في فيس بوك: مجتمع الأقنعة


قد تعجبون إن صارحتكم بأنني أتابع بتأمل دقيق تحولات الأفكار لدى أبنائنا المهاجرين إلى الغرب.

فالهجرة مرض، والمرض محتاج إلى دراسة أعراضه.

يهاجر المهاجر الفلسطيني يائساً محطماً، يبحث عن فرصة للعيش وحرية للقول، ويعد نفسه وهو يخوض البحر ـ أو الاحتمالات المهلكة الأخرى ـ أنه لن يعود إلى العمى، بعد أن رأى الحقيقة تخط حروفها القاسية على جلده.

لقد هاجر لأنه اقتنع أن حياته هنا ـ كما حياة الناس ـ مستحيلة وسط هذا الحجم من الأكاذيب والتجارة السياسية والبطالة.

بمجرد أن يستقر ويظن نفسه آمناً، يعود كالكافرين على شفير جهنم، يعود لما نُهي عنه. ويبدأ في استعادة ما كان قد كفر به، وتراه يزداد تشدداً، فيطلب ممن لم يهاجروا أن يصبروا على ما لم يصبر عليه. ثم تعود رحلة الشتيمة إلى لسانه، ذات الرحلة التي وعد نفسه بأن ينساها يوم أن عرف كم هي كاذبة.

الآن هو جالسٌ آمن، وعلى الذين لم يعانوا معاناته ـ هكذا ينظر إليكم ـ أن يدفعوا أكثر مما دفع: فيموتوا جوعاً وقهراً، لعله يرجع ليترأس الكيان الجديد، على حطام ما تبقى ممن كانوا ذات يوم أهله.

وقلما رأيت مهاجراً إلى الغرب هرب من ظلم ذوي القربى، إلا وعاد يشكرهم ويهاجم خصومهم، بعد أن ظنَّ أنه نجا مما كان هرب منه.

الغائب الكبير في هذا الواقع هو الشرف. والكاذب الأكبر فيه أن تظن أن ذويك هناك هم ذووك الحقيقيون.

لقد كانوا ذويك حين كانوا عندك، يتعرضون لما تتعرض له.

الآن هم غيرهم. فلا تحزن. لأن هذا أحد تجليات كتاب الله على الناس في الأزل. وكتاب الله لم يكن له ليتخلف.

ولذلك كان المنشور التالي:

***

قد تتساءلون عن حقيقة ما انتهيتُ إليه في ختام منشوري الأخير، عن كتاب الله الأزلي على الناس، وكيف يبدو يوم يبدو.

فأقرأوا الآتي من مشهد يوم القيامة:

﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴿27﴾ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴿28﴾ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴿29﴾ (الأنعام/27 ــ 29).

ولو ترى يا محمد ـ أو يا من يَتَأتّى له يومئذ أن يرى ـ هذه الجِبِلَّاتِ الخبيثةَ وقد وقفت على شفير جهنم، فعايَنَتْها وصدقتها وعلمت أنها قد أُعِدَّت لها.

لو تراهم ثَمَّةَ، إذن لرأيتَ عجباً: قوماً يعلنون أمانيهم الجديدة بالعود إلى الدنيا، ليعملوا صالحاً، بما لن يعود بهم إلى هنا مرة أخرى.

أتصورهم وهم يعدون ـ لحظتئذٍ ـ وهم يعدون بأن يكونوا أشكر من الأنبياء، وأصدقَ من الأولياء، وأخلَصَ من الصِّدِّيقين.

والحقيقة هي غير ما يكذبون، الحقيقة أنْ قد بدت الآن لهم أعمالُهم، كم كانت قبيحةً من منظور الحق والخير والجمال، الذي لم يملكوه في الدنيا، وصار الآن أمامهم يرونه ولا يؤمنون به، وإن ظنوا انهم يؤمنون به.

لو رأيتَ إليهم ـ يا محمد ويا كل من تَأتّى له يومئذ أن يرى ـ وهم يرون إلى اللحظة القديمة التي نسوها، في خضم كفرهم المستكبر في الدنيا، اللحظةَ التي نزعهم فيها ربُّهم من أصلاب آبائهم فـ﴿أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ (الأعراف/172).

الآن اعترفوا بعد أن رأوا الكتاب فتذكروه، فوعدوا أنهم إن أعيدوا إلى الدنيا، ليُصلِحُنُّ من سلوكهم. فقال الله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾، من الكفر والتكذيب.

فهم الآن ـ حتى على شفير جهنم ـ كاذبون: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.

ووالله لو عاد فرعون إلى الدنيا لعاد يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ (القصص/38).

ولذلك كان المنشور التالي:

****

في فيس بوك، قلما رأيت مختلفاً يقتنع برأي غير رأي نفسه.

في فيس بك، قلما رأيت مخالفاً سياسياً اقتنع بغير رأي حزبه.

لا جدوى من تكرار المحاولة، للتوصل إلى قناعات مشتركة جديدة، سوى زيادة الاختلاف وامتلاء القلوب مرارة ويأساً.

الحقيقة الفيسبوكية الوحيدة تقول: كل مختلف هو بذاءةٌ في انتظار التحقق.

هذه الحقيقة توشك أن تكون حتمية، أقدر دقتها بنسبة تتجاوز الـ90%

حين تتعامل مع مجتمع من هذا النوع فعليك بالاحتياط، بقوة ما ترفض استقبال من ينتمون لعائلات محددة جاءوا يصاهرونك.

انتبه فأنت معرض للبذاءة.

فلا تتردد في الحظر لأدنى اختلاف. فأنت وسط هذا المجتمع غير آمن ولا أمين.

وسيعزيك عن نسبة الخطأ في تقديراتك، تذكرك أن من تحظرهم ـ في نهاية الأمر ـ لن يدخلوا النار، كما أن من تبقيهم لن يدخلوا الجنة.

هكذا تصنع عالمك في فيس بوك، وتلك شروطك. وهذه ليست الدولة الفلسطينية الإسلامية الديموقراطية المحررة، وأنت لست رئيسها. ولكل مختلف صفحته الخاصة، يعلن فيها رأيه بقوة ما لديه من منطق أو ابتذال..