عن بني قريظة و"جئتكم بالذبح"

 


أولاً: عن بني قريظة:


إن تحليل الأحكام السياسية للدولة، ينبغي أن ينطلق من وعي تاريخي، يرى الماضي كما كان يراه أهله، ويرى الحاضر كما يراه اهله. فالتاريخ هو الاخر نص. وهذا ما أعنيه كلما قلت (العوامل التاريخية) فعندما أقول حكم تاريخي، فإنما أضعه في المقابل، وعلى العكس، من حكم السماء.


أقول هذا الكلام لكل المتسائلين الكثر عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل بني قريظة، بعد أن نكثوا بالعهد، وهددوا كيان الدولة بالفناء.


إن عظم الجناية ــ في كل وقت ــ يستدعي عظم العقوبة. هذا هو حكم التاريخ، لا حكم السماء. واليوم يحاول دعاة الإسلام السياسي أن يقنعونا بأن كل الأحكام الدنيوية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم هي من السماء. لكننا لا نقبل بهذا التحليل، لأنه لو كان صحيحاً، لما قبل الإسلام قانون تحرير العبيد اليوم.


إن هؤلاء يحاولون أن يزيلوا قانوناً حاكما ومسيطراً وجعله الله من أساس هذا الكون، وهو حكم الزمن. وينقسمون إلى قسمين، كلاهما خاطئ:


1ــ قسم يريد نقل حكم الماضي إلى الحاضر، بمعنى أنه يريد منا أن نحاكم مجمل أعمالنا اليوم، بوعي الماضي، وهؤلاء هم الماضويون، وهذا غير صحيح، فما كان متاحا في وعي الماضي لم يعد صالحا في وعي الحاضر: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".


2ــ أما القسم الثاني من الناس، فعلى الطرف المقابل، يريد نقل حكم الحاضر إلى الماضي، بمعنى أنه يريد منا أن نحكم على مجمل الماضي بوعي الحاضر. وهذا كذلك غير صحيح، فالماضي له وعيه الذي يتيح فعل شيء، لا يتيحه الحاضر، والوعي الإنساني الجديد، الذي جاء الإسلام ليؤسس بداياته: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".


لقد كانت جملة العلاقات التاريخية في العالم، في حقبة زمنية معينة، تحكم بقتل ناكثي العهود في زمن الحرب، جملة، فحكمنا بما توافق عليه أهل العالم القديم، باعتبار الواقع. وهذا لا يعني أن هذا الحكم أبدي أزلي مفروض من السماء.


يبقى هناك إشكال قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ، حين حكم بهذا الحكم في بني قريظة: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طرائق".


وهذا معناه أنك يا معاذ قد قضيت بما قضى به القدر المكتوب. لا امر هنا ولا نهي. بل هو علم الله بما سيحدث، مسجلا كما سيحدث، دون أن يفرضه علينا. لقد علم الله أن فلانا سيحكم على فلان بكذا، فسجل عنده كما سيحدث. فأين حكم الله المفروض هنا.


ثانياً: حول حديث: جئتكم بالذبح:


هذا جزء من حديث صحيح في نظر أهل هذا العلم، لذا فلا نستحل الطعن فيه. لكننا نحاول أن نفسر معناه، إن شاء الله.


اللغة العربية في استخداماتها البلاغية كثيرا ما تنزاح عن الظاهر، لتقدم صورا بلاغية، تخالف الحقيقة لغوياً.


هناك لدينا في البلاغة ما يسمى بـ(المشاكلة): وهي الرد على اللفظ بلفظ من صنفه، وإن لم يكن المقصود نفس المعنى. مثال ذلك قوله تعالى: "ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين".


لقد مكر الكافرون بالله. فهل يمكن لنا ان نقول بأن الله مكر بهم مكرا كمكرهم؟ هل يمكن أن يوصف الله بالمكار؟ كما يوصفون هم؟ اللهم لا.


إذن هو يريد أن يصعقهم برد من صنف فعلهم، لكنه مختلف في الحقيقة، وهذا هو معنى قول الشاعر الجاهلي:


ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا


فعمرو بن كلثوم لا يقصد القول بأن قومه أشد جهلاً من أعدائهم، بل يريد ان يقول، سنجزي كل فاعل بما يفعل.


هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم للمشركين في مكة قبل الهجرة في مرحلة الاستضعاف: "جئتكم بالذبح".


إنهم يستقوون عليه بقذاراتهم، وهو يهددهم بقول كقولهم، لا يُقصد منه حقيقته. ودليل ذلك أنه لما فتح مكة، من بعدُ، لم يذبحهم، بل منّ عليهم وسامحهم وأكرمهم.


هذا لمن يلوون أعناق النصوص من المتدينين الجدد


والله أعلم