في جماليات النص القرآني



 أولاً: في ترابط الآيات: 


"هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ* رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب" آل عمران/7 ــ 8


 "هو الذي أنزل عليك الكتاب" هذه آية تتكلم عن قسمين عظيمين من أقسام آي التنزيل العزيز: المحكم والمتشابه؛ فما مناسبة أن يعقبها الدعاء بعدم إزاغة القلوب؟


إن ترتيب آي القرآن لا يمكن أن يكون اعتباطاً.. فدعونا نتأمل:


إذا كان كل من المحكم والمتشابه من كلام الله، فهل يمكن أن يختلفا؟ اللهم لا.


فكيف أمكن أن يقال بأن حكم الله في القتال يكون بالعقاب بمثل العمل الأول، مهما كان العمل الأول قبيحاً؟ أإذا فعل العدو القبيح، نرد عليه بالقبيح، كيل الصاع بالصاع؟.


فلنفرض أنهم انتهكوا أعراض نساءنا، أفيجوز لنا أن ننتهك أعراض نسائهم؟ فهل كانت نساؤهم من المذنبين المحاربين؟ وهل يتحول الفجور من قبيح منهي عنه، إلى جميل مأمور به، احتجاجاً بقول الله: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه"؟


لئن صدق هذا الفهم، إن قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" وقوله تعالى: " وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين"... لباطلٌ إذن من القول وزور..


إن من يقابل آيات العدل بآيات البطش، لهو أحد من يتخذون القرآن عضين. إن ضرب الآي بعضه ببعض، لهو أعظم آية من آيات الضالين. إن هذا القرآن كله يصدق بعضه بعضاً، فإذا ما جاء شخص ليختار منه ما يخالف بعضه، لضعف في علمه، أو لسفه في عقله، فهو ضال مبين مرتكب كبيرة من أكبر الكبائر. أما إن كان متعمداً لذلك وهو يعلمه، فهو أكفر من فرعون وهامان وجنودهما..


إن لفي هذا القرآن لآياتٍ محكمات هن أم الكتاب. ثم إن فيه لآياتٍ متشابهات هن بناتُ هذه الأمهات، لا يقمن دونهن، ولا يُفَسّرن بمعزلٍ عنهن. يعلم ذلك الراسخون في العلم ويفعلونه. أما الذين في قلوبهم زيغ، فيحتجون بالبنات بما يبطل الأمهات، ويأتونك بآية تخالف غيرها. وبذا "يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"، وبذا يجعلون القرآن عضين ــ نعوذ بالله من الخذلان ــ إنهم مثل أولئك المقتسمين (الحجر/90 ــ 91) الذين ائتمروا بالنبي ليقتلوه، ثم ليقسموا لوليه بالله بأنهم لم يشهدوا مهلك أهله (النمل/49)، متبعين في ذلك خداعاً لغوياً يحسن المتدينون المزيفون فعله يومياً.


إن احتجاج أحد ما بأنه حين يحرق أعداءه، وينكل بهم ــ أياً كان دينهم ــ بهذه الطريقة التي لا يحسن مثلها أكفر الكافرين.. إن احتجاج هذا (الأحد ما) لهذا الفعل، يقول الله تعالى :"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" لهو مبطل كل البطلان لمجمل التنزيل العزيز وتفصيله في مواضع كثيرة. لهذا ناسب أن يعقب الله على الآيات "هو الذي انزل عليك الكتاب..." بأن أَلْهَمَ المؤمنين الراسخين في العلم أن يبرأوا إلى الله من هذا الفهم، إذ يعلمون أنه زيغ "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا". هديتنا إلى معرفة أن هذا كله من عندك، وأن ضرب بعضه ببعض هو من الضلال المبين.


إن في الصدور من المجرمين لَغيظاً يلهبها، وناراً تحرقها، لكن شفاء هذ الغيظ، وإطفاء هذه النار، لا يكون بغير ما يرضي الله. هذا هو مقتضى الإيمان، الذي سرعان ما يتحول في القلوب إلى ما هو أحلى من العسل. والله لو جيء لي بالصهيوني الذي أطلق النار على صغيري، لما فعلت به أكثر مما فعل بصغيري؛ بل لرجوت أن يهبني الله القدرة على العفو عنه: فما ذهب صغيري إلا لله، وما أرجو بعفوي سوى الله. وإن الذي بيننا لأرضاً مسلوبة وحقاً منكوراً؛ لا مجرد ثأر شخصي صغير.


ثانياً: في أن القتل جريمة مهما كان دين المقتول:


"فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ. فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فَوَكَزَهُ مُوسَى، فَقَضَى عَلَيْهِ. قَالَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" القصص/15 ــ 16


ها هو موسى ــ الأفضل في زمانه، والنبي فيما بعد، والمتبع لدين أبيه يعقوب ــ يعتبر قتله للكافر مصيبة يتوب إلى الله منها. فرغم انه قتل وقع علن طريق الخطأ، لأنه نتج عن مجرد وكزة خفيفة، إلا أن المهتدي العظيم على دين نبي الله يعقوب يراه (من عمل الشيطان). إن هذا المقتول كان غير مؤمن، أو كافر ــ على الأقل في نظر نبي الله ــ لكنه اعتبر قتله جريمة، تستوجب التوبة والاعتراف بظلم النفس، وطلب المغفرة.


فهل يفهم المتدينون الجدد؟ لا أظن.


لكنها ذكرى وشهادة وحجة.


ثالثاً: في التعدد:


يقول تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع" النساء/3


تأملوا يا أصدقائي..


لدينا في البداية خوف من عدل الرجل في تعامله مع مال اليتيمة التي يرعاها. يخاف المؤمن من أن يتزوج مكفولته اليتيمة، فلا يعطيها مهرها الذي تستحق، أو يؤثر عليها فتقبل به زوجاً، لما له من فضل عليها، مع أنها لا تراه مناسبا لها. فيأمره التنزيل العزيز بأن يتحول إلى غيرها من النساء، اللاتي له متسع في الزواج منهن، دون ضغط نفسي أو اجتماعي.


ها هنا لدينا منع يتلوه أمر. وهذا يعبرون عنه في أصول الفقه بقولهم: (إذا جاء الأمر بعد منع أفاد الإباحة).


الإباحة فقط، وبشرط العدل الدنيوي. يشبه ذلك قوله: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها. فمن جاء من الأغبياء اليوم ليقول لنا إن هذا أمر واجب بزيارة القبور، قلنا له: أنت راسب ثانوية.


أما اعتبار التعدد سنة، فلا شك أنه حياد عن النص القرآني، نحو استنباطات يلفها الكثير من الشهوات.


لقد تقرر في الأصول كذلك، أن الأمر أو المنع من الرسول مقدم على الفعل. لأن فعله قد يكون خاصاً، أما أمره فواضح وعام.


لقد عدد الرسول بالفعل. لكنه لم يأمر بالتعدد. وإن القول بأن التعدد سنة، يشبه أن تكسر رباعيتك لتتشبه بالرسول، إذ كسرت رباعيته في معركة أحد.


تفقهوا يرحمكم الله!ّ


رابعاً: في نظرية القتال في الإسلام:


"ليسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْء".


هذه هي نظرية القتال في الإسلام.


أنت لا تقاتل وفي قلبك غير الانتصار إلى الحق. فطهر قلبك من الرغبات الخاصة، لأنك لم تقاتل (لك) بل (له) سبحانه، فهو الحق، لا أنت.


إن شفاء صدرك من عدوك هو (لك) أما تحقيق الخير العام فهو (له). فكن (له)؛ لأنك إن لم تكن (له)، كنت (لك).


والله لا يقبل الشركاء.


حين خدعت قبائل متوحشة الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ زاعمة أنها تريد تعلم الإسلام، ثم قتلت مبعوثيه، الذين أرسلهم إليها لهذا الغرض، امتلأ قلب رسول الله حزناً وغيظاً، فصار يقنت في كل الصلوات، ليدعو عليهم. فقال له الله سبحانه: "ليس لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون". فكف الرسول الكريم عن الدعاء.


لقد قتلوا سرية القراء من رسل رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ثم يلوح لهم بالمغفرة. فتأملوا:


"لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ* وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم" آل عمران/128 ــ 129


إن الذي يقاتل في سبيل الذهاب إلى الحور العين، إنما يقاتل في سبيل الجائزة. والمجاهد الحق لا يقاتل لنيل الجوائز، بل لتحقيق الهدف.


الحور العين مجرد جائزة، تتحقق منحة من الله، بعد أداء دَينِ الإخلاص. أما كل هذه المشاهد المحمومة، التي يعرضها علينا خطباء محرومون جنسياً، أو مغيظون غريزياً، فلم ترد في نصوص صريحة صحيحة.


إن الجنة ليست مبغى كبيراً، مزحوماً بنسوة مستلقيات في انتظار مضاجعات لا تتوقف. كما يتمنى الجائعون. وإن الذي يقاتل في سبيل شفاء صدره من عدوه، إنما يقاتل في سبيل إشباع غريزة أولى، والمجاهد الحق لا يقاتل لإشباع غرائز الحيوان، المتحدرة إليه من عصور ما قبل الحضارة، بل لتحقيق الهدف. فالحرب في الإسلام ليست ثأراً شخصياً.


لقد غير رسول الله قائد الجيش في المعركة، حين سمع منه كلمة الثأر. ولا يغير قائدٌ رئيس أركان حربه وسط المعمعة، إلا لتصحيح خطيئة منهجية. تذكروا سعد بن عبادة وفتح مكة، يرحمكم الله.


خامساً: في جهل الظالمين بحقيقة أنفسهم:


"وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ* بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين" الأنعام/27 ــ 29


سيقفون عليها، وسيتمنون ان لو عادوا ليتوبوا.. والحقيقة انهم لا يعرفون مدى قبحهم الداخلي، لأنهم لو عادوا إلى الدنيا، لعادوا إلى القول: إن هي إلا حياتنا الدنيا!.. كيف ذلك وقد رأوا النار؟


ستعود أعمالهم إلى القول، سيعودون يكذبون ويسرقون ويظلمون، راجين ألا يرجع الله إلى عذابهم. إن شدة ولههم بالظلم، يمنعهم من الكف عنه، أملا في طول الحياة، ونسيان الله!..


ألا ترون كم لا يقدرون الله حق قدره؟ ألا ترون كم يجهلون مدى قبحهم؟