من مِشْكاةِ النبوّة

حديث جريج الراهب

 

الثلاثاء 11 أكتوبر 2022

 

قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه:

"حدثنا زهير بن حرب: حدثنا يزيد بن هارون: أخبرنا جرير بن حازم: حدثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ، وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَوْمعةً، فَكانَ فيها، فأتَتْهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: أيْ رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فقالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ، فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قالَ: فَتَعَرَّضَتْ له، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، فأتَتْ راعِيًا كانَ يَأْوِي إلى صَوْمعتِهِ، فأمْكَنَتْهُ مِن نَفْسِها، فَوَقَعَ عليها فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا ولَدَتْ قالَتْ: هو مِن جُرَيْجٍ، فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فقالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: زَنَيْتَ بهذِه البَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فقالَ: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاؤُوا به، فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، قالَ: فأقْبَلُوا علَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ويَتَمَسَّحُونَ به، وقالوا: نَبْنِي لكَ صَوْمعتَكَ مِن ذَهَبٍ، قالَ: لا، أعِيدُوها مِن طِينٍ كما كانَتْ، فَفَعَلُوا"([1]).

أولاً: في درس الإسناد:

حين قال الإمام مسلم بن الحجاج: «حدثنا زهير بن حرب» فمعنى هذه الصيغة أنه سمع منه مباشرة فماً لأذن.

و«زهير بن حرب» هذا هو: الثقة الثبت «أبو خيثمة: زهير بن حرب بن شداد الحرشي». (160ه ــ 234ه). وقد سمع زهير هذا الحديث من يزيد بن هارون.

و«يزيد بن هارون» هو الثقة المتقن: «أبو خالد: يزيد بن هارون بن زاذي بن ثابت الواسطي». (117ه ــ 206ه). ويزيد أخبره بهذا «جرير بن حازم». وصيغة «أخبرنا» عند الإمام مسلم تعني: «قرأ عليّ»، أو «قرأت عليه».

و«جرير بن حازم» هذا هو: الثقة: «أبو النضر جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله بن شجاع، الأزدي». (توفي عام 170ه) عاش في البصرة ثم مصر. سمع هذا من محمد بن سيرين.

و«محمد بن سيرين» هو الثقة الثبت كبير المقام الإمام الحافظ: أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري مولى أنس بن مالك رضي الله عنه من كبار التابعين (3ه ــ 110)، من تلاميذ أبي هريرة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمع هذا منه مبكراً قبل أن يصطلح الناس على أن العنعنة تحتمل غير السماع المباشر.

فأنت ترى هذه السلسلة من الحفاظ، التي يحمل اللاحق فيها الخبر عن السابق، حتى يؤدي ذلك إلى من سمع رسول الله من أصحابه.

وليس هذا الإسناد الوحيد لهذا الخبر بل ثمة أسانيد أخرى له في الصحيحين مما يجعل الخبر مشهوراً

ثانياً: في درس المعنى:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ. وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِداً".

فها أنت ترى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم أخذ في عرض قصة جريج، قبل أن يبين لنا من هو الشخص الثالث الذي تكلم في المهد. والحقيقة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بين لنا من هو الثالث الذي تكلم في المهد، بعد أن أتم سرده لقصة الراهب جريج، فقال:

"وبيْنا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِن أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ راكِبٌ علَى دابَّةٍ فارِهَةٍ، وشارَةٍ حَسَنَةٍ، فقالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هذا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وأَقْبَلَ إلَيْهِ، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فقالَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أقْبَلَ علَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ. قالَ: فَكَأَنِّي أنْظُرُ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وهو يَحْكِي ارْتِضاعَهُ بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ في فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّها. قالَ: ومَرُّوا بجارِيَةٍ وهُمْ يَضْرِبُونَها ويقولونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وهي تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، فقالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَها، فَتَرَكَ الرَّضاعَ ونَظَرَ إلَيْها، فقالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَها، فَهُناكَ تَراجَعا الحَدِيثَ، فقالَتْ: حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ فَقُلتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ومَرُّوا بهذِه الأمَةِ وهُمْ يَضْرِبُونَها ويقولونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَها فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَها"([2]).

إذن فهم ثلاثة نعرف أولهم عيسى بن مريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي ذكر قصته القرآن، ثم جُرَيْج هذا الذي سنشرح ما صار معه، ثم الطفل الذي تكلم وهو يرضع من ثدي أمه. وسنشرح قصته بعد إتمامنا لحديث جريج.

يقول تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (الأعراف/159). ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة/8).

فهذا الراهب من بني إسرائيل. وليس كلُّ بني إسرائيل كما علمكم الخطباء الحمقى، الذي يسمعون تُرَّهاتٍ فينقلونها لكم. ولو عدلوا لعلموا أن أعظم أمة تدخل الجنة، بعد أمة محمد هم قوم موسى. وقد سبق أن عرضنا لكم حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال فيه:

"عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ، إذْ رُفِعَ لي سَوادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي، فقِيلَ لِي: هذا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وقَوْمُهُ"([3]).

فهذا جريج. وتلك البغيُّ التي سقت الكلب فشكر الله لها. وذلك الرجل الذي قتل مائة نفس وهاجر فانزوت له الأرض. والذي عنده علم من الكتاب، الذي قال لنبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم حين طلب عرش ملكة سبأ: ﴿أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ (النمل/40). وأولئك الرِّبِّيُّون الذين قال الله فيهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران/146). كل أولئك من بني إسرائيل، مثلهم كمثل قارون، والرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها... إلخ. والأمثلة لا تُحصى.

وإنما كفر بنو إسرائيل حين أدركوا رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يؤمنوا بها. وقبلهم أعداد كفرت بموسى وعيسى من بعده. أما جمهورهم فمؤمن مصدق بما في كتاب الله وبشائره. ولا حاجة لتذكيركم أنهم الآن كافرون معتدون، نقاتلهم لعدوانهم لا لكفرهم.

فأما جُرَيْج هذا، فكان من بني إسرائيل، من أولياء الله.

شرح معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ. وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِداً".

المعنى أنَّ صاحب جُرَيْج هو الذي تكلم في المهد. فدعونا ننظر من هو جُرَيْج هذا ومن صاحبه، من الحديث.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِداً، فاتَّخَذَ صَوْمعةً، فَكانَ فيها، فأتَتْهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: أيْ رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فقالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ"

الشرح:

فجُرَيْج إذن عابد راهب من رهبان بني إسرائيل، كما سيقول النص بعد قليل. فاتخذ له صومعة. وهي بيت عبادة للمنفرد عن الناس من عباد أهل الكتاب. وقد وُجد كثير منهم في التاريخ، فكانوا زاهدين متقين ينتظرون مبعث النبي الأٌمّي صلى الله عليه وسلم. وفي مثلهم قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾ (الحج/40).

فأتَتْهُ أُمُّهُ من بيتها إلى صومعته تناديه، فلها إليه حاجة. فنادته ثلاث مرات، وهو مشغول عنها بمناجاة ربه؛ فلم يُجِبْها، وظنَّ أن لا بأس عليه أن لا يردَّ عليها، ما دام في عبادة ـ فذهب جُرَيْج وأتانا متدينون جدد كاذبون، يعصون أمهاتهم في طاعة الحزب ـ فغضبت منه أُمُّه، ودعت عليه بأن يبتليه الله برؤية وجوه البغايا. وفي رواية أخرى لمسلم قال أبو هريرة: "ولو دَعَتْ عليه أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ".

ولكن لم يَهُن على أمه أن تدعو عليه بأكثر من رؤية وجوه البغايا. كأنها قالت في نفسها: أيها العابد الذي لا يفقه قيمة أمه، إن عبادتك ناقصة، ولو انشغلت عني بالصلاة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجاً وعِبادَتَهُ. وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ"

الشرح:

فاستجاب الله دعاءَ أُمِّ جُرَيْج، وأَمَرَ الأسبابَ أن تفعل فعلها. فكان من ذلك أن جلس بنو إسرائيل يمتدحون جُرَيْجاً وعبادته. وسمعتهم بغيُّ يُضرب بجمالها المثل، فعرضت عليهم أن تغويه، لتثبت لهم أن جمالها أقوى من عبادته. ولعلهم جعلوا لها جُعْلاً إن نجحت. وهكذا تَجَنَّدَتِ الأسبابٌ لنصرة أُمٍّ نادت ولدها، فانشغل عنها بصلاته.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَعَرَّضَتْ له، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها. فأتَتْ راعِياً كانَ يَأْوِي إلى صَوْمعتِهِ، فأمْكَنَتْهُ مِن نَفْسِها، فَوَقَعَ عليها فَحَمَلَتْ"

الشرح:

تعرضت المومس للعابد، وحاولت إغواءه، لتنال جُعلها وتكسب المراهنة، فاستعصم جُرَيْج. وإنّي لأَتَصَوَّرُ أنها الآن مَغِيْظَةٌ وقد كانت واثقة، فتلفتت حولها تبحث عن مُتَنَفَّس لغيظها، فلم تجد سوى الراعي.

هو راعٍ فقيرٌ متشردٌ لا أهل له ولا بيت. فكأنْ طلب من جُرَيْج الراهب المعتزل، أن يسمح له بأن يبيت في صومعته، لوجه الله. ورغم أن الصومعة خُلقت للاعتزال، إلا أن جُرَيْجاً رأى أن إيواء من لا بيت له، يفوق اعتزال الناس ثواباً. فسمح له بأن يأوي إلى صومعته، فينام فيها. فجاءت البغيُّ الجميلةُ، فَعرضت نفسها على الراعي ـ ربما في لحظة يخرج فيها جُرَيْجٌ لقضاء حاجة له في الخلاء، أو يغيب فيها عن الوجود إلى عالم الشهود ـ فوقع الراعي على المومس.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَّا ولَدَتْ قالَتْ: هو مِن جُرَيْجٍ، فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ"

الشرح:

فحملت المومس ووضعت وليدها، فحاكمها بنو إسرائيل بتهمة الزنا. وكانت عقوبة الزنا في شريعتهم الرجم. ولا أعلم أكان جلدٌ للبكر في شريعتهم أم لا.

ويبدو أن كان الرجم لكليهما، لِما تقرر من رفع شريعتنا كلَّ إصرٍ، بما يشير إلى أنها خففت رجم التوراة للبكر إلى الجلد، وأبقت عليه للثيب.

واللافت ها هنا أنهم سألوا المومس قبل أن يقيموا عليها الحد، عن الذي فَجَر بها. وهذا ليس في شريعتنا، وربما كان من الإصر الذي في شريعتهم. ففي شريعة النبيّ الأُمِّيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير مسموح سؤال الزاني أو الزانية عن الشريك، وليبقَ في ستر الله، لعل الله يغفر له دون حَدٍّ.

قد سألوا المومس ـ إذن ـ عمن فجر بها، فزعمت أنّه جُريج. وتلك طبائع المتدينين الكاذبين: يتخذون الكراهية ديناً، ويبتهجون بكل رذيلة تصيب عباد الله، فيشيعونها ويعاقبون عليها، بما لم يعاقب به الله.

ذهب بنو إسرائيل إلى صومعة جُرَيْج، فطلبوا منه النزول إليهم، فنزل، فأخذوا يضربونه ويهدمون صومعته. وإنّي لأَتصور أن من كان يقود هذه التظاهرة المقيتة، أولئك النفر الذين راهنوا المومس على فتنة جُرَيْج. لكنهم أضافوا إلى أنفسهم هيئة المجتمع، ممثلة في جمهور الغوغاء، بما يذكّرني بما كانت الغوغاء تفعل، بالنسوة اللاتي أعدمهن فجور الثورات الكذوب.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: زَنَيْتَ بهذِه البَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فقالَ: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاؤُوا به، فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي. قالَ: فأقْبَلُوا علَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ويَتَمَسَّحُونَ به، وقالوا: نَبْنِي لكَ صَوْمعتَكَ مِن ذَهَبٍ، قالَ: لا، أعِيدُوها مِن طِينٍ كما كانَتْ، فَفَعَلُوا"

الشرح:

لم تكن أُمّ جُرَيْجٍ قد دعت عليه ـ إذ أهمل دعاءها لانشغاله بصلاته ـ سوى بألا يموت حتى يُريه اللهُ وجوه المومسات. وها قد رأى الوليُّ الطاهر وجوهَ المومسات. فأي عذاب! والحمد لله أن لم تدعُ أُمُّهُ عليه بأن يقع في الزنا، فإذن لوقع. لكن لم يهن عليها، فاكتفت من ربها بذلك.

لا أعلم إن كان جُرَيْجٌ يعلم بدعاء أمه. وربما لو سمع دعاءها يومئذ لاستغفرها. لكنه الآن في وضع مُزْرٍ، بين فُسّاق يزعمون أنّهم متدينون، يشبهون المتدينين الجدد في هذه الأيام. وأسأل الله ألا يحكم عليكم فساق في ثياب متدينين. وإن لأتصور أن جُرَيْجاً سأل الفساق مذهولاً:

ــ ماذا تفعلون، ولِمَ؟

وأتصور أنهم أجابوه من صميم غيظ الشقيّ من الوَلِيِّ:

ــ أيها العابد الكاذب، منذ زمن وأنت ترى نفسك خيراً منا، فالآن اتضحت حقيقتك، واستوينا. ألا ترى إلى شنيع فعلك؟ تزني بهذه المرأة المسكينة وتحبل منك، فتُنكر ولدك وجريمتك؟

فطلب جُرَيْجٌ منهم أن يدعوه يصلي، فصلى وناجى مولاه، ثم طلب الطفل حديث الولادة، فوخزه بإصبعه في بطنه، وقال له:

ــ يا غلام، من أبوك؟

فنطق الرضيع وقال:

ــ فلان الراعي.

فأقبل الفساق على العابد يقبلونه ويتبركون به ـ كعادة فساق كل زمن ـ ويطلبون منه أن يسمح لهم بأن يبنوا صومعته من ذهب. فأبى جُرَيْجٌ رشوتهم، وطلب منهم أن يعيدوها من طين كما كانت.

وما لم يقله الحديث أن الفساق كانوا الحاكمين، وإلا فبأي سلطة يقيمون الحدود، وكيف يملكون أن يبنوا له صومعة من ذهب.

سلام لعشاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.


[1]ـ متفق عليه. واللفظ لمسلم.

[2]ـ متفق عليه. واللفظ لمسلم.

[3]ـ متفق عليه. واللفظ لمسلم.