عن سليم بركات ومحمود درويش والديناصور الأخير

 

يا لله!


ما رأيت مثل هؤلاء الفيسبوكيين العظماء: لا يحبون أن يقرأوا، لكنهم يحبون أن يكونوا مثقفين.


لا يحبون أن يفهموا، لكنهم يحبون أن يجعلوا حمقهم وعياً جمعياً عاماً.


لا يقرأون القرآن، لكنهم يفسرونه بما يُزري بالطبري والقرطبي والزمخشري وابن كثير.


يحبون النساء ويتوقون لعمل علاقات فيسبوكية معهن، لكنهم يخشون أن يكتشفوا أنهن اخواتهم.


وهم لا يبرعون في شيء ما يبرعون في صناعة النصر الكاذب، فما هو إلا أن يقصوا ويلصقوا (فوتوشوب) إلا وتراهم وقد أنتجوا نصراً عظيماً، تنبأ بهزيمة إسرائيل في الغد، وصنع من ترامب قذافي عربياً هرب أمام متظاهرين اقتحموا البيت الأبيض.


الطريف أنهم يوزعون ذلك الحمق كله، ويطلبون منك أن تؤمن به وتقرأه وتنشره!


الفيسبوكيون العظماء يصنعون في خيالاتهم كل ما يحبون، فيجعلونه واقعاً، فإن قلت إنهم حمقى، ذكروك بفضيلة التواضع.


إنهم يحبون أن يتساوى العصفور والغراب، ويشتمونك إن أبيت.


إنهم كالجن، يتلقفون الكلمة من الحق، ثم يخلطون معها ألف كذبة، فيكشفون عوراتهم، ثم يغضبون أن رأيت عوراتهم.


مناسبة هذا الكلام، تناولهم لما كتبه سليم بركات عن محمود درويش.


الفيسبوكيون العظام لا يقبلون أن يفقهوا أن ما كتبه سليم بركات عن محمود درويش كان بوحاً، وأن من تناول ما كتبه سليم بهذه الطريقة منهم، كان مجرد مريض بمرض جديد تسبب به فيروس أسلوبي تفشى مؤخراً بين الصبية، يبدو أن مصدره فيس بوك.


لقد أقنع فيس بوك الناس أن كل الأسرار مباحة، وكل الناس يستطيعون!


لاحظوا أن كل الناس يكتبون عن هذا، وكان في الماضي خاصاً جداً، لا يكتب فيه أو عنه إلا الكتاب، الذين لديهم علاقة بالأمر، أو علاقة بالحرف!


يعرف جان بيلمان نويل الأدب، بأنه: "مجموع الكتابات المرتبة بوضوح، تحت تأثير التخييل". فهل يفقه هذا من يكتبون في موضوع محمود درويش وسليم بركات؟


لكنهم اليوم كلهم يكتبون، دون أن يفقهوا أن الأدب تخييل، وأن كل عالم الأديب يتناول الحوادث عن طريق التخييل، بما يعني أن الحقيقة نفسها تصبح من عالم التخييل، ويغدو كل ما يقوله الأديب من الأدب، يعني من التخييل.


كلهم يكتبون ويحاكمون ما لا يُحاكم في أي بقعة من العالم، ولا يتوقف أحد منهم ليسأل نفسه: إن كان يحق له ذلك أم لا.


وإنها لتقنية شعورية تلك المسؤول عن صناعتها وبثها والترويج لها وحمايتها فيس بوك، بحيث صرنا نرى جيلاً بكامله يكتب قبل أن يفكر، ويشتم قبل أن يفهم، ويحب من لا يعرف إلا صورتها على البروفايل، ويكره من رأى أمثاله يكرهون. وأمثاله مجرد كتاب فيس بوك، من العالم الذي هو أقل من العادي، ويكره التميز دون أن يعرف لماذا أو كيف.


لقد فضحت غادة السمان في الماضي علاقتها السرية بغسان كنفاني، حين نشرت رسائله إليها بعد موته، فلم تراع مشاعر السيدة زوجته، ولا مشاعر السيد زوجها، لأنها كانت تعيش في زمن يقدس الكتابة، ويبحث للمبدعين عن معاذير.


لقد نظرت السيدة كنفاني إلى الرسائل في حينه على أنها أدب غادة، لا رسائل غسان. كما نظر زوج غادة إلى ما نشرته غادة على أنه تخييل، ليس بالضرورة له أن يكون حقيقة.


لكن هذا الذي كان يوماً مقدساً انهار الآن، وصار تمثال جوبيتير في أيدي صبية يتقاذفونه ويركلونه بالأقدام. وصار أولاد لا يحسنون كتابة أسمائهم، وبنات لا يملكن من قوة الإبداع إلا صورة مستعارة، لممثلة مستعارة، على حساب فيسبوكي، يحاكمون سليم بركات ومحمود درويش وغسان كنفاني!


تكتبون هذا، ثم تغضبون حين يقول المتدينون الجدد لموت محمود درويش: "نفق المدعو محمود درويش"!


وقد نسيتم الآن أنكم تقولون كما قالوه بطريقتكم الفيسبوكية، وأنتم تحاكمون سليم بركات، لأنه كتب ما لا تفقهون.


يبدو أنكم تطلبون من الأدباء أن ينزلوا إلى حضيضكم، أو تشتموهم! ولسان حالكم يقول: ولم نخشى أن نهتك المقدس بكلامنا؟ ونسيتم أن هتك المقدس حق حصري للمبدعين! لكنكم ترون أنفسكم كلكم مبدعين!


إن بنتاً تضع على (بروفايلها) صورة ممثلة شقراء، تنال لديكم شارات إعجاب أكثر من كل ما تمنحوه لكل قصائد درويش، ثم لا تخجلون أن تحاكموا الأدب، يا من لم يقرأوا من محمود درويش إلا الاقتباسات النادرة التي نكتبها نحن، فتسرقونها.


إن بنتاً واحدة من البنات ذوات (البروفايل) المنتقى، مقدسة لديكم أكثر، وتنال أعجاباً أكثر، من كل من قرأوا شعر درويش، أو قرأوا (فقهاء الظلام)؟


لم يهاجم الناس غادة السمان، حين نشرت رسائل غسان، لأنهم شعروا بأنه لا يحق لهم دخول حرم الكتابة، في أناس يمثلون رمزاً لشيء، هو أخصُّ منهم، وفي نفس الوقت أوسع وأكثر عمومية، بحيث لا يمكنه أن يخصَّ كلاً منهم إلا بمقدار ضئيل.

أ

ما الآن فكل من على فيس بوك يملك عالمه الخاص، الذي يقنعه بأنه أعظم من كل المقدسين.


لقد كتب سليم بركات بوحاً، في عالم لم يعد يعترف بالبوح. ولقد باح محمود درويش لصديقه بسر، ربما ليحمّله أمانة ألا تتعرف ابنته على أب ربما كان لها ان تفتخر به في زمن أجمل.


والحق أن سليم بركات كتب نصاً، لعالم لم يعد موجوداً..


مادتي هذه من ذلك النوع الذي مات وظنه سليم بركات ما يزال حياً..


هل تعلمون كم مرة فكرت في اعتزال هذا العالم، الذي يعشق إيذاء من لا يستطيع أن يكون دنيئاً بمستواه؟


إنه جيل ليس مهزوم الروح فحسب، بل مهزوم القيم والأمل والغد، جيل ينتحر مثل ديناصورات تتوق أن تحلق، لكن أدواتها لا تسمح لها بأكثر من زحف بطيء يقودها نحو الانقراض، لصالح مخلوقات أثبتت جدارتها بالحياة.


أتخيل الديناصورات وقد اجتمعن في حفلة أخيرة، وقررن الإضراب عن الطعام حتى الموت.


لقد كانت تتوق إلى التحليق، لكنها لم تستحقه.