الإصلاح والمبادئ

 


ليس غريباً أن تصطدم كل دعوات الإصلاح الإنساني، ببعض من المبادئ العامة، التي امتلكت سلطةً طوال أحقاب ماضية، بل الغريب أن لا يكون ذلك كذلك. فلا شك أن كثيراً من سلطات الماضي، قد انبثقت عن مصالح تجاوزها الزمن، وقام عليها حراس، توحدت أحلامهم مع مقولاتها، التي ربما لم تعد ممثلة لتفكير اليوم، ومصالح اليوم، وأحلام أجيال اليوم.


ربما كانت هذه المبادئ صالحة يوماً ما، وربما لم تكن صالحة في أي يوم. لكنها وُجدت في زمنٍ يسمح بوجودها، ثم حلّ زمنٌ لم يعد يقبل ببقائها. لم يعد لهذه المصالح من حراس سوى فئتين: فئة المستفيدين من ورائها مادياً؛ وفئة المتحجرين الذين يقدسون بطبيعتهم كل ما كان قادماً من (الزمن الجميل). والملاحظ أن الفئة الأولى تعتمد على الفئة الثانية، اعتماداً كلياً، في قيادتها إلى مصير يصادر مستقبلها.


إذن فالتقديس تقديسان: تقديس فاعل مخادع تمارسه فئة، وتقديس مفعول به مخدوع تمارسه فئة أخرى. وما أسوأ أن يكون ذلك باسم الله!.


ولئن كان مستحيلاً إقناع الفئة الأولى، بالتخلي عمّا يعمر جيوبها من المبادئ؛ فليس متعذراً إقناع الفئة الثانية بالانحياز إلى ما يحقق مصالحها. يجب إقناع هؤلاء المساكين بأن التحجر على آراء، لم تعد صالحة، لا يمكن أن يكون هو ما يحقق إرادة الله، لأن الله منزه عن المصلحة.


إن كل المبادئ الأخلاقية أنتجتها المصلحةُ الإنسانية في زمن ما، وإن الإصرار على تقديس ما أنتجته المصلحةُ، يخدم في نهاية المطاف مجموعة الدجالين، الذين ما تزال هذه المقدسات المصنوعة تعود عليهم بمكاسب خاصة، تزهر حياتهم، فيما هي تمتص حياة المجتمع.


إن مبدأ يحتقر الألم والسعادة الإنسانيتين؛ لا يمكن أن يكون أخلاقياً، لا يمكن أن يكون من عند الإلٰه. يجب الحفر تحت كل هذه الكلمات المنمقة، فلا يعقل أن يكون الماضويون أعقل من كل الناس.


حين راعى العلماء المسلمون الأقدمون المصلحة في تعليل الأحكام الكلية، لم يغب عن بالهم أن الأخلاق هي ناتج المصالح. إن أولئك الذين يذهبون، في تقديس المبادئ الأخلاقية العامة، إلى حد اعتبارها كياناً قائماً بذاته ولذاته، هم خاطئون أو مضللون: فهذه المبادئ إنما تم إنشاؤها لتحفظ مصالح المجتمع. لا يوجد مبدأ أخلاقي كلي قائم بذاته ولذاته. يبدو لي أحياناً أن راسبي الثانوية مشركون، حين يجعلون الأخلاق إلٰهاً مع الله. ليس ثمة شيء يوصف بأنه قائم بذاته ولذاته إلا الله.


الله هو الجمال والجلال، قيمة كلية متعالية عن السلب. إن الجمال الحقيقي هو الحق المطلق والخير المطلق كذلك. إن الحق والخير والجمال قيم إيجابية، تضفي من ذاتها على العالم، ولا تحتاج العالم. حقيقة الجمال هي المنح (كن سعيداً)، وحقيقة الأخلاق هي السلب (لا تفعل). لهذا كان الجمال لاتاريخيا، متعالياً عن الزمانية، فيما ظلت الأخلاق بنات زمانها: فكثير مما كانت تسمح به الأخلاق ذات يوم، لم يعد كذلك فيما بعد (السبي مثلاً).


في الإسلام هناك مجموعة مبادئ أخلاقية عامة كلية قليلة العدد، ويمكن إحصاؤها على أصابع اليدين. فلأن الشريعة شاءت أن تكون نهائية، وجب عليها أن تكون أكثر تجريداً، وأن تقلل قدر الإمكان من التحديد. هذا هو السبب الحقيقي للقول الذي يردده الببغاوات ولا يفهمونه. إن شريعة تريد أن تكون صالحة لكل وقت، ولكل شعب؛ يجب عليها أن تحذر من التحريم. وعلى العكس من ذلك كل خيال متعصب، يرى لذة في تصوير الله قاسياً، قسوة غير مبررة، حين يصوره ملاحقاً كلَّ فعلٍ بعقاب. ليتهم تأملوا في رحمته!..


لا مصلحة للمتأكل بالدين أن يصور الله رحيماً، لأنه بذلك يفقد امتيازه، امتياز أن يقرر هو متى يكون الله رحيماً ومتى يكون قاسياً. يروق للمتعصب أن يرى القسوة عدلاً، وينظر بحذر إلى كل محاولة للسياحة في اسم الرحمن الرحيم. هذا جزء من المشكلة القديمة بين الفقهاء والمتصوفة.


منذ زمن بعيد يحاول المتشددون رفض كل ما من شأنه أن يوحي برحمة الله؛ وعلى سبيل المثال: نُقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله بفناء النار. وإذ كان الفاروق يعرف الله أكثر مما يعرفه المتنطعون، فقد رفض أن يتصوره إلٰهاً قاسياً لا يشبع من الانتقام، كإلٰه العهد القديم. لقد تصوره، كما يصوره القرآن، رحيماً رحمةً تليق بأن تجعله ــ في  وقت ما ــ يتوقف عن تعذيب الكافرين، ربما بعد أن يقتص منهم.


والآن، أفلو قال أحد بجواز أن يعفو الله عن الكافرين، يكون خاطئاً؟. إن نفس الآيات التي تهدد بخلود العصاة في النار، وأولّها العلماء من أهل السنة، يمكن لها أن تقبل التأويل في حق الكافرين كذلك. لكن المتشددين عنصريون إلى درجة تصور أن الله خلق الدنيا والآخرة للمسلم فقط! والحق غير ذلك بالتأكيد.


لقد ورد في الحديث أن الخلق عيال الله. فهلا رأينا كيف ساوى الله بين الناس في رعايته إياهم؟ لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: المسلمون عيال الله. ربما ظننتم أنكم أعلم ممن نزل عليه الكلام الإلٰهي!.