• فنون
  • 6267 قراءة
  • 08:49 - 05 مايو, 2015

الحرافيش بين نجيب محفوظ ومحسن زايد


دراسة مقارنة بين الرواية والمسلسل التلفزيوني



 

إضاءة:



هذه المادة كُتبت في سنوات سابقة، قبل إنتاج باقي الأجزاء.

استهلال:

عرضت القنوات الفضائية, في بعض مواسم رمضان, الجزء الثاني من المسلسل المصري المشهور (الحرافيش)؛ ذلك المسلسل الذي استمد مادته الدرامية من الملحمة التي تحمل نفس اسم الملحمة الروائية التي  أبدعها الروائي العربي الأشهر نجيب محفوظ, وكان من أهم النصوص الإبداعية التي أشارت إليها لجنة جائزة نوبل, في حيثيات قرارها بمنح الجائزة للروائي العربي الأشهر.


لقد أعاد السينارست الفنان محسن زايد, في الجزء الأول من المسلسل التلفزيوني(السيرة العاشورية) معالجة نص الحرافيش درامياً، بإبداع لا ينقص عن مستوى التناول الذي عالجه به نجيب محفوظ على الورق, وإن كان قد اقتصر في تناوله التلفزيوني على الحكاية الأولى في الملحمة, التي تبلغ عدد حكاياتها عشراً. كما أبدع المخرج الكبير حسن عبد الله في ترجمة السيناريو المكتوب إلى دراما صورية سمعية, تخاطب الحواس مباشرة, في تناص ذي دلالات مع النص الأصلي (الحرافيش) الذي شعر المشاهد بحضوره الشديد, حتى بعد هذه المعالجات الثلاث المتواترة: أعني معالجة الرواية إلى سيناريو, ثم معالجة السيناريو إلى ترجمات صورية سمعية, ثم معالجة المشاهد لما يعرضه عليه الممثلون, وهم طرف ثالث بالتأكيد, ومختارون بعناية على يد المخرج.


الحرافيش وأولاد حارتنا:


أعترف منذ البداية أن رواية الحرافيش, منذ صدورها, قد سحرتني وحملتي إلى عوالم أخرى. كما أعترف بأن هواجس المقارنة بينها وبين (أولاد حارتنا) ــ الرواية التي سبقتها في الظهور والشهرة ــ ظلت تلح عليّ, دون باقي الروايات المشهورة الأخرى, التي لم تقارب الحرافيش في المستوى وإن قابلتها في التناول. ولعل شيئاً من أسباب هذه المقارنة عائد إلى ما دار حول أولاد حارتنا, من صخب, وصل حد الاتهام, ثم الاعتداء الذي كاد أن يودي بحياة كاتبها. ولكن الصخب شيء, وأمر الاقتناع بعيد عن أسبابه. وما كان لكل صخب الدنيا أن يخطف قصب السبق, المستقر في قلبي للحرافيش, ويمنحه لأولاد حارتنا.


ورغم كل ما حملته أولاد حارتنا من معالجة لقضية الصراع, الذي أُريد له أن ينشأ بين المعرفة العلمية التجريبية وما يمثله (عرفة), وبين المعرفة الدينية الغيبية وما يمثله (الجبلاوي): ذلك الصراع الذي سوف يودي بالمتصارعَين كليهما, عندما يقتل عرفةُ الجبلاويَ, ثم يُقتل هو, قبل أن يتذوق حلاوة الانتصار؛ في إشارة إلى عبثية المعركة وعبثية الأدوات… رغم كل ذلك, إلا أنه ما من شيء كان مستطيعا منعي من الشعور بأن (أولاد حارتنا), إن هي إلا محاكاة مباشرة لرحلة الإنسانية كما روتها الكتب المقدسة, مع شيء من الاستبدال هنا أو هناك، كاستبدال العالم القديم بالحارة, واستبدال الشخصيات الدينية والتاريخية بفتوات يستخدمون النبوت بدل السيف.


أما في (الحرافيش) فلقد شعرت منذ اللحظة الأولى بأن نجيب محفوظ هنا يبني عالما جديداً لم يُسبق إليه، يوازي عالمنا ولا يحاكيه, يقاطعه ولا يجاريه؛ إضافة إلى امتداده ــ أزماناً وأشخاصاً ــ فيما يشبه ملحمة عذبة ممتدة ثلاثة عشر جيلاً, تغطيها الحكايات العشر التي تكوّن جسد الرواية, منذ الجد الأول (عاشور الناجي) بطل مسلسل محسن زايد, إلى آخر الأحفاد في آخر الحكايات الذي لم يحمل اسم جده الأول عبثاً, لأنه سيلوح بمبادئه مرة أخرى وإن في ثوب جديد يبرره اختلاف الزمن واتعاظ الحفيد بتجربة الجد الموؤودة.


إن هناك فارقاً دقيقاً بين المحاكاة المباشرة والتكرار: فالمحاكاة صناعة عالم على مثال العالم الأول, بطريقة تجعل المتلقي يرغب عن التفاعل, مع المحاكاة, إلى البحث عن الأصل الأول, وتفضيله, طالما أنه هو المثال السابق. وهذا ما أعتقد أن (أولاد حارتنا) عانت منه. أما التكرار فهو شيء مختلف البتة, ويشبه اختلاف الأبناء عن الآباء, رغم تكرارهم لنفس طرائق المحافظة على النوع. ولطالما رأينا الصراع المتأجج بين الأجيال, والمؤدي في النهاية إلى انتصار نموذج الابن على نموذج الأب.


فالمحاكاة: طاعة للقوانين, وخضوع للنسق الأصلاني. أما التكرار: فحفاظٌ على النوع, مشبعٌ بصرخات التمرد الصاخبة؛ صخبَ الحياة وضجيجها. هذا هو الفرق بين الإبداع المنعتق والكتابة المطيعة. ويكاد يكون التكرار صفة ملازمة لأحدث الإبداعات وأهمها, من (الفردوس المفقود) لجون ميلتون, إلى (عوليس) جيمس جويس, إلى (الحرافيش)...


لقد كانت الحرافيش نصاً فنياً خارقاً للعادة, وأشبه بالملاحم فعلاً, وأقرب إلى الإيهام الشعري القادم من وراء المجهول, في لحظات التجلي والاتصال. وعن ذلك يقول نجيب محفوظ نفسه: "وكانت دفقة خيال, لا يحتاج إلى جهد, مثل الذي احتاجته الثلاثية". أفليس له الحق بعد هذا في اعتبارها ملحمة!. وأليس لي ـ وأنا المفتون بالشعر والملاحم ـ الحق في أن أشهد في هذه الصفحات شهادة صدق, لنص فني خرج متقناً كالشعر, عذباً كالحياة, سلساً مترقرقاً كالنيل!.


لقد امتازت رواية الحرافيش بامتداد الصراع فيها, امتدادا يشبه أن يكون امتداد الزمن, في سبيل تحقيق حلم الإنسانية الأجمل في العدالة الاجتماعية: ذلك الصراع الناشئ عن سوء توزيع الثروة: فالأغنياء تتركز في أيديهم سلطة المال وتساندهم قوة السلطة, في عالم يعيد إنتاج وسائل الهيمنة, بطريقة تجعل المحرومين يرون أنفسهم في مرتبة أدنى من أن يتمسكوا بمبدأ مكتفين بالأحلام, دون أن يبادروا إلى الفعل. ولكن الحال لا يستمر هكذا دائماً, إذ لا بد أن تدفع الأحلام ـ بين الفينة والأخرى ـ إلى عالم الواقع, أناساً يكافح بعضهم بقوة المبادئ لتحقيق العدالة, ثم يطمع أكثرهم في نوال نصيبهم من الثروة على حساب الفقراء.


يبحث نجيب محفوظ, طوال الرواية عن طريقة لتلافي هذه النتيجة, بكسر هذه النسقية, واختبار لون جديد من ألوان التغيير, تنتجه الجماهير المهمشة بنفسها, لنفسها. إذ بعد أن تفشل كل الطرائق النسقية في التغيير, وينقلب كل واحد من ورثة عاشور الناجي على تراث العدالة الفردية, الذي ابتدأه جده, منحازاً إلى الثروة والهيمنة, جيلا بعد جيل؛ إلى أن يختار آخر السلالة: (عاشور) في الحكاية العاشرة ــ التي تحمل عنوان (التوت والنبوت) ــ أن لا يبدأ التغيير بطريقة فردية, بل يدفع الجماهير إلى تبني حلمه الفردي, وجعله حلمها الجماعي, تمهيداً لانتصار ميثولوجي لا تتلوه هزيمة.


الجزء الأول: عاشور الناجي, أو السيرة العاشورية:


في ذلك الجزء من الملحمة, الذي شاهدناه تلفزيونياً, يمكن القول بأن كلاً من السيناريست محسن زايد, والمخرج حسن عبد الله؛ قد حافظ على روح نص نجيب محفوظ, مع بعض التغييرات الضرورية, التي يقتضيها تحويل نص روائي إلى دراما تلفزيونية. فالشخصيات هي ذاتها: من عاشور, الذي أدى دوره باقتدار ملحوظ النجم نور الشريف, إلى فلة الغانية اللعوب, التي قامت بدورها الفنانة إلهام شاهين, التي يقع في حبها عاشور, ويرفع من خسيستها بالزواج, وتنجب له كل ذريته الباقية, إلى إدريس الذي يمثل دوره الفنان المميز أحمد بدير, كنائب عن كل نوازع الشر الإنساني... إلخ.


في ظلمة الفجر, كان الشيخ الأعمى (عفرة زيدان) يتلمس طريقه إلى مسجد الحسين لصلاة الصبح, عندما تناهى إلى أذنيه صوت بكاء وليد تخلصت منه أمه. فلم يمتلك نفسه أن يحمله إلى بيته, لترعاه زوجه الطيبة (سكينة) وتسميه باسم أبيها المتوفى (عاشور).


نشأ عاشور فتى قوياً: ضخم الهيكل, طيب القلب, بعكس الشرير (درويش): الأخ الأصغر للشيخ عفرة زيدان. وقد تمكن الفنان نور الشريف فعلاً أن يؤدي هذا الدور. كما تضافرت عدة عوامل لإعطاء هذا الفنان قدرة على إقناع المشاهد: فإضافة إلى تهيؤ المشاهد العربي لقبول مثل هذه الشخصية, من نور الشريف, الذي كان قد تعود المشاهد على رؤيته في دور الطيب العادل, مع نفسه ومع الآخرين, منذ تقمصه شخصيات تاريخية كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد, وشخصيات واقعية مدنية كدوره في مسلسل الرجل الآخر... إضافة إلى كل ذلك, فقد استطاع نور في هذا المسلسل ــ السيرة العاشورية ــ أن يقنعنا فعلاً بأنه عاشور الناجي الذي أبدعه نجيب محفوظ, وتصورناه كما هو في المسلسل, بمشيته البطيئة وكتفيه المتهدلين وسحنته الساهمة وصوته الهادئ. وكل هذه عوامل أثْرت كلاً من الأداء والسيناريو. وقد جاء الديكور, الذي تم بناؤه في مدينة الإنتاج الإعلامي خصيصاً للمسلسل, كفضاء للفعل متدخل في إبراز الحدث, في مرحلته التاريخية المفترضة. ولن ينسى المشاهد كيف تضافر الديكور مع الممثلين في إبراز المفاصل الهامة لأحداث المسلسل. ولنتذكر جميعاً مشهد حي الحسين, كما كان في المسلسل, ومشاهد البيوت المتلاصقة, والبدرومات التي تلامس شبابيكها أقدام المارين, وعاشور الناجي محمولا على الأكتاف, بعيد كل انتصار, يحيط به الأنصار, هاتفين: (اسم الله عليه, اسم الله عليه) والنساء يزغردن... إلخ.


لقد صدق الصبي عاشور رواية الشيخ عفرة زيدان، القائلة بأنه تبناه بعد وفاة والدين طيبين؛ وأطاع العجوزين المحسنين وأحبهما, كما أحباه, بل أكثر؛ مما أوغر عليه صدر درويش ــ الأخ الأصغر للشيخ عفرة زيدان ــ  وملأه بالحقد والحسد. ثم توفي الشيخ عفرة, ورحلت سكينة إلى أهلها, وبقي الفتى وحيداً بعد أن تخلى عنه درويش, الذي ورث البيت, ثم حاول استغلال قوة عاشور لمساعدته في قطع الطريق, إلا أن الفتى العملاق أبى وأفشل عليه محاولته الأولى. فاستفحل الخلاف بين الاثنين وافترقا.


ورغم حاجة عاشور الماسة, إلا أنه رفض الانضمام إلى رجال الفتوة (قنصوه) قانعاً بالعمل مكارياً على عربة كارو, عند المعلم (زين الناطوري) الذي سرعان ما أعجب به, وزوّجه ابنته (زينب), فأنجب منها ثلاثة أبناء, بعد أن امتلك الكارو التي يعمل عليها, مواصلاً كظم غيظه من ظلم الفتوات, الواقع على أهل الحارة, ورافضاً الاستجابة لتوسلات الحرافيش (المسحوقين) بانتزاع الفتونة من قنصوه.


يدور بنا المسلسل الدرامي طويلاً, عارضا مشاهد الظلم, الذي يفرضه الفتوة قنصوه على الحارة, وصولاً إلى اغتراره بتواضع العربجي عاشور وسكينته, متصوراً أن كل ذلك ناتج عن جبن يمنعه من الاستجابة لاستفزازاته, إلى أن يحدث ما هو متوقع من مثل هذه العلاقات, التي أنشأها المؤلف ولم تترك لغير المواجهة سبيلاً. وتحدث المواجهة فعلاً بين قنصوه وعاشور, وتنتهي بانتصار عاشور وترسيمه فتوة جديداً للحارة, لكنه نوع آخر من الفتوات, يعتبر الإتاوات التي يحصلها من الأغنياء حقاً للفقراء, يوزعه بينهم كل حسب حاجته, ويعود هو إلى التكسب من عمله الشريف.


أما درويش, الذي غاب في السجن مطولاً, فقد عاد إلى الحارة, ليبني خمارة في أطرافها, واجتلب معه الراقصة (فلة) الفتاة اللقيطة, لتغوي الناس تحت ستار من خدمة الزبائن, غير متوقع أن يقع عاشور في حبها, ثم ينتزعها من الخمارة ويطهرها ويتزوجها وينجب منها ابنه شمس الدين.


ولئن تميز أداء أحمد بدير في دور درويش, الذي استطاع تجسيد الشر في عالم الحارة, بأداء متقن وقفت من ورائه موهبة فذة, وتلاعب صوتي موحٍ, مع ماكياج مناسب, وديكور أُحسنت صناعته.. لئن حدث هذا التميز من بدير, لقد أمكن للمشاهد أن يلاحظ النتوءات البارزة في أداء إلهام شاهين ــ في دور فلة ــ حيث بدت خفة فتاة (الغرزة) مفتعلة وغير مقنعة, إضافة إلى هذا الرقص البائس الذي قدمته في الحلقات, مصحوبا بغناء صادر عن صوت مذبوح, لم يكن له أن يقنعنا بأن هذه هي غانية نجيب محفوظ في الحرافيش.


وبعد أن يبدأ الوباء بالفتك بأهل الحارة, يظهر الشيخ عفرة زيدان لعاشور في المنام, محذراً وآمراً بالمغادرة والنجاة إلى الصحراء, وعندما يقرر عاشور الاستجابة للوصية, لا يجد من يصدقه سوى فلة, التي تتبعه مع طفلها. وبعد العودة وانحسار الوباء, يكتشفان أن الوباء قد قضى على كل أهل الحارة, ليصبح عاشور هو الناجي الوحيد, وتقترن باسمه هذه الصفة الجديدة طوال الرواية, ويصبح اسمه منذ الآن (عاشور الناجي).


تسكن عائلة عاشور الناجي دار البنان السامقة الجميلة, ويعيشون عيشة الأغنياء. وقد استطاع المسلسل تسليط الضوء على تلك العلاقة الغريبة الناشئة بين الفتوة الزاهد وزوجته المتطلعة. كأنها إشارة إلى الأطماع الداخلية التي تنهش جسد المجتمع, في تقابل ذي دلالات مع الأطماع الخارجية, التي يمثلها العدو الخارجي إدريس (إبليس). لكن بما أن المجتمع (الحارة) ما زال في مرحلة الشباب, فإنه يتمكن من التغلب على كل هذه السلبيات, إلى حين.


يسكن الحارة قادمون جدد, ويعاود درويش الظهور, ليبث سمّه في السكان الجدد. فتحقق الحكومة فيما آلت إليه دور الناس الهالكين وأموالهم. وتتضح حقيقة أموال عاشور, ويُزج به في السجن رغم تعاطف الناس معه. ثم يخرج بعد عام, ويقلده السكان فتونة الحارة, من جديد, ليبسط فيها العدل مرة أخرى. وقبيل آخر الحكاية, يختفي عاشور الناجي, في غموض لا يستطيع استجلاءه أحد. وتعيش الحارة مرة أخرى مع حكاية أخرى, بطلها هذه المرة ابنه شمس الدين.


الصراع العنيف سمة ظاهرة لهذا النص. حيث يتصارع الأقوياء لفرض سلطتهم على الضعفاء (الحرافيش) في عالم يخلو من سلطة القانون, ويعاني من غياب المؤسسة, التي لا تتذكر الحارة إلا عند الرغبة في جني المكاسب. ولقد لاحظنا ذلك الغياب الدائم, خلال كل عمليات القتل والصراع العنيف الذي ينتهي بانتصار الأقوى. لكن هذا الغياب يتوقف فجأة, عندما تلوح في الأفق مكاسب للدولة, يمكن تحقيقها باستخلاص أموال الغائبين, من عاشور؛ فهنا فقط تظهر الدولة. لكن أمراً لافتاً آخر نلاحظه في الحرافيش: عزلة المؤسسة الدينية عن المجتمع, وانشغالها بأمور لا علاقة لها بهذا العالم؛ حيث يلجأ المضطهَدون دوماً إلى باب التكية ـ رمز المؤسسة الدينية ـ فتصدمهم الأبواب المغلقة والأناشيد التي لا يفهمونها ولا تنفعهم.


الجزء الثاني: حكاية شمس الدين بين الرواية والدراما:


الجزء الثاني من الحرافيش عرضته القنوات الفضائية هذه المرة بنفس الاسم (الحرافيش) من إخراج خالد بهجت وسيناريو محسن زايد ــ الذي كتب سيناريو الجزء الأول ــ ومن تمثيل هشام سليم, في دور شمس الدين بن عاشور الناجي, وإلهام شاهين, في دور فلة مرة أخرى, وأحمد بدير, في دور إدريس مرة أخرى كذلك.. إضافة إلى مجموعة أخرى من الممثلين.


إلهام شاهين هنا هي ذاتها إلهام شاهين هناك, حيث لا جديد تستطيع تقديمه, اللهم إلا إذا اعُتبر هذا (الكاركتر) الذي تقدمه فناً. ولولا وجود شخصيات فنية من النوع الثقيل, في المسلسل بجزأيه, من مثل هشام سليم هنا ونور الشريف هناك, لأصيب المشاهد بالإحباط, ولهرب من القناة إلى مسلسلات أخرى. أما هشام سليم فيواصل هنا ما ابتدأه هناك في الجزء الأول.


في الرواية, يواصل شمس الدين المحافظة على حلم عاشور الناجي, من خلال فتونة ملتزمة لا تميل إلى الظلم, مستمدة مادتها من قصص البطولة التي نُسجت حول عاشور الناجي. وعندما تواجهه التحديات يقبلها ــ على العكس من أبيه ــ فيهزم الخصوم, ويعاني من قليل من النتوءات الأخلاقية, التي انتصر عليها أبوه: فهو يستجيب لإغواء قمر, وينشئ معها علاقة عشق تتواصل حتى بعد زواجه من عجمية, ابنة ساعده الأيمن الفتوة دهشان, كما يوشك على الفتك بالمتحدين لسلطته إلى حد القتل, لولا أن عاشور يأتيه في منامه وينهاه, فينتهي؛ مكتفيا بتلقينهم الدروس التي تعيدهم إلى الطاعة.


أما في المسلسل الدرامي, فنلاحظ تدخل السيناريو لصالح الأم فلة؛ حيث يحقن المسلسل شخصيتها ببعض نوازع الكمال, التي كانت غائبة في كل من الجزء الأول من المسلسل ورواية نجيب محفوظ: حيث نجد أن فلة ــ لا عاشور الناجي في المنام ــ هي التي تقف في وجه النتوءات الأخلاقية لابنها, مذكرة إياه بعهد أبيه العظيم, الذي تحول الآن إلى ولي طاهر يتبرك الناس بذكره.


أمر آخر يفترق فيه المسلسل عن الرواية، يتمثل في رغبة المسلسل في اختصار بعض أجيال حرافيش نجيب محفوظ, حيث ينجب شمس الدين الرواية, ابنه البكر سليمان, الذي يتولى الفتونة من بعده؛ أما في المسلسل الدرامي, فإن شمس الدين ينجب سماحة, الذي هو في الرواية ابن سليمان, في إشارة مبكرة إلى أن المسلسل سوف يقفز عن حقبة سليمان, وصولاً إلى حقبة سماحة. حيث يؤثر السيناريست محسن زايد جعل شمس الدين يختفي كأبيه, بدلاً من أن يموت ميتة عادية, كما جعله نجيب محفوظ، وصولاً إلى النهاية الأخلاقية, القاضية بانتصار الخير, انتصاراً نهائياً, مع نهاية آخر حكاية؛ على يد آخر الأحفاد عاشور.


وبعد, فماذا يريد هذا العرض أن يقول لنا؟. وما هو مغزى هذا التكرار التاريخي لثلاثة عشر جيلاً, على طول عشر حكايات, تسرد لنا أحوال سلالة عاشور الناجي والحارة؟. وهل نحن أمام قصة تاريخية تلجأ إلى التخييل, في سبيل الوصول؟. ربما كان ما يقوله ميشيل فوكو صحيحاً في تفسيره لعلاقة التكرار بصقل التجربة الإنسانية: تلك العلاقة التي بدت لنا ـ كما أوضحنا سابقاً ـ كأهم علاقة تحكم ملحمة الحرافيش, من مبتدئها إلى منتهاها.   


ملحمة الحرافيش هي قصة التكرار الإنساني في أجلى صوره, حيث تتوالى الأجيال, وكل جيل يريد أن يصنع قدره. ولكن الأحلام الكبرى هنالك واقفة بالمرصاد, حتى تتحقق. ولأن نجيب محفوظ كاتب أخلاقي, بالدرجة الأولى, فقد كان لا بد لهذه الأحلام من التحقق, ولو في عالم التخييل, في الحكاية الأخيرة (التوت والنبوت).. ولعل هذا ما أدركه محسن زايد وهو يعيد معالجة نص نجيب محفوظ درامياً.


المسلسل وعلاقات الإنتاج:


لقد حرص السيناريست محسن زاي، على الأغلب, تحت وطأة ضغوطات منتجي الجزء الثاني من المسلسل ـ على إحداث تغييرات, أصابت جوهر نص نجيب محفوظ؛ كما رأينا في الحلقات الأخيرة: فعلاقة شمس الدين بالغانية قمر, في الرواية, لم تتواصل, لأنها لم تكن إلا نزوة, أفاق منها سريعاً بالزواج من عجمية. أما في المسلسل, فقد تواصلت العلاقة وتصاعدت, وتحولت إلى عشق يلهب مشاعر المشاهدين, ويسمّرهم أمام الشاشة الصغيرة. وهذا ــ من جانب ــ يضمن تسويقاً أفضل للمسلسل, لكنه ــ من جانب آخر ــ يثير مخاوف الممولين النفطيين, من محاذير ربما تعترض تسويق المسلسل, لحكومات الخليج, التي تملك أغلب الفضائيات. فالأمر ممتع ومقبول من ناحية, ومخيف ومحذور من ناحية أخرى. لذا فقد كان على السيناريست أن يجد حلاً توفيقياً, اهتدى إليه بتزويج شمس الدين من معشوقته. وهكذا تمت رشوة المنتجين المتخوفين وإغراؤهم في آن. وصار بإمكان المشاهد المحافظ أن يرشو ضميره، بأن كل هذه المتعة (حلال).