في الوعي والميتافيزيقا


   

إذا كان الوعي هبة مريبة ـ كما يقرر كارل يونج ـ فإن البحث فيه أكثر إثارة للريبة والتخوف. فما هو الوعي. وما هي هذه الريبة. ولماذا ينظر يونج إليه بكل هذا التشكك؟.


 

إن البحث في الوعي هو غير البحث في الحقيقة.


 

هناك حقائق قليلة يمكن تقريرها والاتفاق عليها. لكن أكثر ما يقال عنه اليوم حقائق، هو مجرد وعي بالواقع.


 

الوعي تعبير عن توفر حالة عقلية، يكون فيها الإنسان متميزاً بالقدرة على الإحساس بالذات، وإدراك الواقع، والمحاكمة المنطقية للعلاقة بين كيانه الشخصي ومحيطه الخارجي.


 

إن إدراك الواقع غير إدراك الحقيقة. فالواقع هو ما تعكسه أحاسيسك الذاتية عن المحيط الخارجي. أما الحقيقة فهي أمر خارج كل من الذات والأحاسيس. الحقيقة أمر متعال عن التأثر بالواقع، وكل الأفراد يدركونها على صورة واحدة.


 

فشروق الشمس حقيقة. وغيابها حقيقة. وجسد الإنسان حقيقة. وخروج الجنين من بطن أمه ساعة الميلاد حقيقة. فنحن ندرك أن هذه الحقائق لا يتناقش في صحة وقوعها عاقلان.


 

أما الميتافيزيقا فليست مجرد حقائق. وجل ما يمكن أن نعترف لها به هو أنها: أمر عام كلي، يمثل مجموع الخصائص، التي اكتشف الإنسان أنها تخص النوع كله، وليس الفرد بعينه. فالميتافيزيقا: نوع من الوعي البشري، الحاصل من انعكاس العالم الخارجي على الأحاسيس. وإذا كنا مؤمنين بأن الوعي متأثر بأدوات الإدراك وقدرات البشر على محاكمة الحوادث بمنطقية، فسوف يتحصل لنا أن الميتافيزيقا: هي مجموعة المبادئ العامة التي تتحكم في العلاقات الداخلية لجميع العلوم العقلية.


 

لهذا فقد استطاعت الميتافيزيقا الادعاء بأولويتها على كل الفروع التجريبية. ورغم ذلك يمكن القول ببساطة متناهية: إن الميتافيزيقا هي مجرد آلية ذهنية، مهمتها فحص الافتراضات الأساسية، التي تقف خلف رؤية الإنسان للعالم.


 

الوجود كان دائما في مركز السؤال الإنساني. ومن ثم فقد كان مبحث الوجود أحد أهم مباحث الميتافيزيقا. حيث برز لديها الاختصاص، والمقدرة، على الحكم على شيء ما بأنه موجود. فيما استطاعت أحيانا نفي وجود شيء آخر، نفيا غير واثق، ممهدة الطريق أمام وثوقيته في المستقبل. ورغم ذلك، فكثيرا ما قالت لنا الميتافيزيقا بأن شيئاً ثالثاً ممكن له أن يكون موجوداً؛ رغم عدم وجود الدلائل على إثباته الآن. فيما أن شيئاً رابعاً لا يمكن له أن يكون موجوداً البتة، لا الآن ولا في المستقبل.


 

وغني عن القول بأن هذه المقولات ـ التي ظن بعضهم يوما أنها مطلقة ـ هي في الحقيقة غير ذلك، لأنها ليست أكثر من استنتاجات منطقية عامة، بُنيت على الحس المشترك. ولأنها مبنية على الحس، الذي كثيرا ما يعلن قصوره؛ فستبقى محل نقاش: وعلى سبيل المثال، فإن ما لم يكن موجوداً في عصر، ربما يصبح موجوداً في عصر آخر. وما كان ممتنع الوجود ذات يوم، ربما يثبت العلم التجريبي إمكان وجوده في يوم آخر.


 

ولعله من الواضح الآن أن التصورات العامة للأديان، عن الوجود، تعتبر كلها من مباحث الميتافيزيقا. وكثيراً ما يشار إلى الإيمان باعتباره ظاهرة ميتافيزيقية. وقد رأينا كيف استخدم الفلاسفة الإسلاميون علوم الميتافيزيقا لمناقشة مسألة الوجود والتوحيد، عندما وصفوا الله بأنه واجب الوجود، ووصفوا الخلق بأنه ممكن الوجود... إلخ.


 

إذن فالإيمان هبة الوعي، لأنه هبة الإحساس. ولقد قرر ذلك كثير من فلاسفة الإسلام قبل سيادة المفاهيم السلفية. أما تفاصيل الإيمان فهبة النصوص.


 

ولقد أقرر هنا، بكل صفاء ذهن، أن الإنسان يولد بالفعل مؤمنا، حتى لو لم ترد بذلك النصوص. لكنني سوف أختلف مع مؤمن آخر، بدين آخر، حول وصف الجنة. أو هل هذا الفعل المحدد هو بالفعل خير أو شر؟. بل ربما سأختلف مع مؤمن بنفس الدين، على توصيف من هو الشهيد، وهل هو المتجه إلى الله فعلاً، أم هو كل شخص هارب من البطالة وضيق ذات اليد وانعدام الفرص في رفاهية دنيوية؟.


 

إن ادعاء شخص ما بأن فعلا دنيويا محددا هو الخير المطلق، وأن ما سواه هو الشر المطلق، سوف يظل دائما محل تشكك وإعادة اختبار. إنه ليس حقيقة كشروق الشمس.


 

فلنتأمل الواقعة التالية التي حدثت معي:


 

قرأ شخص مقالاتي، فلم تعجبه. فقرر من ثم أن أفضل طريقة، لكي يعيدني إلى حقيقته ـ التي آمن بها وصدقها في لحظة انعدام وزن ـ هي أن يقول لي:


 

ـ أنت تحب عرفات؟. أسأل الله أن يحشرك معه.


 

وطبعا أنا أحب عرفات. ولكن هناك (طبعا) أخرى، وهي أنني لا أعرف، على وجه التحقيق، أين هو عرفات الآن. وهذا الرجل ينطلق من اعتقاده بأنني أعتقد، في قرارة نفسي، بأن عرفات يعاني من مشاكل جمة، تمنعه من دخول الجنة. وبما أنني مؤمن ولا أستبدل بالجنة شيئاً، فقد بدا مناقشي لا ينتظر مني إلا (الانقطاع المنطقي)، والتراجع، والاستغفار، والعودة إلى ترديد مقولاته. وبما أنني لم أستطع المخاطرة بقبول كوني مع عرفات حيث هو؛ فلقد أصبحت منذ تلك اللحظة ـ في نظر مناقشي ـ متشككاً بـ(إيماني) بصدقية منهج عرفات في السياسة والمقاومة، بل حتى في صدق تدينه!.


 

ولكنني لم أنقطع، لسوء حظه، بل بادرت إلى مبادلته دعاء بدعاء:


 

ـ وأنت. أسأل الله أن يحشرك مع أحمد ياسين.


 

حدق الرجل فيّ بتشكك كبير، لا ينقصه الغيظ. وبعد أن هرش رأسه بقوة، لم يعرف كيف قال لي:


 

ـ أنا أريد أن أكون مع محمد صلى الله عليه وسلم.


 

قلت له:


 

ـ فهل تعتقد أن من الممكن لأحمد ياسين التعرض لمشكلات تمنعه من دخول الجنة؟.


 

أسرع بالقول:


 

ـ لا. ولكنني أحب أن أراهن على المضمون.


 

فقلت له:


 

ـ ألا ترى يا أخي كيف تختار لخصومك ما لا تختاره لنفسك، مع أنك مصر منذ الصباح على أنك تملك الحقيقة؟.


 

يا عزيزي:


 

إنك لا تملك إلا مجموعة تصورات ميتافيزيقية، يصح بعضها، ولا يصح كثير منها. أتدري لماذا؟. لأن أدوات الإدراك لديك متأثرة بما هو وراء الإحساس، مما لا يمكن له أن يكون نصا دينيا بقوة الإحساس. وربما لو كان مستندك النصي غير قابل للشك، لقبلنا منك وعيك الديني هذا، باعتبارنا متدينين مثلك. ولكنك تريد إثبات تصورات مسبقة ـ لم يثبتها الإحساس، ولا مستند لها مما هو وراء الإحساس ـ ثم تعتقد أنها هي بذاتها دين الله!. فلماذا لا تقبل مني أن أطلب أن أكون معك ومع محمد صلى الله عليه وسلم. ثم فلندع كل من ياسين وعرفات لعلم الغيب؟.


 

يا عزيزي:


 

أنا مجرد باحث في الوعي ـ كما وصفني أحد أصدقائي المفكرين ـ وحتى البحث الفقهي الشرعي، الذي يظن بعضهم بأنه لاتاريخي؛ حتى هذا البحث الفقهي يقوم على قواعد تاريخية؛ باعتباره مجرد محاولة لفهم المقاصد الأساسية للشريعة، التي أجملها علماء أصول الفقه في خمس هي: حفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ الدين.


 

لقد تقرر مسبقاً، وقبل أي تفسير، أن أي حكم شرعي مشروط ـ حتى ولو كان صريح الدلالة ـ بألا يتعارض مع أي من تلك المقاصد الخمس الكلية. ولا ريب أنك ستلاحظ، من وراء ذلك، أن العقل مقدم على النص في الإسلام، رغم كل ما حاول السلفيون ترويجه من مفاهيم صحراوية، تحيل الوعي إلى عالم خالص من الميتافيزيقا. ألم تر أن الفقهاء كادوا يجمعون، على أن من لم يجد علاجا لمرضه إلا في الخمر، فله أن يتناولها، رغم وضوح النص في منعها وتحريمها؟. فما هو الذي دعاهم إلى إباحتها غير العقل؟. ألم تر أن حفظ النفس هنا مقدم على إعمال النص؟.


 

يا صديقي:


 

أنا باحث في الوعي، لا في الحقيقة، التي صار يبدو لي الآن أن كل الناس يملكونها باستثنائي. وإن امتلاك هؤلاء الناس للحقيقة، هو الذي يفسر دموية العلاقات الدنيوية، بين أبناء الوطن الواحد، والدين الواحد، والاحتلال الواحد، والفقر المشتمل على الجميع.


 

إنني، وكل عاقل، أتساءل ولا أجيب، لأن الإجابة القاطعة لا يملكها أحد، إلا أصحاب الميتافيزيقا النصية. ومع ذلك تراهم لا يحفلون بالإجابة.


 

لقد ظننت، لفترة من الزمن ليست قصيرة، أن بإمكان عدد قليل من البشر الصادقين أن يغيروا وجه العالم، ثم فُجعت في رؤيتي هذه بقسوة، حين رأيتهم وقد انقلبوا على كل ما كانوا يدعون إليه من قبل. لم يبدأ الأمر هكذا دفعة واحدة، ولكنه بدأ بانزياحات يسيرة، ظللتُ أمنّي نفسي بتجاوزها، إلا أن علاقات المصلحة الفردية، الآنية الضيقة، أثبتت أنها الأقوى من كل النصوص. حتى لقد عيرني بعضهم، قبل فترة يسيرة، بأنني واحد من هؤلاء (الحمقى)، الذين لولا (حمقهم) لكانوا الآن وزراء. أتدري ماذا فعلت؟. حدقت في عينيه، ورأيت أنه بالفعل مقتنع بما يقول، وأنه ينتظر أن يرى تأثير عبارته عليّ: حسرةً وندامةٍ وشعوراً هائلاً بالتقصير، واختيار ما يتناقض مع (المصلحة). ولكن أتدري فعلاً أنني ما زلت مسروراً ـ يا للداهية الدهياء ـ بحمقي هذا؟.


 

ومع كل ما مضى، فإنني ما أزال أتساءل: لماذا يصر الثوار، في كل تجربة ثورية، على اعتبار الناس مجرد رهائن لنزواتهم ومتعهم الصغيرة؟.


 

لماذا يصر كل دعاة التغيير، بعيد كل هزيمة، على الالتفات ببنادقهم باتجاه صدور من حموهم؟.


 

لقد رأيتهم يقتلون الناس، قبل أن يقتلهم العدو. ثم رأيت الناس يبكونهم قليلا، ريثما يستعيدون وعيهم فيلعنونهم. فمن أصدق من هذا الوعي الشعبي؟.


 

ألم تر أن الله طلب من الإنسان أن يراجع وعيه عند مناقشة المسائل الكبرى؟. تأمل معي قوله تعالى من سورة الأعراف:


 

"سَأَصْرِفُ عَن آياتِيَ الذِينَ يَتَكَبرونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحق، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ!* وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ!. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا!. اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ" سورة الأعراف. الآيات 146ـ148


 

الوعي هبة مريبة بالفعل. ومن لم يتمكن من محاكمة وعيه بعد المتغيرات الكبرى، فهو رهين وعي زائف، يمتهن الوثوقية ويخشى السؤال.


 

ولقد جاء الإسلام ليهز كل أركان الوثوقية الكاذبة، ويحاكم منطلقاتها ابتداء.


 

لا وثوقية في هذا الدين الجميل تمنع الإنسان من التفكير.


 

لا وثوقية في هذا الدين الجميل تمنع الإنسان من المراجعة.


 

لا وثوقية، في هذا الدين الجميل، تمنع الإنسان من العودة إلى قياس كل فعل وفق منطلقات الدين والعقل. وتلك منطلقات عامة وراسخة، وقابلة للحكم على كل التصرفات. تلك منطلقات تقرر أن الله خلق الإنسان حرا، فمن هو الذي يملك أن يستعبده؟. وأن الله منع الظلم والعدوان والاستكبار، فمن هو هذا الذي يملك أن يعتدي على أرواح الناس وشرفهم؟. وأن الله منع أن يرتزق أحد بترويج الأباطيل والأكاذيب، ثم يقول هذا من عند الله، لأن دين الله لم يأت ليعلم الناس نوعا جديدا من التجارة الخادعة؟.


 

إن دين الله أجمل من كل ما ترى يا صديقي.