وقد اشتركت كل هذه الهدايا الناعمة، مع الثروة الرومانية واتساع الإمبراطورية، في تقويض دعائم كل قديم ورثته روما من زمن التأسيس.

تلكم هي السبيل التي اتبعتها الحضارة اليونانية لمواصلة الحياة، وغزو أوروبا الحديثة والعالم.

وفي الدين المسيحي امتزج اليوناني المنقول بالإلٰهي النازل، على يد قسطنطين. فصارت الآلهة اليونانية شخصيات مقدسة لدى الكنيسة، بعد تغيير الأسماء؛ وصارت الأعياد اليونانية أعياداً للكنيسة؛ وصار أرسطو الشخص الذي يصوغ بعقله كل جدال كنسي في العقائد والإلٰهيات..

فلما أن سقطت القسطنطينية على يد الفاتحين الأتراك، عادت الآدابُ والفلسفة والفنون اليونانية، فانتقلت من القسطنطينية المهزومة، إلى روما، فغزت إيطاليا وأوروبا كلها في عصر النهضة.

ذلك هو المجرى الرئيسي في تاريخ الحضارة.

يقول شيشيرون الخطيب الروماني وعضو مجلس الشيوخ الأشهر، في اعترافه بانتصار الجميل على القوة:

"لم يكن منشأ الفيض الذي أقبل من بلاد اليونان إلى مدينتنا مجرى صغيراً، بل كان منشؤه نهراً خضماً من الثقافة والعلم".

ثالث عشر: قصة الإسكندرية:

لم تمت الحضارة اليونانية، حين استولت روما على بلاد اليونان، بل عاشت بعد ذلك عدة قرون، وأورثت أمم أوروبا والشرق الأدنى تراثاً ليس له مثيل.

فمن الإسكندرية صدرت الأفكار اليونانية على أيدي الرومان: فمن المتحف والمكتبة انتشرت مؤلفات شعراء اليونان، ومتصوفتهم وفلاسفتهم وعلمائهم، كما انتشرت آراؤهم على يد الطلاب والعلماء، في كل مدينة في حوض البحر المتوسط وملتقى طرقه.

لقد أخذت روما تراث اليونان في شكله الهلنستي (المهاجر) فكان كل امتداد لسلطان الرومان انتشارا للحضارة اليونانية.

فلما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية، تولت الإمبراطورية الشرقية ـ المسماة بالبيزنطية ـ مهمة مزج الحضارة اليونانية بالحضارات الآسيوية في المنطقة. ونقلت الكثير من التراث اليوناني ـ في شكله اللاتيني ـ إلى الشرق الأدنى وبلاد الصقالبة (أوروبا الشرقية).

أما المسيحيون السوريون ـ الذين تدينوا بدين المسيح في نسخته التي وصلت روما ـ فقد حملوا شعلة الحضارة اليونانية وأسلموها إلى أهلهم العرب، فترجموا كتب أرسطو وجالينوس وشيشرون وكتب علوم الفلك الكثيرة، وكتب الكيمياء... 

 وحمل العرب هذه العلوم كلها واخترقوا بها هؤلاء أفريقيا إلى أسبانيا.

وأخذ العلماء البيزنطيون والمسلمون واليهود ينقلون الروائع اليونانية إلى إيطاليا، أو يترجمونها لها، لينشئوا بها ــ أول الأمر ــ فلسفة المدرسيين، ثم يوقدون بها شعلة النهضة الأوروبية، وأخذت روح اليونان ــ منذ ميلاد العقل الأوروبي للمرة الثانية ــ تسري في الثقافة الحديثة، سرياناً بلغ من قوته أن جميع الأمم المتحضرة، أضحت اليوم مستعمرات لهلاس، في كل ما يتصل بالنشاط الذهني.

واخيراً يجدر بنا التذكير بأن فكرة الديموقراطية القائلة بقيام حكومة مسؤولة أمام المحكومين، وفكرة المحاكمة على أيدي المحلفين، والحريات المدنية التي تشمل حرية الفكر والتعبير والكتابة والاجتماع والعبادة، كل هذه قد استمدت قوتها من التاريخ اليوناني.

وتلكم هي الخصائص التي تميز اليوناني عن الشرقي، والتي وهبته استقلالاً في الروح، وفي المغامرة، جعلته يسخر من الخضوع والاستسلام لقصوره الذاتي.

انتهى بحمد الله