13ـ ورغم وفائه بالعهد، إلا أنه لم ير ذلك مانعاً إياه من محاولة بذل كل المستطاع لإنقاذ الهالكين، ومنحهم فرصة أخرى، إلى درجة أن أحب الله منه هذا الخلق الرضيّ، وسماه به حليما أواها منيبا:
17ـ وهذا الهدى، بعد هذا الوحي والاصطفاء جعله مثالاً للشجاعة في مواجهة الباطل في عقر داره، وفي كامل زينته، لا ترهبه في ذلك النار المستعرة التي يراها معدة له، بل يستغل كل هذا الرعب واللهب لعرض دعوته على الناس في مواجهة الطاغوت:
20ـ وان حبه لله لا يوازيه حب أحد لله سوى الأنبياء العظام، إلى درجة أن لم يعد في وسع قلبه أن يتسع لغير حب الله وحده. ودليل ذلك أن الله حين أن أمره بذبح ولده الوحيد ـ الذي جاءه على الكبر، ولا يتوقع الإنجاب من بعده ـ لم يسأل ولم يتردد، بل ذبحه فورا، لولا أن الله فدى الذبيح رحمة بأبيه الصادق المصدوق الذي لا يعرف الكذب مطلقاً:
ويبدو أن كل هذا البيان القرآني التفصيلي لم يعجب المعتوهين من سلفيي الوعي، الذين يصدقون رواية البخاري التي تقول بأن إبراهيم قال لسارة حين دعاها فرعون لمقابلته: "لقد قلت له أنك أختي، فلا تكذبيني عنده".
أفبعد كل ما يقوله القرآن، يأتينا من يتبنى رواية من غيروا الكتب السماوية، ونسبوا الكذب إلى الأنبياء؟ أفبعد كل هذا من الممكن لنا أن نصدق الرواية التوراتية، التي تسللت إلى صحيح البخاري، منسوبة زوراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن إبراهيم خشي من فرعون، وخاطر بشرف زوجته، لكي لا يتعرض للموت؟ سبحانك هذا بهتان عظيم!..
ولولا أن هناك أقواماً يصدقون القدماء أكثر مما يصدقون القرآن وعقولهم، لاكتفيت بكل ما أوردته هنا، وإن فيه لبلاغاً إن شاء الله. لكن ما الحيلة في العقول التي تعشق قالوا أكثر مما تؤمن بالمنطق؟ لذا فهأنذا أنقل إليهم ما قاله أحد كبار عظماء الماضين، في الدفاع عن شرف أبي الأنبياء عليه السلام، بدحض رواية البخاري. قال الفخر الرازي رحمه الله، في تفسير سورة الأنبياء، معلقاً على حديث البخاري هذا:
"فلأن يضاف الكذب إلى رواته، أولى من أن يُضاف إلى الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام... وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره، من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء، عليهم السلام، فحينئذ لا يحكم عليهم بالكذب إلا زنديق"([1]).
وقال في تفسير سورة الصافات، في التعليق على نفس الحديث: "لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام، كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى"([2]).
[1]ـ تفسير الفخر الرازي. مفاتيح الغيب. ط1. ج26. بيروت. دار الفكر. 1981. ص186