عظماء ولكن

 


لقد كانوا عظماء حقاً.. ولكنني أتساءل: ألم تكن الأوثان تماثيل لرجال عظماء حقاً؟. ألم يكن يغوث ويعوق ونسر رجالا صالحين، قبل أن يتوفاهم الله، فيعبدهم البشر؟ لا جرم أن يغوث ويعوق ونسر ليسوا مدانين بعبادة الناس إياهم، فآخر ما كانوا يفكرون فيه ــ طوال حيواتهم الصالحة ــ أن يتحولوا إلى آلهة من دون الله.


والمسيح عيسى بن مريم ــ عليه السلام ــ ألم يكن نبي الله حقاً؟ ألم يكن مجرد بشر أرسله الله بالهداية إلى الناس، فعبدوه؟. لم يقل النبي الكريم لقومه أن يعبدوه، بل حذرهم، كما يدل على ذلك براءته من أعمالهم يوم  القيامة كما هو واضح في هذه الآيات:


"وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم"(المائدة/116 ــ 118).


لا مكان في دين الله لمن يقدس غير المقدس. فالآيات واضحة صريحة، وها هو قول نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجه البخاري.


فماذا حدث لكي نطري من هم دون الرسول فنرفعهم عن المساءلة والبحث! أليس حقا أن هذه وثنية؟


إننا نطري الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ بأكثر مما يحتمله العقل البشري، وبأكثر مما يرضي دين الله. فنحن لا نقبل مجرد الشك في نوايا أي منهم، مهما صغرت درجته، ومهما كانت صحبته محل شك، ومهما عمل من الأعمال التي لو عمل عشر معشارها غيره لصببنا على رأسه اللعنات. والألعن من هذا أننا نقبل كل ما يقوله على أنه حقيقة لا تحتمل النقاش أو التأويل. أليس حقا أن هذه وثنية؟


ثم دعونا ننتقل إلى البخاري ومسلم، وهما رجلان صالحان، قضيا وقتا طويلا واستنفدا جهدا عظيما، في جمع الأحاديث النبوية، فكان ما جمعاه عظيما حقا. لكنه كان من فعل البشر. فكيف تأتى لنا أن نرجم كل من ناقش في صحة حديث من أحاديثهما؟ وهل كان الرجلان معصومين حتى لا يحتمل عملاهما الخطأ؟ فلماذا يظن بعض من يدرسون الحديث أنهم إنما يدرسون نصا موازيا ومساويا للقرآن؟ أفي سبيل أن يؤمنوا لجهالاتهم مناصب كهنوتية؛ يحولون الإسلام إلى ملكية خاصة؟ أليس حقا أن هذه وثنية؟


سيقول البعض بأنهم لم يقولوا ذلك، ولكنهم قالوا، وهموا بما لم ينالوا. وحتى لو لم يقولوا فقد صدقوا من قال أكثر من تصديقه نفسه. لقد أخطأ العلامة المرحوم ابن الصلاح الحقيقة، حين اعتبر وجوب الإيمان بصحة ما في البخاري ومسلم إجماعاً. وعلل ذلك بتلقي الأمة لهما بالقبول جيلا بعد جيل، معتبرا هذا التلقي يشبه الإجماع. وما يشبه الإجماع في نظره هو إجماع!!!..


لقد أخطأ الرجل الذي ليس صحابيا (مقدسا) ولا نبيا مرسلا.  لكن هذا الخطأ بالذات هو ما يحاول البعض أن يقتدوا به، فيجعلوه ديناً، أئذا قال أحد ما بأن ما في البخاري ومسلم هو كلام النبي حقا، دون أي شك، يكون كلامه موجبا للاتباع؟


 لقد أخطأ الرجل الذي ليس صحابيا (مقدسا) ولا نبيا مرسلا. بل إن خطأه تطور تطورا ملحوظا حين تطرف فاعتبر أن الإيمان بما في أحدهما (البخاري ومسلم)، هو كالإيمان بكليهما، موجب للعلم اليقيني، المنشئ للعقائد والتصورات، مثل آيات القرآن تماما، ألا يكون ابن الصلاح بهذا قد رفع الكتابين إلى مستوى القرآن، دون أن يقصد؟


وهؤلاء الذين نقلوا كلامه واتبعوه على ظاهره، ألا يعني كلامهم هذا أن تقديس مبلغ كلام النبي كتقديس كلام النبي؟ وبلا شك سوف يكون ــ على هذا ــ تقديس ما يقال عنه كلام النبي كتقديس كلام الله... إلى آخر هذه المتوالية التي سوف تصل إلى القول بأن تقديس كلام ناقل الحديث هو نوع من تقديس الله شخصيا. يقولون هذا ثم يزعمون أنهم ليسوا كهانا يطلبون عبادة من دون الله! ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.


لن يدين الله الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ بعبادة الناس إياهم. وإني لأظنهم سيقتدون يوم القيامة بعيسى بن مريم عليه السلام، ويتبرأون من كل من قدسهم. فطوبى لهم. وخسرانا لكل من قدس غير المقدس.


"قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً* أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً"(الكهف/103 ــ 105)


والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.