كلام فارغ موجه إلى الشعراء

 



سأقول شيئاً أظن أنني لم أر أنه قد قيل من قبل:


لماذا بقيت القصائد القديمة ــ التي ثرنا على شكلها ــ متوهجة، على مرور الزمن، ثم ماتت قصائدنا الحديثة بعد برهة من توهج مؤقت؟


دعوني أصوغ السؤال بطريقة مختلفة: لماذا كان جميلُنا أقلَ ديمومةً من جميلهم؟


لقد اعتمد القدماء على رسم الصورة، وتزيينها بالألوان، فخرجت مثل لوحة خالدة، تنبض بالحياة، التي لا يدركها الموت. فنحن لا نمل مثلاً حين نتأمل الصور التي يرسمها امرؤ القيس لفرسه، أو للياليه الحمراء؟ وما تزال تهولنا صور المتنبي في وصف المعركة، أو في كشفه لخبايا النفوس البشرية؟ فلماذا كان ذلك كذلك؟ لأن هذه الصور تواصل كونها مثيرة للحس وللخيال البشريين. يظن بعض المبتدئين من الشعراء أن استخدام القدماء للألفاظ كان في خدمة المعاني فقط، والحقيقة عكس ذلك تماماً، فقد ظلت الكلمات دوماً تحظى بعنايتهم الكبيرة، لكن هذه العناية لم تكن يوماً على حساب الصورة التي تنشئها الكلمات.


أما في قصائدنا الحديثة، فنحن في الغالب نتلاعب بالكلمات، أو ما نحب أن نسميه (نشتغل على اللغة) وكأن اللغة باتت مادة الشعر وقالبه معاً. لقد كانت قالباً جميلاً في الماضي، لكنه قالب ممتلئ بالمعاني. والمعاني لا تموت يا أصدقائي.


القصيدة الحديثة اهتمت بشكل اللغة، أو بما يثيره الاستخدام المختلف للغة من دهشة. هذا هو مبعث ما سماه جان كوهن (الانزياح)، وما سماه الآخرون (الفجوة). ولكن قبل المواصلة دعونا نعرّف الانزياح:


الانزياح (deviation): هو استخدام اللغة بطريقة خاطئة عمداً. والمقصود بالخطأ هنا استخدامها بطريقة لم تتعودها اللغة، لا تعمد الخطأ النحوي كما يظن بعض المبتدئين. فحين يقول محمود درويش مثلاً: (الصعود نحو الهاوية) يدهشنا هذا الاستخدام المختلف، لأننا تعودنا أن نهبط حين نتجه إلى هاوية ما، لا أن نصعد.. وحين يقول: (والثلج أسود فوق مدينتنا) يدهشنا تأمل كيف يمكن أن يكون الثلج أسودَ، ونحن لا نعرف إلا الثلج الأبيض!


إنما تنشأ دهشة الانزياح من كونه يحدث، في وعي التلقي، توتراً ناشئاً عن شعورنا بأن ثمة فجوة في التعبير، تحتاج منا أن نردمها. الشعر هنا يخدعنا، أو فلنقل: (يرشونا) حين يقبل منا أن نتدخل في صناعته، فنكمل المعنى عن طريق إعادة التأمل. هذا الوهم جميل فعلاً. ولكن كم سيدوم؟ هذا هو السؤال.


أزعم أن التركيز على (صناعة) الانزياح، دون خلق صور مختلفة ملونة، هو ما يجعل عمر القصيدة الجديدة قصيراً. أتدرون لماذا؟ لأن الانزياح لا يعود انزياحاً في زمن قادم. بمعنى آخر: إن ما كان انزياحاً في السابق، سوف يكثر استخدامه حتى يصبح عادياً، ومن ثم لا يعود شعرياً. إن الاستعمال نقيض الانزياح ــ كما يقول جان كوهن وأوافقه ــ لأن أساس الدهشة نابع من فجوة مفاجئة، لن تحدث في المرات القادمة، حين نقرأ القصيدة في زمن مختلف. ولكي أدلل على ما ذهبت إليه، دعوني أسألكم: منذ متى لم تعد عبارة (الصعود نحو الهاوية) تثير دهشتكم؟ منذ متى كفت جملة (والثلج أسود فوق مدينتنا) عن إثارة دهشتكم؟


قارنوا كل هذا، مع قول المتنبي مثلاً:


بناها فأعلىٰ والقنا تقرع القنا

وموج المنايا حولها متلاطمُ


 تروا كيف رسم الشاعر صورة قلعة بناها القائد وسط النار. قائد يبني قلعته وسط قراع الرماح، فهو مشغول بأمرين متناقضين معا: البناء والحرب، وكل هذا في ذات اللحظة، وبطريقة هي الأفضل والأتم.


ثم تأملوا في صورة الموج المتلاطم حول العملية برمتها. هنا يحضر البحر، وسط معركة في المدينة والمقاتلين والقتلى والرماح..


البحر حاضر، والرماح متلاطمة، وبناء القلعة وسط هذا مستمر، والبطل الواثق من النتيجة، يرفع البناء عالياً، فلا يشغله القتال عن القبول بقلعة أقل من عنان السماء.


هذا من حيث المعنى، فهل تأخر اللفظ عن هذا المعنى؟ اللهم لا. فنحن نرى تناسق الكلمات المدهش لا في المقابلة بين البناء والموت، فحسب، بل في عناق الكلمات مع بعضها، فالقنا تعانق القنا لفظياً وموسيقياً، والموج والمنايا متلاحمان موسيقياً، والتناسق بين كلمتي (بناها) و(أعلى)... ولو شئتم أن تعرفوا مدى هذا التناسق، فغيروا لفظة بأخرى في نفس الوزن والمعنى، قولوا مثلتاً: (بناها فقوّى) تعرفوا ان العناية بالكلمات هنا كانت في أتم صورها، لكن دون أن يمس ذلك بالمعاني الكبيرة.


إذا قبلنا بهذا، فسوف نعرف أن ما جعل شعر درويش عظيما، هو معانيه لا انزياحاته اللحظية. فتأملوا يرحمكم الله.