شيء من الفلسفة


في المعرفة القَبْلِيَّة والمعرفة البَعْدِيَّة

 

المعرفة القَبْلِيّة (من الما قبل): هي كل معرفة قبل التجربة.

المعرفة البَعْدِيّة (من الما بعد): هي كل معرفة تنتجها التجربة في العالم.

منذ طفولة التفكير البشري المنظم، ظل الفلاسفة يتنازعون بين قولين:

أحدهما يرى أن كل الأفكار إنما هي من إنتاج التجربة، أي من إنتاج الدنيا. وهؤلاء كانوا يسمون بالفلاسفة الطبيعيين، واليوم يطلقون عليهم اسم الفلاسفة الماديين.

والقول الثاني يرى أن ثمة معارف غير مكتسبة من التجربة، بل ربما لم تكن مكتسبة أصلاً، إذ يبدو أنها مخلوقة مع الإنسان في داخله الذي لا نعرف أسراره. وهؤلاء كانوا يسمونهم بالمثاليين، نسبة إلى نظرية أفلاطون في المُثُل. ولا يزالون يسمونهم بهذا الاسم.

الطريف أن الماديين يصابون بالجرب الفكري حد الجنون، حين يُتهم أحدهم بأنه مثالي. وذلك لأنهم يرون المثالية احتقاراً لعقل الإنسان، وإلقاءً بالفكر البشري المستفاد من التجربة في سلة المهملات.

وقبل الانتقال إلى تجليات هذه الأفكار اليوم، ربما يجدر بي شرح معنى نظرية المُثُل لدى أفلاطون.

اعتبر أفلاطون كل ما هو موجود في العالم محاكاة، أو إعادة تمثيل، لما هو موجود في عالم المُثُل. فالأشياء عند أفلاطون مخلوقة في ذلك العالم غير الحسي، على صورة الجمال التام، ومتعالية عن النزول إلى الدنيا. ورغم أن الإنسان كان هناك في أصله، إلا أن روحه تظل «تنشد العودة إلى موطنها الأصلي، بين الآلهة التي تسيطر على هذا العالم». ورغم أنه الآن موجود في هذا العالم الحسي، إلا أن فطرته مغروز فيها ــ بطريقة ما ــ بقايا من صور ذلك العالم الجميل، هي الأصل والمرجع الذي يقارن به كل ما يراه في عالم الواقع. فكلما واجه في هذا العالم جمالاً، اعتبرته روحه صورة باهتة عن الأصل في عالم المثال. من هنا فإن كل أفكار الإنسان، محاكاة لما كان هناك، وبدرجة ما يقارب الفرع الجديد أصله الأزلي، يكون جميلاً.

إذن فلدى الإنسان معرفة قَبْلِيّةٌ تشكل أساس المعرفة الأول. هكذا يقول المثاليون. وهكذا سيحاولون أن يدللوا على ذلك بالفلسفة، في كل العصور، خصوصاً مع انتصار العقل منذ القرن السابع عشر.

قلنا إن المعرفة القَبْلِيّة هي المعرفة المستقلة عن التجربة، وحتى عن جميع الانطباعات الحسية. فهي ليست مستمدة من شيء موجود قبلها.

ويسمي عمانوئيل كانت (Immanuel Kant) ـ الذي عاش بين 1724 ــ 1804 ـ هذا النوع من المعرفة: معرفة محضة.

والحق أنه يستحيل على الماديين أن يؤمنوا بمعارف محضة، لأنهم يعتقدون ألا شيء يوجد قبل التجربة.

والمعرفة المستمدة من التجربة يسمونها معارف أمبيرية، أو المعارف البعدية.

ربما كان الفيلسوف البريطاني المادي ديفيد هيوم (David Hume) ـ الذي عاش بين 1711 ــ 1716 ـ ألمع فيلسوف مادي في العصور الحديثة، وقد حاول أن يثبت بألا معارف قبلية البتة.

ومع تراجع الماركسية بين الماديين الغربيين، رأيت كبار فلاسفتهم في القرن العشرين، يلجأون إلى هيوم، يعيدون قراءته واستظهار تعاليمه، مثل مريدين صغار يقبلون يد شيخ الطريقة، حتى قال عنه «كانت» المثالي فيما بعد: لقد أيقظني من السبات الدوغمائي.

ولقد يفرح الماديون كثيراً بعبارة «كانت» هذه، دون أن يدركوا أن معناها مخالف لتوقعهم. فقد أثبتت فلسفة «كانت» فيما بعد أنه قضى حياته في دحض المادية بأسلوب هيوم.

لقد تعلم «كانت» من هيوم كيف يرد على هيوم، بطريقة هيوم.

ما هي المعرفة القَبْلِيَّة المحضة:

يقول عمانوئيل كانت:

هي المعرفة السابقة على كل تجربة، فلا مقدمات دنيوية تنطلق منها، بل هي مستقلة عن كل تجربة أولى.

لا يتردد الماديون كثيراً حين يرفضون هذا القول من كانت. فقد قلنا من قبل إنهم لا يؤمنون بغير العالم.

الماديون هنا ليسوا خاطئين تماماً، لكنهم في نهاية الأمر خاطئون: إذ يؤمنون إيماناً دينياً ـ يشبه إيمان راهب في صومعة ـ بأن الإنسان من إنتاج هذا العالم.

حسناً، دعونا نر كيف يثبت أبو المثالية الحديثة ذلك:

يقول:

"قضية "كل تغير له سببه" هي قضية قَبْليّة، إنما ليست محضة: لأن التغيّر مفهوم يمكن استخراجه من التجربة.

لكن التجربة لا تعطي لأحكامها كلية حقيقية وصارمة؛ بل تمنحها كلية مفترضة ومقارنة من خلال الاستقراء:

أي أن التجربة تمنحنا كلية عمومية في كل ما شاهدناه حتى الآن.

وما شاهدناه حتى الآن ـ بالغاً ما بلغ ـ هو الذي يعطينا الثقة بأن ما توصلنا إليه من عموميات كلية، حيث لم نعثر على استثناء ـ حتى الآن ـ لهذه القاعدة أو تلك.

لاحظوا الاعتراضية (حتى الآن): إنها تثير الاحتمال:

1: بما قد يكون في المستقبل

2: أو بما كان ولم نشاهده أو لم نسمع به

3: أو بما كان في مكان آخر لم تصل إليه علومنا، فالماديون يقرون بوجود عالم أوسع مما نشاهده.

إن كل واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة لقادر على نسف التحكم، نسف الحتمية التي يرى الماديون انها تاريخية (دنيوية).

ولقائل أن يقول: حسناً، لقد نسفت قدرة الماديين على الحجاج، فما أنت قائل فيما تريد إثباته؟ لقد نفيت. فأين الإثبات؟

يقول كانت كلاماً طويلاً هذا مختصره:

انزع تدريجياً كل ما هو تجريبي من مفهومك للجسم: انزع اللون، والصلابة أو الرخاوة.. انزع الوزن، واللانفاذ، فماذا سيتبقى لك؟

 سيتبقى لك المكان الذي لا يمكنك أن تزيله، المكان الذي يحتله كل الجسم.

كيف يمكنك أن تثبت الجسم، دون الرجوع إلى الاستنتاجات الدنيوية؟

ستثبت المكان الذي يحتله الجسم.

لقد أهملنا كل ما استنتجناه من هذا العالم، من معرفة ثم تبقت لدينا معرفة لم تتعلق بالتجربة، بل تثبت نفسها بنفسها، ألا وهي وجود المكان.

المكان جوهر. حتى ونحن نعرفه تعريفات مستمدة من التجربة. فكلامنا وصف للجوهر لا إثبات له: لأنه ثابت بنفسه دون حاجة إلى دليل خارجي.

الاعتراف بالمكان هو معرفة قبلية لم يستفدها الإنسان من أي تجربة.

كل هذا الفكر كانت مقدماته قد انطلقت من لدن ديكارت (1596 ــ 1650) حين أثبت الأشياء من خلال الذات، في الكوجيتو المعروف: أنا أفكر إذن أنا موجود.

 لكن قبل كل هذا، تذكروا بأن الله ـ سبحانه ـ استخدم هذا الأسلوب ببساطة شديدة، تدخل عقل الأعرابي في الصحراء، فأنتج إيماناً وحضارة هائلة.