• فنون
  • 6972 قراءة
  • 05:12 - 22 نوفمبر, 2014

فوق الشوك

 

حليم يعيد كتابة سيرة العشاق على مر الزمن

 


مقدمة:

قبل أن ينطلق صوت حليم بالغناء، وحين ندقق الاستماع جيدا، فسوف نلاحظ أن آهات العندليب، في أغنية فوق الشوك، ترافق الأوركسترا، في بداية كل لازمة موسيقية، تسبق الكلمات. طبعاً نحن لا ننسى عبقرية عبد الوهاب هنا. إن (الأستاذ) يدرك، بحسه العميق، أن صوت حليم أعذب من الموسيقى، فإذا كان لا بد من الموسيقى، فليمهرها بآلة إلـٰهية، لم يخترعها البشر، منحها الله للناس، ليتفكروا في جمال الكون وروعة الإنسان. ونحن نعلم ــ بالطبع ــ أن هذه الآلة هي صوت حليم، الذي صنعه الله ولم يصنعه البشر.

فلنتذكر جيداً أن حليم درس الموسيقى، وعلّمها في المدارس، وكان عازفا على آلة الأبوا. ولنتذكر جميعاً أن صوت حليم ضعيف، لا يستطيع أن يباري ــ من حيث القوة ــ الأصواتَ القوية الأخرى في الساحة الغنائية، كوديع الصافي وأم كلثوم... لكن حليم يحول هذا الضعف إلى ميزة، بالضبط كما يجعل الله سره في أضعف خلقه. إذ لم يكتف هذا الصوت الضعيف، بالوقوف بموازاة كل الأصوات القوية في زمنه، بل إنه تفوق عليها جميعاً، حتى أوشك أن يزلزل عرش (الست)، بما لا تستطيع أن تتجاوزه ولا أن تقاربه. ولله في خلقه شؤون، فهو سبحانه الذي جعلنا نحب شجرة الجوز الباسقة، ثم لا تثنينا دوحتها عن الميل بقلوبنا، نحو وردة في الجوار يجتذبنا شذاها.  

     

إضاءة:

تتكون أغنية فوق الشوك من افتتاحية وثلاثة مقاطع. باستثناء الافتتاحية، ينتهي كل مقطع من المقاطع الثلاثة بلازمة غنائية، أو ثيمة، تعيد تكرار نفسها، في نهاية المقطع، هي قوله:

آه م الحب وم اللي رماني وخدني إليه

بعد النار والشوق ليه تاني راح امشي عليه

راجع بعد الشوق ما ضناني

راجع راجع راجع تاني

فوق الشوك.

وربما يجدر بنا التذكير أن الثيمة هي مصطلح موسيقي في الأصل ــ قبل أن تقتبسه ميادين النقد الأخرى ــ ويعني: الفكرة الوسواسية المترددة باستمرار، وتفضح انشغالات المؤلف. 


مقطع الافتتاح:

فوق الشوك مشاني زماني

قاللي تعال نروح للحب

بعد سنين قاللي ارجع تاني

ح تعيش فيه مجروح القلب

بهذه الكلمات يبتدئ عبد الحليم حافظ أغنيته الأشهر (فوق الشوك) من تأليف علي مهدي، وألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. وعندما نقول إن عبد الوهاب هو ملحن الأغنية، فإننا نعني أنه هو الذي أعطاها إيقاعها العام، ووظف صوت حليم ليتوافق بالكلمات مع هذا الإيقاع الوهابي الخاص، الذي نعرفه من لحظة انطلاقة دندناته الأولى. هذا إيقاع عبد الوهاب، فأين بصمة العندليب؟

لاحظوا معي أن العندليب هنا يكرر هذه الكلمات ــ منذ البدء ــ ثلاث مرات متتالية. لكنه في كل مرة يؤديها بصورة مختلفة، بطريقة تؤكد رسوخاً لا يستطيع أحد أن يقلده. إنه يمهر اللحن بتوقيعه الخاص، فيمنحه بصمة يستحيل على أي مقلد ــ أو أي آلة ــ إعادة إنتاجها، كما هي بروحها وشحمها ولحمها ودمها. لقد منحه موسيقار الأجيال العظام، لكن حليم هو من يكسي هذه العظام اللحم والشحم، بحيث تبدو لنا الأغنية تمثالاً بهيا للجمال الأبدي، كما ﭬينوس.

يبدأ حليم ــ وقبيل الغناء ــ بإطلاق تأوهاته المرافقة للأوركسترا، والمانحة لصوت الآلات الموسيقية، مزيجاً نادراً من اللوعة والشجن. وبعد أن يترك العندليب للموسيقى أن تنحدر شيئاً فشيئاً، كما تترقرق مياه جدولٍ نحو النهر، مترافقاً مع أنين الناي الوهابي المعروف، الذي تهدأ معه قلوبنا، كما لو كانت موشكة على التوقف؛ بعد هذا التمهيد الموحي، يأتي صوت حليم كما بدأت الموسيقى، هادئاً تعباً مثل نيل في أيام التحاريق، يتسرب على هونه مثل نبع لم تتفجر صخرته بعد: (فوق الشوك مشاني زماني...)

ثلاث مرات يتردد هذا المفتتح، في بداية الأغنية، وكل مرة تختلف عن سابقتها، بما لا يمكن نسبته إلى عبد الوهاب..

اللحن هو هو، لكن أداء الكلمات يختلف بين كل مرة وأخرى، بالصورة التي نحاول رصدها في الآتي:

في المرة الأولى تأتي كلمتا (فوق الشوك) على هذه الصورة، إذ يتحول حرف الواو الصائت في كلمة (الشوك) إلى حرف صامت، تتحول بفعله الكلمة إلى (الشُك)  حيث يختزل حليم حركتي صوت الواو في حركة واحدة، حتى لتوشك الواو أن تتحول إلى ضمة، كما رأينا. الأمر الذي يجعل جملة (فوق الشوك) تأتي هينة لينة سريعة، مثل دفقة حزن كانت في الانتظار.

أما عندما يصل العندليب إلى جملة (تعال نروح للحب) فإنه يفعل بكلمة (نروح) ما فعله بأختها (الشوك) حين يحول واوها الصائتة إلى صامتة، مرة أخرى، فتعود الواو تشبه حركة الضمة، وتتحول الكلمة إلى (نرُح).

وعلى خلاف ذلك، تأتي كلمة (سنين) في جملة (بعد سنين قاللي ارجع تاني) إذ يمنح حليم ياء (سنين) حركة إضافية على حركتيها الاثنتين الطبيعيتين، لتصبح الياء أطول زمنيا منها في الكلام العادي، مع ارتجافة حليمية خاصة تطبع الكلمة بطابع اللوعة.

صوت واحد بدلا من صوتين، هما مجموع أصوات كل حرف علة. وثلاثة أصوات بدلاً من صوتين، زيادة في صوتي حرف العلة، كل ذلك ممهوراً بارتجاف لائع.. هكذا يتلاعب العندليب بالأصوات والمشاعر.

أما حين يعيد حليم تكرار هذه المقدمة، للمرة الثانية في نفس مقطع الافتتاح، فإنه يحرص على أن يقول لنا ــ بطريقته ــ بأنه يرفض التكرار لمجرد التكرار. إنه صوت ذكي يقرأ ما يمكن أن يقع في روعنا. ولذا نراه يمنح تكراره هذا وظيفة صوتية موسيقية خاصة، تبرر وجوده وتمنحه هوية مختلفة، عن هوية الأداء الأول لنفس الكلمات: فرغم أنه يواصل أسلوبه السابق في أداء كلمة (نروح)، إلا أنه يلجأ هذه المرة إلى إجراء تغيير طفيف على كلمة (الشوك)، فيمد الواو التي كان قد قطعها في المرة الأولى، ويمنحها صوتاً زائداً، يزيد من موسيقيته.  ثم لا يكتفي العندليب بذلك، بل يمنح الصوت ارتجافة حليمية خاصة، يستحيل على أي مبدع في العالم أن يأتي بمثلها، قبل أن يعود إلى مد كلمة (سنين) مرة أخرى.

أما في أدائه لكلمة (زماني) فنلاحظ الإعجاز الحليمي ظاهرا هذه المرة: صوتاً ليس مليئاً بالشجن فحسب، ولا بالوعة فقط، بل ممزوجاً بأنين عارم كأنه آت من وراء المجهول، وإن كنا نشعر به شعوراً عميقاً، قادماً ــ ربما ــ من اللاوعي الجمعي المصري، لفلاح يشرب من ماء نهر يترقرق، بحنان وألم معاً.

لقد جاءت كلمة (زماني) في المرة الأولى ممهورة بارتجاف بسيط، أصاب حرف الألف يشبه بداية انبثاق الألم. أما في هذه المرة الثانية، فقد جاءت الكلمة نفسها بازدياد ملحوظ في رنة الارتجافة، بما يوحي بأن الألم قد قطع شوطاً بعيداً في أعماق الروح.

أما في المرة الثالثة، فتأتي كلمة (زماني) مع ارتجاف صوتي أطول من المرتين السابقتين، أطول قليلاً، لكنه أعمق ألماً، وأشد أسىً، وأوقع أثراً. هنا، في هذه الكلمة بالذات (زماني) يتبدى لنا اختلاف صوت العندليب عن كل صوت سواه. وهنا نرى حليم في أشد لحظات لوعته.. متى كان ذلك؟ نحن لا نعرف، لكننا نعرف أن هذا الصوت قادم بُعيد هزة عاطفية حادة تزلزل الروح، وتهز الكيان، وتفعل كل ذلك بالمستمعين.

عند الوصول إلى كلمة (القلب) في جملة (مجروح القلب) لا يمكن لأي محلل فني أن يقترب من مجرد محاولة تحليلها، إذ يقولها حليم كما لا يمكن لأي أحد أن يقول شيئاً مشابهاً. إن تمهل الصوت فوق اللام في الكلمة، بعد القاف المصرية المنقلبة إلى همزة، يأتي مع العندليب عذباً، كما لا تشبهه أي عذوبة أخرى. هنا نتوقف عاجزين عن التحليل، وإن كنا غير عاجزين عن الاستجابة.

هزة عاطفية، ولوعة نادمة، ويأس مرير، يوقف كل محاولات النضال، للتحرر من العشق، ويعود بالعاشق صاغراً، ليواصل درب المصير المزروع بالأشواك:

راجع بعد الشوق ما ضناني

راجع راجع راجع تاني

فوق الشوك.

المقطع الأول:


قبل ما اشوف الحب وأقابلو

ياما خيالي وطيفه تقابلو

طبعاً لا بد من الناي في البداية، قبل مجيء صوت العندليب. هكذا حدث في مقطع الافتتاح، وهكذا يحدث هنا، وهكذا سوف يحدث في كل المقاطع.

والحقيقة أن بين الناي وصوت حليم توافقاً لحنياً مميزاً: فالناي حزين ساهم متلألئ، يمتح من أعماق الروح.. وكذا صوت حليم، صوت يجمع بين الحزن والضعف، الذي يملأ السامعين شفقة، فيما هو يستغل ذلك ليتلألأ.. كلاهما يصعب على الكافر، كما يقول الوعي الشعبي المصري.

يردد عبد الحليم هذا الجزء من المقطع أربع مرات، يغير في كل مرة في شكل الأداء تغييراً طفيفاً، يبرر التكرار ــ فقد قلنا سابقاً أن حليم يأنف من التكرار الآلي، الذي يعيد إنتاج الطريقة الأولى ــ إذ يعاود تلاعباته المذهلة في المدود، تقصيراً وتطويلاً، راجفاً منغماً بالطريقة الآتية:

في المرة الأولى نراه في أدائه لكلمة (ياما) يفصل بين مقطعيها الصوتيين، بمد صغير لا يتجاوز صوتاً واحداً، بهذا الشكل (يا.. ما)، دون أن يرفقها برجفة صوتية. ثم يركز مده على كلمة (تقابلو) فيمنح مسافة فاصلة بين الألف والباء بهذا الشكل (تقا..... بلو)؛ الأمر الذي يؤدي إلى منح القاف المصرية مساحة زمنية أطول، وإن كنا لا نشعر بذلك إلا وهناً.

أما في المرة الثانية، فنرى حليم يفصل بين حرف العطف اللام وكلمة (اقابلو) التي تليه، فنسمعها هكذا (و... اقابلو)، كأن الألم يتسبب له بلهاث محتاج إلى وقفة تنفسية خاطفة. وهذه طريقة في الأداء لا يكررها حليم في المرات اللاحقة. وعندما يصل إلى كلمة (ياما) لا يزيد من مسافة المد بين مقطعيها، بل يكتفي بمزجها بنغمة راجفة، يمنحها صوته لهذه المسافة الطبيعية في الكلمة. فإذا ما وصل إلى كلمة (تقابلو) أداها دون مد ولا رجفة، ثم ركز بطريقة لافتة على حرف اللام الصامت بطبيعته، فمنحه صمتاً زائداً، أوحى لنا بتوقف نادم يراجع فيه العاشق المهزوم خيباته.     

في المرة الثالثة، يفسح حليم مسافة زائدة بين الكلمتين (اشوف الحب) بحيث نرى همزة أل التعريف تنقلب من شمسية إلى قمرية بهذه الصورة (اشوف.. إلحب) ثم تأتي بعدها (ياما) ممدودة أكثر مما كانت عليه في المرة الأولى بهذه الطريقة (يا.... ما) منغمة ممزوجة بارتجافة بعيدة طويلة، أكثر مما كانت عليه في السابق. ثم تأتي كلمة (تقابلو) بنفس الطريقة التي جاءت بها في المرة الثانية.

وفي المرة الرابعة يأتي المد في كلمة (ياما) أطول من كل المرات السابقة، فنسمع الكلمة بهذه الصورة (يا...... ما)، كما تأتي الارتجافة الحليمية المرافقة أكثر وضوحاً ولوعة، هذه المرة. وعندما يصل حليم إلى كلمة (خيالي) نراه يمنح مقطعيها مداً فنسمعها بالطريقة الآتية (خيا... لي) لكن دون أي ارتجافة أخرى. فيما يواصل تركيزه المتعمد على حرف اللام في كلمة (تقابلو).

هكذا يتلاعب العندليب الأسمر في المدود، بل يصنعها، كلما رأى ذلك لازماً.

أما حين يصل حليم إلى الجزء الثاني من المقطع، وهو اللازمة التي ستتكرر في نهاية كل مقطع من الأغنية، في قوله:

ليه يا قلبي جرينا ورا المجهول ليه؟

فسوف نلاحظ أن هناك صوتاً يشبه الكورس الخفي، لا يرافق حليم منذ أول الجملة، بل منذ كلمة (ليه) الثانية، في آخر الجملة فقط.

ثم يواصل العندليب تساؤله الاستنكاري اللائع:

ليه على نار الجرح مشينا وعشان إيه؟

وإذ لا يبدو ثمة أي أثر لأي رد، تأتينا الجملتان الغنائيتان اللاهبتان:

آه م الحب وم اللي رماني وخذني إليه

فتخرج هذه الكلمات من أعماق حليم، في أول العبارة، لاهبة صارخة بصوته المنفرد، ثم لا يلبث أن يرافقها ذلك الصوت الجماعي ــ الذي يشبه المارش العسكري ــ منذ جملة (رماني وخدني إليه) في توليفة عجيبة، يرتفع بعدها ضجيج المارش، مرة أخرى، عند وصوله إلى جملة: (ليه تاني راح امشي عليه)، من العبارة الثانية: (بعد النار والشوق ليه تاني راح امشي عليه)، ثم يتلو هذا الضجيج المحسوب، هدوءٌ يائسٌ يردد نتيجةً، سبق أن مهدت لحضورها مقدمةٌ أولى: هدوء يشي باستسلام حزين لقدر العاشق، القاضي بالعودة إلى سلوك نفس الطريق المليء بالأشواك:

راجع بعد الشوق ما ضناني

راجع راجع راجع تاني

فوق الشوك.

لقد عاد العاشق رغم أنفه، وقد هًزم تمرده على قدر الحب، الذي هو أقوى منه.

هكذا يعيد حليم كتابة سيرة العشاق على مر الزمن.

المقطع الثاني:


غلطة عمر خدتني لحبي

رحت وراحت راحة قلبي

كما تبدأ كل المقاطع في هذه الأغنية، يبدأ هذا المقطع، بدندنة عبد الحليم وآهاته المرافقة للأوركسترا، قبيل إعلانه الندم، لأنه فكر ذات مرة في السير في هذا الطريق الأليم.

لن نكرر هنا ما سبق أن قلناه، حول تلاعب حليم بمخارج الحروف والمدود والأصوات، لكن دعونا نعيد التذكير بهذا الصوت المرافق لصوت العندليب (المارش العسكري) الذي أشرنا إليه في المقطع الأول، مع وصول الصوت إلى قوله كلمة (ليه) الثانية في الجملة:

ليه يا قلبي جرينا ورا الجهول ليه؟

قبل أن يواصل تساؤله الاستنكاري:

ليه على نار الجرح مشينا وعشان إيه؟

أما حين يصل إلى الجملتين الغنائيتين:

آه م الحب وم اللي رماني وخذني إليه

بعد النار والشوق ليه تاني راح امشي عليه

فنسمع صوت ذلك الكورس الخفي ـ الذي سبق أن أشرنا إليه في المقطع الأول ــ يرتفع أكثر، قبل أن يعود إلى اللازمة:

راجع بعد الشوك ما ضناني

راجع راجع راجع تاني

فوق الشوك

ولو تأملت معي عزيزي المتلقي كيف تنطلق كلمة (ضناني) من فمه، لأدركت حياة الألم المرافق لعبد الحليم طوال مسيرة حياته. إنها أغنية تلخص سيرة العندليب.

المقطع الثالث:


ياللي نسيك الحب انساه                   

وابعد عنه عشان تلقاه

هذا هو آخر مقطع في الأغنية، يسبقه عبد الحليم بتأوهاته المرافقة للأوركسترا، بصورة أقوى وجلاء أكثر ألماً. هنا يصل العاشق إلى نهاية الرحلة.

ترتفع دندنات حليم، ويرتفع صوت الآلات الموسيقية. ينهدّ العاشق المهزوم كما جدارٌ مقوّض، وينهدّ صوت الأوركسترا، من أعلى ذروة لحنية له، إلى ما يشبه الهمس، قبل انطلاق الكلمات.

هنا يتم استبعاد الناي، فلسنا الآن بصدد الحزن، بل الثورة: ثورة الطائر المذبوح ومحاولته الهروب من السكين. ولأن الناي همسة مغيب حزينة، فهو لا يصلح ــ في نظر الأستاذ عبد الوهاب ــ هنا.

لا جرم، فنحن في انتظار النتائج يا سادة. ولأننا في مواجهة النتائج، ولسنا في معرض عرض الحالة ــ كما هو الحال في المقاطع السابقة ــ فسوف نرى اللحن في هذا المقطع، مختلفا عن اللازمة الأوركسترالية، التي ظلت تتردد قبيل المقطعين السابقين. عبد الوهاب هنا يعيد بناء المنظومة بما يتوافق مع الكلمات المكتوبة، والألم الذي يمهر صوت عبد الحليم هنا أكثر.

لقد قاربت الرحلة نهايتها، وأصبح من الضروري استخلاص العبر، إذ يتحول العاشق المهزوم إلى حكيم، يبلغ حكمته الناتجة عن تجربة طويلة من الألم، ناصحا كل عاشق بالابتعاد عن العشق، حتى لا يتعرض لنفس التجربة، في تناص واضح مع الحكمة التي أداها الخليفة الأول لخالد: "اطلبوا الموت توهب لكم الحياة".

انس الحب ليوهب لك.

هذه هي الحصيلة التي يؤكدها لفت نظر كل من يفكر بخوض التجربة، فالسعيد هو من اتعظ بغيره كما يقولون.

ثم يواصل:

عايز تعرف فين الحب وفين لياليه

بص ف أي دموع تقابلها راح تلاقيه

الأوركسترا هنا تعلن التمرد على السائد، وتصدح بصوت أكثر ارتفاعا في البداية، فيما يشبه محارباً مهزوماً يخوض محاولته الأخيرة، لانسحاب أخير، من معركة أخيرة. 

أخيراً، دعونا نعيد التعليق على اللازمة ثيمة الأغنية:

آه م الحب وم اللي رماني وخدني إليه

بعد النار والشوق

ليه تاني راح امشي عليه

راجع بعد الشوك ما ضناني،

راجع راجع راجع تاني،

فوق الشوك

فنقول: إن ترديد شيء ما هو تكراره مرات. فما هو هدف التكرار؟

قد يظن البعض أن هذه مجرد تقنية موسيقية. والحق أنها تقنية موسيقية، لكنها تهدف إلى إعادة إنتاج اللحظة الماضية. التكرار محاولة لإعادة ما مضى. إنه نوع من تهشيم سيرورة الزمن، لإعطائه قيمة عليا. الزمن يصبح لازمنيا، كما الحكمة تصبح كلاما يتعدى لحظة القول.

لقد تعلمنا أن الموسيقى هي حركة في الزمن، لا يمكن معها ــ كما لا يمكن في الواقع ــ استعادة ما مضى. إن المقطع الموسيقي المتكرر بذاته، كما الكلمات، يريد أن يخلد لحظة العذاب. ولقد تخلدت لحظة عذاب العندليب في أعماق وعي جيل بكامله.

رحم الله العندليب، ورحم موسيقار الأجيال، ورحم كاتب كلمات الأغنية، ورحم أمواتنا وأحياءنا جميعاً.