قصة كاذبة في حرية الإرادة

 

وُلد بين أبوين فقيرين، فلم يمتلك من أسباب الحياة سوى حمار وعربة، أورثه أبوه إياهما، فيما قررت له حريةُ إرادته أن يشتغل عالم فضاء. فكافح في عمله في النقليات وادخر ما يستطيع حتى اشترى سيارة، واشتغل سائقاً على الخط، في دولة الانقسام.

لقد قرر أن يشتغل عالم فضاء. ولا بد من شهادة جامعية. والجامعة لها رسوم. فهنا قال لإرادته الحرة:

ـ أليست الرسوم عللاً تكبح من حرية الإرادة؟

بصقت حرية الإرادة بين عينيه وقالت:

ـ اذهب وادخل تنظيماً من تنظيمات المتدينين الجدد، وتقرب من الأمير، وأطلق ذقنك، واجعلها عشوائية شعثاء دون ترتيب.

فسأل إرادته الحرة:

ـ لكني وُلدت حراً، فكيف أُجبر على التعامل مع أمير رائحة فمه تطخ الضبع، ويرش على ثوبه عطراً برائحة براز الكلاب؟

فقالت له إرادته الحرة:

ـ دع عنك الحمق، فالإرادة الحرة تعني أن تفعل ما لا تحب، لكي تصل إلى ما ترغب.

ـ لا بأس يا إرادتي الحرة ـ حدث نفسه الحرة ـ سأفعل ما تقولين.

تقرب من الأمير، وصار يصلي وراءه صلاتي الفجر والعشاء، ويغمض عينيه ويتخاضع، رغم ان الأمير لن يستطيع أن يترك الإمامة وينظر في وجهه ليرى إن كان متخاشعاً بالفعل، لكنه رآهم يتخاشعون فتخاشع.

طالت المدة والأمير لم يشهد له بالإيمان بعد.

مرت سنتان إلى أن رأى ابتسامته تلوح من وراء شارب الأمير المحفوف. فعلم أنه نال شهادة الإيمان. فقال لإرادته الحرة:

ـ أمن الضروري أن أكون منافقاً لأشتغل عالم فضاء؟

ابتسمت إرادته الحرة من ضعفه في الفلسفة ـ وعذرته لأن المدارس في غزة لا تعلم الفلسفة ـ لكنها قالت له:

ـ إن أهم درس يجب أن تتعلمه هو أن كل الطبائع دائرية الشكل، فكل طبع ينتهي إلى نقيضه، كما تلتقي ألاسكا في أقصى الشرق، بأمريكا الشمالية في أقصى الغرب.

قال عالم الفضاء الذي يشتغل سواقاً على الخط:

ـ لست أفهم.

قالت إرادته الحرة:

ـ ليس مهماً أن تفهم، إن كنت تريد أن تكون حر الإرادة.

أخيراً نال وصية الأمير، فدخل الجامعة بعد أن دُفعت له الرسوم. ثم تخرج بعد خمس سنوات، وقرر أن يحاول السفر إلى أوروبا، ليتعلم هناك عالم فضاء. فذهب إلى الأمير، فأعطاه الأمير ورقة لمراجعة الكبار، فمنحوه الإذن بالسفر، لكن عند المعبر رفض المصريون إدخاله، باعتباره متطرفاً.

رجع عالم الفضاء المستقبلي، صاحب الإرادة الحرة، الذي يشتغل سائقاً على الخط، ويتلمظ وهو ينظر إلى مؤخرات النساء، لكن كتم شهواته التي قال له الأمير إنها خبيثة.

ماذا يفعل. أخذ يفكر بعمق رائد الفضاء المستقبلي الذي يشتغل سواقاً على الخط، ويتأمل مؤخرات النساء، حتى توصل أخيراً إلى الحل، وقرر أن يشتغل جاسوساً، ليقول عنه اليهود بأنه غير متطرف، لعل ذلك يقنع المصريين فيمنحونه الإذن بدخول المعبر.

مرت ثلاث سنوات وهو يقدم المعلومات التافهة التي بحوزته، وسئم منه ضابط الارتباط اليهودي فقال له:

ـ غُر من وجهي وسافر، وستجد الأبواب مفتحة لك، وهاك رقم أورانج دولي تتصل من خلاله بي.

ومنحه القليل من المال، بما يوازي نشاطه الضعيف، الذي لم يمكنه أكثر من قتل اثنين كانا يركبان فزبة.

عند الوصول إلى المعبر، اعتقله حزب المتدينين الجدد، وفحصوا شريحة الأورانج، فسجنوه بعد أن أطعموه الخراء السائل.

قال عالم الفضاء المستقبلي الجاسوس المسجون لإرادته الحرة:

ـ ما العمل مع هؤلاء الجبريين الذين لا يؤمنون بحرية الإرادة؟

قالت له إرادته الحرة:

ـ لا بأس، لن تمكث طويلاً فنحن نعرف ما سيحدث.

وبالفعل لم تمض سنتان إلا وقامت ثورة الجياع، فأزالت حكم المتدينين الجدد، وخرج بعفو عام. وسافر، لكن ضبطه المصريون وقال له المحقق:

ـ يا ابن الهرمة، أنت عضو في خلية الجواسيس التي اغتالت يحيى عياش.

فقال للمحقق:

ـ أمي لم تكن هرمة، بل ماتت جميلة قبل أن تبلغ الأربعين. والذي قتل يحيى عياش تعرفونه.

بصق المحقق في وجهه، وأطلق عليه الكلاب فضاجعته، إلى أن اعترف بأنه هو الذي قتل يحيى عياش.

حبسه المصريون عشرين عاماً، فلما خرج ـ وقد صار عمره خمسين عاماً ـ رحلوه إلى إسرائيل. وفي إسرائيل هناك اكتشف أنه صار يعشق أن تضاجعه الكلاب. ولم يزل الرجل مريداً حراً مقرراً أن يشتغل عالم فضاء.

في إسرائيل اشتغل مضاجع كلاب، عشرة أعوام أخرى، وادخر المال اللازم للسفر. وقرر أن يسافر هذه المرة إلى أمريكا، وقد صار عمره ستين.

ذهب إلى القنصلية الأمريكية وطلب تأشيرة للسفر، فالتقاه ضابط الأمن، واشترط عليه أن يطخ الشيخ خضر. فذهب إلى الشيخ خضر، فطخه الشيخ خضر.

الآن هو ينازع سكرات الموت، ويكتشف بأن إرادته الحرة هي من قتلته، وأنها هي من سيذهب به إلى الجحيم.