في علوم القرآن

 

ما يجوز وما لا يجوز، وما يجب وما لا يجب

 


المسألة الأولى: في ثبوته:

لا يثبت القرآن إلا بالتواتر، بخلاف الحديث النبوي الذي يثبت برواية الآحاد الصحيحة.

 

المسألة الثانية: في قطعيته:

ولأن ما ثبت بالتواتر قطعي، فقد علمنا أن نص القرآن ــ لا تفسيره ــ موجب للعلم اليقيني.

 

المسألة الثالثة: فيما يفيد العمل:

بخلاف ما ثبت بطريق الآحاد، فهو ظني يفيد العمل فقط  ولا يفيد العلم القطعي. كالأحاديث الصحيحة.

 

المسألة الرابعة: فيما يفيد العلم:

وما يفيد العلم هو المتعلق بالعقائد والغيبيات، كالرسل والجنة والنار وأركان الإيمان... إلخ. وهي ما تم الاصطلاح على تسميته بالسمعيات.

 

المسألة الخامسة: الفروع:

أما ما يفيد العمل فهو ما تعلق بالحرام والحلال، وافعل ولا تفعل. وهو ما اصطلح على تسميته بالفروع، أو الشريعة.

 

المسألة السادسة: في الفرق بين المتواتر والآحاد:

فلنفترض أن حديثا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتواتر هنا يعني أن يرويه عنه عدد كبير من الصحابة ولنقل 7 مثلا. وسنرمز لهم بالمخطط التالي:

الطريق الأول: البخاري عن 1 عن 2 عن 3 عن 4 عن (جابر) عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

الطريق الثاني: مسلم عن 5 عن 6 عن 7 عن 8 عن (أبي هريرة) عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

الطريق الثالث: الموطأ عن 9 عن 10 عن 11 عن 12 عن (ابن عباس) عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

الطريق الرابع: أبو داود عن 13 عن 14 عن 15 عن 16 عن (ابن عمر) عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

الطريق الخامس: الترمذي عن 17 عن 18 عن 19 عن 20 عن (أبي بكر) عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

الطريق السادس: ابن ماجة عن 21 عن 22 عن 23 عن 24 عن (أبي بكر) عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

الطريق السابع: النسائي عن 25 عن 26 عن 27 عن 28 عن (أبي بكر) عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

لاحظ أن كل كتاب حديث يروي النص منقولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق مختلف: فالبخاري مثلا ينقل عن 1 الذي يروي عن 2 الذي ينقل عن 3 الذي يروي عن 4 ومن ثم يروي 4 عن الصحابي الذي يقول لنا: قال رسول الله كذا وكذا.

هذا الذي ذكرناه هو طريق واحد. بمعنى أنه إذا اقتصر على هذا فهو آحاد. حتى لو كان متفقاً  عليه. فإذا تم نقل نفس الحديث بطريق المخطط المذكور كان متواترا، على خلاف في عدد التواتر. مع ملاحظة أن كل هذه الأرقام تشير إلى أشخاص مختلفين لا يتكررون في أي مرحلة.

 

المسألة السابعة: في ظنية التفسير:

ولأن تفسير القرآن بالحديث جميل ومطلوب، إلا أن هذا التفسير يبقى ظنياً، لا يرقى إلى أن يكون قرآناً، لأن نقله عن الرسول جاء عن طريق الآحاد.

 

المسألة الثامنة: في حديث يفسر آية:

ومهما بلغت صحة الأحاديث التي تفسر بعض الآيات ــ وهي نادرة ــ فإنها لا تمثل المعنى القطعي لكلام الله.

 

المسألة التاسعة: الثبوت غير الدلالة:

وآيات القرآن ــ رغم أنها قطعية الثبوت، إلا أن أغلبها ليس قطعي الدلالة، لأن أغلب القرآن من الآيات المتشابهة، التي تحمل أكثر من معنى. وهذا من سماحة الإسلام.

المسألة العاشرة: في اختلاف المفسرين:

من هنا يتبين أن آراء الناس قد تختلف كثيرا في معاني الآيات، خصوصاً وأن ما ورد من الحديث في التفسير نادر جداً. وأغلب هذا النادر لا يصح.

 

المسألة الحادية عشرة: في تفسيرات الصحابة:

أما تفسيرات الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ كعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعائشة، فأغلب المنقول إلينا عنهم منها، يعتوره الكثير من الشك في صحة النقل، رغم أن كتب التفسير زاخرة به. فالحق أن ليس كل ما قيل إن ابن عباس قاله، قد قاله حقاً. وكذلك في باقي المنقول عنهم وعن سائرهم رضوان الله عليهم.

 

المسألة الثانية عشرة: في ضعف النقل عن الصحابة:

أما أكثر من نُقل عنه روايات في التفسير، لا تصح في التفسير، فعلي وابن عباس وابن مسعود. ويبدو لي أن للفرق السياسية دوراً في هذا الوضع.

 

المسألة الثالثة عشرة: في كتب أسباب النزول:

وأكثر كتب التفسير نقلاً للأحاديث الموضوعة، كتب أسباب النزول عموماً، وكتاب جلال الدين السيوطي، المسمى بـ(أسباب النزول) على وجه الخصوص. فرغم أن الرجل عالم حديث جهبذ، إلا أنه لم يجد ما يصح في موضوعه، فاستعان عليه بما لا يصح، للأسف.

 

المسألة الرابعة عشرة: فيما قيل عنه بيت العزة:

ولسنا مجبرين على تصديق ما نُقل عن ابن عباس من أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ في السماء السابعة، إلى بيت العزة بالسماء الدنيا، قبل نزوله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. فلكي يثبت وجود شيء اسمه (بيت العزة) لا بد من دليل متواتر، لا مجرد نقل متردد بين الصحة والخطأ، وموقوف على ابن عباس، لأننا بصدد الحديث عن أمر من أمور المغيبات. ولا تلتفت إلى قول من قال بأن مثل هذا في حكم المرفوع. فلا مرفوع إلا المرفوع، وبشرط أن يصح، ثم بشرط أن يتواتر إذا كان الحديث يدور حول أمور العقائد، كما هو الحال هنا.

 

المسألة الخامسة عشرة: في معنى إنا أنزلناه في ليلة القدر:

ويترتب على نفي مسألة (بيت العزة) أن نقول: إن ما دعا إلى هذا الاختلاق ممن اختلقه، الإصرار على ادعاء العلم، في موطن لا يحسن فيه سوى الجهل، الأمر الذي قاده إلى محاولة تفسير معنى قوله تعالى: "إنا أزلناه في ليلة القدر".

والحق أن هناك رأيين جديرين بالاعتبار من مجموع آراء متعددة، هما:

1ــ إنا بدأنا تنزيله على قلب محمد في ليلة القدر. فتكون سورة العلق قد نزلت في ليلة القدر.

2ــ أنزلناه في فضل ليلة القدر. أي أنزلنا القرآن ليبين فضل ليلة القدر.

لكن هناك رأياً أفضل في نظري، وهو (لا أعلم). فكل ما ورد من الروايات في تحديد ليلة ابتداء نزول القرآن لا يصل درجة الصحيح. وهل يضرنا أن لا نعلم؟ لقد بدأ نزول القرآن في ليلة القدر، التي لا نعلم تاريخها على وجه اليقين، والتي صخب الصحابة حول الرسول، حين هم أن يعلمهم بها، فتوقف عن البيان، وترك ذلك لعلم الله.

 

المسألة السادسة عشرة: في نزوله من السماء مباشرة:

كيف نزل منجماً؟ لقد نزل مفرقا كما قال القرآن. ولكنه نزل من السماء مباشرة، دون المرور ببيت العزة المزعوم هذا.

 

المسألة السابعة عشرة: في كون المصحف هو القرآن كله:

والقرآن الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، هو هذا الذي بين أيدينا، وهو كامل غير منقوص. وكل من قال بأن هناك حرفاً زائدا أو ناقصا غير هذا، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، بإجماع السلف والخلف من السنة والشيعة والخوارج.

 

المسألة الثامنة عشرة: فيما قيل عنه مصحف فاطمة:

ومن قال بأن هناك مصحفاً لفاطمة يختلف عن هذا، فنحن بريئون منه، وهو بريء منا، ولا إسلام له أبداً، ولو صلى وصام وحج وزكى.

 

المسألة التاسعة عشرة: في الأحرف السبعة:

وما نُقل من أن القرآن نزل على أحرف سبعة، فحديث آحاد لم يبلغ درجة التواتر. ولا يكفي للاحتجاج به على هذا المصحف الذي بين أيدينا ومحفوظ بالتواترين: السمعي والكتابي. ولو قبلنا بحكمه عليه، لأدى ذلك إلى زعزعة يقين قطعي بظن متردد. وقد قلنا سابقاً بأننا لا نقبل في العقائد بأقل من المتواتر. ولا شك أن كلام رب العزة عقيدة العقائد.

 

المسألة العشرون: في رأي الطبري:

ولقد علمنا أن الطبري قد خلص ــ في مسألة الأحرف السبعة ــ إلى القول بأن هذا الحرف المحفوظ في المصحف بين يدينا هو الحرف الذي حفظه عثمان، بعد أن أحرق الأحرف السابقة كلها. وهو رأي عالم لا يزيد على ذلك. وما دفعه إلى هذا القول، إلا كونه تورط منذ البداية، حين قبل بحديث الأحرف السبعة، وبدأ من ثم يبحث عن تأويل يحفظ عصمة المصحف من التبديل أو التغيير أز زوال شيء منه. ولو رد الحديث لكان أسلم له وللمصحف. فلا شك أن كل من قبل بحديث الأحرف السبعة، محتاج إلى تقحم الإقناع. وما هو ببالغه.  

 

المسألة الحادية والعشرون: في البسملة بين السور:

والبسملة بين السور ليست من القرآن، ولكنها فواصل بين السور استحسن وضعها الصحابة رضوان الله عليهم. أما أنها جزء من آية في سورة النمل، فصحيح (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم).

 

المسألة الثانية والعشرون: في البسملة قبل براءة:

ونحن لا نعرف على وجه القطع واليقين لِمَ لمْ يتم وضع البسملة بين سورتي الأنفال وبراءة. فهناك أقوال كلها لا ترقى إلى مرتبة اليقين.

 

المسألة الثالثة والعشرون: في البسملة في أم القرآن:

والبسملة من الفاتحة، قولاً واحداً لا خلاف فيه، وهي من المتواتر كذلك؛ وإنما وقع الخلاف فيها بين كتاب المصاحف في أمرين:

1ــ هل يكتبونها آية قائمة بذاتها، بنها يبدأ عد الآيات السبع في السورة.

2ــ أم يكتبونها قبل قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) فتكون لاحقة بها وجزءاً منها.

كما وقع الخلاف بين الفقهاء حول جواز الجهر بها في الصلاة عند قراءة الفاتحة، من عدمه. مع الاتفاق على ضرورة قراءتها في ذلك، سراً أو جهراً.

 

المسألة الرابعة والعشرون: في معنى إعجاز القرآن:

يكثر الخلط في استخدام كلمة (معجزة) للإشارة إلى كل أمر غريب. والحقيقة أن ليس كل غريب معجزاً، وإن كان كل معجز غريباً. فالمعجزة هي أمر خارق للعادة يجريه الله على يد نبي من أنبيائه على سبيل التحدي، دعماً للنبي في وجه الخصوم، وقهراً للمنكرين أن يأتوا بمثله، مما هم في العادة مدعون أنهم قادرون عليه. من هنا جاء مصطلح إعجاز القرآن: إذ تحدى التنزيل العزيز منكري سماوية القرآن أن يأتوا بسورة من مثله.

إذن فكل سورة في القرآن معجزة، تتحدى المخلوقين المنكرين في أمر يستطيعونه في العادة. فلا إعجاز في تحدي الخبير لغير الخبراء: لقد كان العرب خبراء في شيء ما، فتحدتهم كل سورة في القرآن أن يجربوا حظوظهم.. فعجزوا.

 

المسألة الخامسة والعشرون: في ميدان الإعجاز: 

ولم يتحدث أحد في علم إعجاز القرآن، لا في الصدر الأول ولا في عهد التابعين. وإنما نشأت الرغبة في طرح موضوع الإعجاز القرآني على أيدي المعتزلة، رواد مدرسة العقل، في العصر العباسي، بعد أن تكاثرت المدارس الفلسفية، وظهرت الزندقة، وبدأ الملحدون والمتزندقون يلمزون القرآن. وأول من تكلم في هذا كان الجاحظ رحمه الله (ت: 225 هـ)، لكن كتابه لم يصلنا. أما أول كتاب وصلنا في إعجاز القرآن، فكان كتاب أبي عيسى الرماني المعتزلي كذلك (ت: 384 هـ).

 

المسألة السادسة والعشرون: في موضوع الإعجاز:

وقد تحدى القرآن المكذبين من قريش وأحلافهم بأن يجتمعوا فيأتوا بمثل هذا القرآن. فلما عجزوا، نزل بالتحدي رتبة فطلب منهم الإتيان بعشر سور مثله. فلما تحيروا وبان عجزهم، تنزل بهم التحدي درجة أخرى، فاكتفى بأن يأتوا بسورة من مثله. فهذا أعلى مراتب التحدي وآخرها. فكل من زعم أن هذا القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، مطلوب منه لكي يثبت ذلك، أن يأتي بسورة من مثل هذا القرآن. لكن في ماذا؟ هذا هو موضوع التحدي.

 

المسألة السابعة والعشرون: في أن البيان اللغوي هو الإعجاز:

لا بد لموضوع التحدي أن يكون مشتركاً، أي مقدوراً عليه من الخصمين سوياً. فلا يتحدى ملاكمٌ إلا ملاكما في ميدان الملاكمة، لأنه لا يدعي أنه يحسن شيئاً آخر. فماذا كان العرب يحسنون، حتى يتحداهم القرآن فيه؟ إنه البيان اللغوي. لقد كان العرب لا يحسنون طبا ولا علما ولا هندسة، ليتحداهم القرآن فيه، بل كانوا مجرد بلغاء يتذوقون جمال الكلام. فناسب أن يتحداهم القرآن في البلاغة، ولسان حاله يقول: أيها البلغاء، إن كنتم تعتقدون أن هذا القرآن من كلام الناس، فاجتمعوا سوياً، واستعينوا بمن شئتم، ثم ائتوا بسورة واحدة تقارب هذا النظم القرآني الجميل. هذا هو موضوع التحدي.

 

المسألة الثامنة والعشرون: فيما حرمه القرآن:

وكل ما حرمه نص من القرآن، فهو محرم بالقطع؛ لا يحله حديث مهما بلغت صحته. وكل ما أحله نص من القرآن، فهو حلال قطعاً؛ لا يحرمه حديث مهما بلغت صحته. فلا يمكن أن ينسخ القرآنَ إلا القرآنُ: لأن النسخ حكمٌ طارئٌ على حكمٍ أصيل. ولا يجوز أن تكون قوة الطارئ أقل من قوة الأصيل. دع عنك أوهام أناس يحبون غير هذا، فيقولونه.

 

المسألة التاسعة والعشرون: فيما قيل عنه آية رجم:

وليس في القرآن أية رجم منسوخ تلاوتها. والنص الذي نقلوه عن عمر رضي الله عنه، شاهد ــ بذاته وركاكته ــ على أنه لم يكن من القرآن ساعة من نهار أبداً. ولهذا أنكر صحة حكم الرجم من أنكر، ولم يخرجوه من الإسلام. وهيهات أن يكون مسلماً لو كان ثمة آية رجم!.

 

المسألة الثلاثون: في رد شبهة:

ولقد ساءني من قوم ينكرون حجية حديث الآحاد ــ حتى في الفروع ــ أن يحتجوا بحديث آحاد، لزعزعة ثبوت أصل أصيل متواتر، وهو النص القرآني الذي بين الدفتين. فهذا هو ما يسمونه في المنطق: (التناقض المنطقي).

 

المسألة الحادية والثلاثون: في القراءات المتواترة:

وكل هذه القراءات المحفوظة في المصاحف (قراءتنا في المشرق حفص عن عاصم، أو قراءة المغاربة ورش عن نافع... إلخ) سمعها الصحابة من فم الرسول وبلغوها كما سمعوها، وهي لا تعدو كونها طرائق مختلفة في نطق حروف المد. وهي من ضمن الحرف القرآني الواحد المحفوظ بين الدفتين. وأفضل ما يقال في تفسيرها أن الصحابي الذي قرأها، كان قد قرأ بها أمام الرسول، ثم لم يستطع أن يصحح لسانه وفق لسان قريش في حروف المد والهمز. فقبل منه الرسول ذلك. لأنه لم يقرأ بغير القرآن. ورغم ذلك فتفسيرنا هذا غير ملزم لأحد، لأنه مجرد رأي. وربما وسعنا أن نقول لما لا نعلم: لا نعلم.

 

المسألة الثانية والثلاثون: في لغة أكلوني البراغيث:

وكل ما قيل حول وجود لغة غريبة أو ضعيفة في القرآن باطل. مثل ما زعموه من وجود لغة (أكلوني البراغيث)، وغيرها. فقد علمنا أن القرآن العزيز نزل بأجمل لغة وبأفصح بيان. ولو تأمل محبو القرآن قليلاً، لوجدوا سبيلاً لإعراب الآي العزيز، بما يوافق اللغة الأفصح، في كل الأحوال.

فإذا تذكرنا أن علوم النحو والبلاغة إنما تم اختراعها بعد نزول القرآن؛ فليت شعري، كيف أمكن للبعض أن يسمح بأن يحاكم الفرعُ الأصلَ؟ ولو أنصفنا لقلنا لما لا نعلم تأويله من إعراب بعض الآي: لا نعلم. 

 

المسألة الثالثة والثلاثون: في استحالة الوصول إلى تفسير واحد:

وكلام الله ليس ككلام البشر، لأننا نحن المخلوقين لا نستطيع أن نقطع يقيناً بأن ما فهمناه من كلام الله هو مقصود الله؛ وجل ما نستطيعه أن نقول بأن هذا ما فهمناه من كلام الله. وشتان بين فهمنا البشري المخلوق في عقولنا، والمعنى الحقيقي الذي لا يعلمه سوى صاحب الكلام.

من هنا فلا يوجد تفسير يمكن له أن يكون نهائياً: لم يحدث ذلك في الماضي، ولا يحدث اليوم، ولن يحدث في المستقبل. وهذا يعني أن لا حجة في أقوال المفسرين.

 

المسألة الرابعة والثلاثون: في مسألة خلق القرآن:

والاختلاف في خلق القرآن من قدمه، مجرد أقوال كلامية متناطحة، يتسع لها العقل المسلم:

1ــ فمن قال بأن القرآن مخلوق، فإنما التوحيدَ قصد، لأنه تأمل في وحدانية الإلٰه، فرأى أن كل شيء سواه إنما هو حادث ومخلوق. فلو كان القرآن قديماً، لا بداية له، لكان واحداً من أمرين: إما أنه الله ذاته، فينفي الكلامُ وجودَ صاحب الكلام؛ وإما أنه شريك مع الله.

2ــ أما من قال بأن القرآن قديم، لأنه كلام الإلٰه الذي يسبق البدء، فقد أساء تأويل كلام أحمد بن حنبل، لأن الإمام ــ في محنته ــ إنما امتنع عن وصف القرآن بالمخلوق، ولم يقل بقدمه؛ ووسعه الصمتُ في المسألة. ففهم البعضُ رفضَ القولِ بالحدوثِ على أنه إثباتٌ للأزليّة. وإنما صمت الرجل ــ رحمه الله ــ فقوّلوه ما لم يقل. وقد ثبت لدينا أنه قال: ما سمعتُ أحداً من السلف يقول بأن القرآن مخلوق، فأقول بقوله. والحق أن من نسب إلى ساكت قولاً، فقد أساء.

وعلى العموم، فلم يكفر أحدٌ المعتزلةَ بهذا القول، مما يدل على أن القرون السابقة قبلت باعتبار الموضوع مجرد مسألة خلافية. فلا تلتفت أيها القارئ إلى تشنيع السلفيين، فقد تعودوا على إنكار ما لا يعرفون.

 

المسألة الخامسة والثلاثون: في جمعه في مصحف واحد أول مرة:

 

وقد تمت كتابة القرآن كله، في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مفرقاً في الصحف المتوفرة في زمانهم، من الجلد والحجارة وسعف النخيل، وفي كل ما يُكتب عليه في ذلك الزمان. وقد اكتملت كلُّ سورة فقامت تامة بذاتها.

ولم يمكن جمعه، في مصحف واحد، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن لا أحد كان يعلم إن كان قد تم الوحي، ما دام الذي يتنزل عليه حياً.

فلما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، قام الخليفة الأول الصديق رضي الله عنه بجمعه، والصحابة مجتمعون حوله في المدينة، موافقون ومتفقون. فكان أول إجماع على ما نعلم.

وإنما قلنا بأنه أول إجماع، لأن يوم السقيفة لم يشكل إجماعاً، لمعارضة علي وفاطمة وسعد بن عبادة، عليهم رضوان الله.

 

المسألة السادسة والثلاثون: في رد شبهة:

ولم يتم نقل أية آية، أو جزء منها، عن طريق خبر الواحد أبداً. لذا فلا تلتفت لخرافات القائلين بأن هناك بعضاً من ذلك، لأنهم إنما اخترعوا ذلك، ليبرروا قولهم بحجية خبر الآحاد في الأصول.

والحق أن أي آية انفرد صحابي بتدوينها أو حفظها، كانت لا توضع في القرآن، إلا بعد أن يجيزها مجموع الحفاظ والكاتبين العظام للوحي، كعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت؛ فكان إجماعاً لا خبر آحاد كما تقوّل الجاهلون.

والحق أن من قال بهذا القول، إنما أراد أن ينصر السنة، فهدم القرآن، وخرج على إجماع المسلمين سلفاً وخلفاً.

 

المسألة السابعة والثلاثون: في جمعه في مصحف واحد مرة أخيرة:

ثم كان جمع القرآن مرة أخرى على عهد عثمان، زيادة في التأكد من صحة الجمع الأول، حيث تم مراجعة ما جُمع بأمره على صحيفة أمنا حفصة، التي فيها ما جمعه الصديق، فوافقه تماماً والحمد لله رب العالمين.

وأنت ترى أن معاوية لم يكن ممن كتب القرآن أو جمعه، كما تقوّل بذلك الأفّاكون، إذ لم يرد له ذكر في الجمع، كما لم يصح عنه خبر في الكتابة. وقد أفضنا في التدليل على ذلك في كثير من منشوراتنا، فارجع إليها إن كانت لديك أثارة من شك.

 

المسألة الثامنة والثلاثون: فيما قيل عنه مصحف ابن مسعود:

وكل ما رُوِي عن وجود مصحف مختلف لعبد الله بن مسعود، لا يحتوي على المعوذتين وأم القرآن، فكذب موضوع لا يصح. وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وفيها أم القرآن والمعوذتان.