• تاريخ
  • 2363 قراءة
  • 13:34 - 20 سبتمبر, 2015

أرأيت كيف تأكل الثعالب في الزمن الرديء ما اصطادته 

الأسود

  

إضاءة: نُشرت أول مرة في 12/11/2005، وهي جزء من حوار مطول على المواقع، مع المبدع الفلسطيني أحمد حسين (المثلث). أحببت أن أثبتها كما هي، مع الإشارة إلى تاريخ نشرها


أخي الجميل، أولاً، عليك أن تعلم ـ وقبل كل حوار ـ أنني أنطلق من منطلق المحبة لك، لا من منطلق تتبع السقطات.. أحببتك من يوم علمت انحيازك لفلسطين والعروبة وعبد الناصر. سمعت ذلك من شانئيك قبل محبيك، حتى وهم يقولونها والغيظ يملأ قلوبهم، ويطل من عيونهم. فاخترت صداقتك، وراهنتُ عليها، مع علمي المسبق بأن هناك مساحة واسعة للخلاف بين موقفينا الفكريين.

بدايةً، أود تقديم نفسي لك كخلفية تاريخية، لأنني من أولئك الذين لا يؤمنون بما قالته مدارس التفكيك، حول (موت المؤلف): فالمؤلف سيظل حياً، طالما بقي النص مفتوحاً للحوار، لسبب بسيط هو أنه مبدع النص وجزء من تاريخه، الذي لا يمكن قراءته قراءة أفضل دونه.

أخي العزيز، أنا طفل كبير، لا يعرف المزج بين الألوان: فالأبيض في نظره هو أبيض، ولو اجتمع كل فقهاء البراغماتية على إقناعه بغير ذلك، ويرى الأسود أسودَ، ولو طرزوه بكل حرير الصين.. طفل يرى العالم كما هو، لذا فهو يريد إعادة تكوينه وفق ما يشتهي. ويجمع في شخصيته بين المتناقضات ـ في نظر بعض المتدينين كذلك ـ فهو متدين شديد الحب للإسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، ولما جاء به من السماء؛ وفي نفس الوقت هو محب لعبد الناصر، ويعتبره فعلاً صدفةَ الشرف العربي الوحيدة، بين الزعماء، في تاريخنا الحديث. ويؤمن بالغيبيات والمسلّمات الدينية، في حدها الأدنى: أي فيما لا مندوحة له عن التصديق به لكي يظل مسلماً؛ كالرسالة، والنبوات، واليوم الآخر، والملائكة، وتحليل الحلال الذي أحله الله، وفق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحريم الحرام وفق نفس المرجعية. ولقد يمكن له أن يرى بعض الألسنة تندلع من أفواه بعض (الليبراليين)، سخرية مما يقول، لكنه ـ مثل أي طفل غرير ـ يواجه دلع اللسان بدلع مقابل، وربما أكبر في بعض الأحيان. ومع كل ذلك لقد تراه ـ ويا للعجب ـ يؤمن بأن العلمانية، في حدّها الموضوعي، لا تتناقض مع الإسلام. بل إن الذي يتناقض معه هو هذه التطرفات العلمانوية.

نعم. أنا هو ذلك الطفل.. وأنا أجمع بين هذه (التناقضات) فعلاً، وهي كثر كما ترى، لكن ليس منها التناقض مع الذات ـ وأنت لم تقل ما يفيد ذلك ـ وما جمعي بين المناهج المختلفة في البحث، عند نقاش المسائل الثقافية، بالأمر المذموم؛ لا أكاديمياً ولا إجرائياً، حيث يمكن بالتأكيد اعتبار هذا الجمع منهجاً في ذاته، مع العلم بأن جمعي بين منهج الوعي التاريخي ومنهج الوعي الإيماني ـ كما سميتهما ـ لا تناقض فيه في نظري ونظر كثيرين: فالوعي الإيماني، في جزء كبير منه، هو شكل من أشكال الوعي التاريخي. والتاريخية، بما أنها منهج يعترف بتأثير علاقات الإنتاج الزمنية (الدنيوية) على الوعي، ويعطيها الدور الأكبر في صياغته، لا تتعارض مع منهج الوعي الإيماني؛ لأن هذا المنهج يعترف مسبقاً بالأسباب، ويأمر المؤمنين بالأخذ بها. وهذه الأسباب هي ـ بالقطع ـ دنيوية اجتهادية منطلقة من فعل الأفراد والمجتمع.

أما إذا قصدت، بإشارتك إلى تناقض الوعيين، التذكير بالتناقض الأزلي بين مقولتي الوعي والوجود، وأيهما أسبق على الآخر، فإنني أود القول بكل بساطة، بأن كل ذلك لا يهمني في شيء. وليذهب هيجل وماركس إلى الجحيم كلاهما. لأن ما يهمني حقيقة هو إثبات العلاقة التي أثبتها كلا الفيلسوفين: المثالي والمادي، مع أن إثبات ذلك معلوم بالبديهة، ويعرفه أي قروي فلسطيني بسيط، ولا يحتاج إلى فلاسفة ألمان من هذا النوع الثقيل. وربما يمكن الجمع بين المقولتين ـ على طريقتي في الدمج بين المناهج المختلفة ظاهرياً ـ بالقول بأن الوجود الاجتماعي، لعرب الجزيرة، كان في مراحل تشكله الأولى، في مرحلة ما قبل الوعي المجتمعي؛ كون تلك التجمعات مجرد مزق قبلية في مرحلة ما قبل تأسيس المجتمع، بالمعنى الحضاري. فجاء الإسلام وأقنعهم بأن مصلحتهم في نصرته وتبنيه. فقبلوه بعد تمنّع وممانعة، مثلما يحدث مع أي مفهوم جديد. وعند هذا الحد، بإمكان منطق ماركس أن ينتصر... ثم خالط هذا الدين حشاشات قلوبهم، وحملهم إلى عوالم أخرى غير معهودة، ووعدهم بمباهج روحية ومادية في عالم الميتافيزيقا، وصاغ وعيهم من جديد، وبصورة مختلفة، دعتهم إلى التضحية بالمباهج المؤقتة، طمعاً في مباهج مؤجلة أكبر منها. فبذلوا أجسادهم في سبيل التبشير بهذا الوعي الجديد، محققين في نفس الوقت مصالحهم المجتمعية. وعند هذا الحد يمكن لمنطق هيجل أن ينتصر... مع أني، كما قلت سابقاً، لا أهتم بمن ينتصر منهما، ثم لا أبالي إن كان منطقي لا يتوافق، البتة، مع أي منهما.   

أما الإيمان الغيبي المطلق، الذي لا حيلة للمؤمن في نقاشه، فلا يتعدى لديّ عدة مسائل، تكاد تُعد على أصابع اليد الواحدة؛ ولعلي قد أحصيتُ أكثرها قبل سطور قليلة. وما يضير منهجَ الوعي التاريخي إذا كنت مؤمناً بالإله الواحد، والنبوات، وأقيم الصلوات، وأعتقد بأن فلسطين أرض مقدسة، وأرفض الاستسلام للغرائز؟!... ماذا يتناقض من ذلك مع وعيي بحركة التاريخ، وتوقعي لنتائج إيجابية، على فعل إيجابي قمتُ به بشكل صحيح؟.

كما أنني أؤمن بحركة القومية العربية، في نفس الوقت الذي أرفض فيه كل التطرفات الشوفينية، ومشاعر الاستعلاء القومي، التي تنظر إلى القوميات الأخرى ـ خصوصاً المختلفة معها ـ باعتبارها أدنى منها في سلم الرقي البشري. فالعروبة هي أصلنا وأصل الإسلام. والإسلام هو أصل العروبة وأصلنا، فيما يمكن تسميته بالعلاقة الجدلية بينهما: فالإسلام نزل من السماء، لكنه لم يكن ليختار غير العرب، لجعلهم منطلقاً لدعوته. والعرب وجدوا في الإسلام كينونتهم الحضارية، التي حققت ذاتيتهم الملغاة، منذ زمن بعيد، بفعل التطورات التاريخية والسياسية. وقد أنتج هذا التفاعل الجدلي، بين الطرفين، واقعاً عربياً إسلامياً، كان من الممكن له الاستمرار، لو لم تحدث حركة الالتفاف الاستراتيجي على العروبة والإسلام كليهما.

وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول بأنني من المؤمنين بأن العروبة باللسان؛ لأن لا أحد يستطيع ـ بعد كل هذه الحركة الدنيوية الواسعة، من هجرات الساميين من الجزيرة، منذ ما قبل الإسلام بأحقاب بعيدة ـ إثباتَ أصلٍ إثنيٍّ جامعٍ لسكان هذه المنطقة، التي تداولتها أيدي الشعوب والغزاة والمهاجرين: فقد هاجرت إليها أقوام متعددة من أجناس مختلفة، واستوطنتها ثقافات كثيرة. لكن الإسلام وحده هو الذي صهرها في لغة واحدة، يحفظها كتاب واحد. ولولا نزول القرآن، بتلك اللغة، إذن لاندثرت وانمحت، ولتحولت شعوب المنطقة إلى شراذم، لا تجمعها لغة، كما هو حادث لكل من كانوا يتكلمون اللاتينية أو الجرمانية، ولما أمكن لكلينا الادعاء الآن بأن لنا لغة واحدة، تجمعنا مع المصري القبطي، أو المغربي البربري، أو السوداني الزنجي. وإن إلقاء نظرة سريعة على واقع أرض الكنانة اليوم ـ التي عاد أصلها الفرعوني للانبثاق مرة أخرى، بعد تراجع المفاهيم القومية ـ لكفيل بإقامة الدليل، على أن النوستالجيا الأصلانية، لا محل لها في نقاش يبتغي البحث عن قواسم مشتركة، تحفظ لهذه الأمة بقاءها، إلا إذا وافقنا على استبعاد دولة كمصر من أحلام الوحدة العربية. لكنني من المؤمنين بأن مصر هي حاضنة الإسلام والعروبة والتاريخ، منذ دخول الإسلام إليها حتى الآن. بعيداً عن هذه الهوامش الزائدة.

ومع هذا فإنني قد أفاجئك، بأنني من ذلك النفر القليل، الذي ينظر باحترام شديد، إلى تجربتي كل من محمد علي في مصر، وداود باشا في العراق، باعتبارهما تجربتين عربيتين حديثتين، أسست أولاهما لبواكير عهد النهضة، وأُجهضت الأخرى بفعل مؤامرات عديدة. أقول هذا رغم علمي بأن كلاً من محمد علي وداود باشا، لا يعود إلى أصول عربية من ناحية الأبوين. ولسوف أفاجئك مرة أخرى، بأنني لست من أولئك القائلين بمرجعية التجربة (الهجرية) بعد عهدي الشيخين ـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ـ لأنني أعتبر كل ما جاء بعد ذلك انقلاباً على المشروع الإسلامي العربي ـ مع استثناء خلافة علي التي عانت من انعدام الاستقرار ـ وقد تمثل هذا الانقلاب باستفحال الطغيان، والانفراد بالسلطة، والاستئثار بالمال العام، وقهر الفرد، واحتقار الأمم الأخرى التي دخلت في الإسلام، وكان من الممكن لها أن تدخل في العروبة ـ كما فعلت مصر ـ لولا ذلك القهر الذي فرضه عليها العرب الأصلانيون من بني أمية.

لقد جاء الإسلام إلى مصر، فغيّر دينها كما غيّر قوميتها. ومن يومها لم تعد مصر قبطية، بل أصبحت عربية هي وما وراءها من الولايات الأفريقية. وأعتقد بأن هذا يُحسب للإسلام، كما يُحسب للغة العربية. ولقد ظلت هذه اللغة ـ بصفتها لغة القرآن ـ هي الجامع بين كل أطراف هذه الأمة حديثة التشكل، حتى بعد تراجع المشروع الإسلامي. مما يعني أن العروبة اتكأت على الإسلام وأفادت منه، بنفس القدر الذي استفادته الدعوة الإسلامية من العروبة، في لحظات انبثاقها الأولى.

أخي الجميل، عندما أتكلم عن اللغة، فإنني أقصد أدوات التواصل اللسانية بين الأفراد والجماعات. وعندما نتكلم الآن اللغة العربية، فإن هذا يعني أن ما سوى ذلك ليس لغة عربية. وهذا هو حاصل التطور التاريخي. ولقد كانت لنا لغة أصلانية من قبل، وربما كانت هي الآرامية أو شيء يشابهها، لكن لا يمكن القول بأنها لغة عربية ـ وفق ما نعرف اللغة العربية ـ لمجرد أن آباءنا في هذه المنطقة تكلموها. ولو كان ذلك كذلك، إذن لأمكن اعتبار كل من اللغة اللاتينية، ولغة الهنود الحمر، إنجليزية، لأن سكان الجزائر البريطانية الخاضعين للإمبراطورية الرومانية كانوا يتواصلون باللاتينية، والهنود الحمر في أمريكا كانوا يتواصلون بلغة ما قبل كولومبوس، وكلا الأمتين الآن تسكن وطناَ يتكلم الإنجليزية، ويتواصل مواطنوه بها!. إنني أرى هنا أنك تنسب اللغة إلى الجغرافيا، مع ما في هذه النسبة من خطورة أنت تعرفها، ولمّحت إلى شيء منها، عند حديثك عن اللغة العبرية ـ وأنا بالمناسبة أعرفها قراءة وكتابة، لكنها معرفة تحتاج إلى شيء من التطوير ـ ولا أحد يقول بذلك. وإن كنت أخشى أن يقوله الصهاينة في المستقبل، كما فعلوا مع أزيائنا الشعبية والكنعانية.

إن انتساب لغتنا العربية إلى لغة آبائنا، الخارجين من شبه الجزيرة، لمجرد أنهم سكنوا هنا، هو في حد ذاته يشبه أن يكون وعياً ميتافيزيقياً، يقود إلى الاعتراف بمبدأ علة أولى دنيوية، لا ندرك كنهها الآن. وإذا كان اعترافي ـ كمتدين ـ بمبدأ العلة الأولى (الله) نابعاً من كوني مؤمناً بالقرآن، فإنني لا أستطيع سحب هذا المنهج الغيبي، على كل التجارب الدنيوية. وأظن هذا متوافقاً مع منهجك البحثي. ثم من هو الذي يستطيع إثبات أن سكان الجزيرة الأوائل كانوا يتكلمون اللغة العربية؟. ولماذا اللغة العربية بالذات؟. ألكي نقول بعد ذلك بأن كل من خرج من الجزيرة كان عربياً؟. لقد سكن كل من إبراهيم وإسحق ويعقوب ـ عليهم السلام ـ فلسطين، فهل كانوا عرباً كلدانيين منسوبين لأجدادهم البعيدين الذين هاجروا من الجزيرة إلى العراق؟!. ثم ما هي جنسية إسماعيل ـ عليه السلام ـ الذي رماه أبوه في صحراء الجزيرة، وأنجب من ثم العرب العاربة؟.  هل ظل يحمل جنسية أبيه ومن ثم إخوانه البعيدين في فلسطين؟. وهل تحول لسانه من الكلدانية إلى العربية هكذا فجأة وبمعجزة؟. وإذا كان إسحق عربياً، لكون أبيه عربياً كلدانياً، فهل أورث جنسيته هذه لابنه البعيد موسى ـ عليه السلام ـ فنكون نحن واليهود عرباً أقحاحاً، وتنحل المشكلة؟!. لكل هذا، ولأكثر من هذا، أقول بأن العربية باللسان، ليس إلا. واللغة العربية ليست إلا هذه التي نتحدثها الآن، ويحفظها القرآن.

تأسيساً على ما مضى، يصبح بالإمكان القول: بأن اللغة، التي سينزل بها القرآن، كانت سائدة في بعض المناطق القريبة من شبه الجزيرة العربية، قبيل الإسلام. لكن هذه المناطق لم تتعدَّ ضواحي الجزيرة في الشام والعراق. فهل كان يمكن لنا أن نؤسس دولة قوية وواعدة، بين الإمبراطوريات الكبرى، والحضارات الأكبر، دون مصر (الرومانية القبطية ذات الأصول الفرعونية) ودون الإسلام؟!. ولا تستهن أخي بهذا الامتداد، فإنني أزعم أن النسخة المصرية من الإسلام، هي التي سادت بعد ذلك، بحيث لم يعد الشكل الخارجي للإسلام ـ أي شكل الحياة ـ هو ذاته الذي كان داخل الجزيرة العربية. إذ لو قُدر له أن يبقى على شكله الأصلاني، لاندثر ومات وتبدد، ولما استطاع إقناع هذا العدد الكبير المختلف من الأمم. وهذا بحد ذاته يدلل على سخافة مقولة الرجوع إلى الأصول الشكلانية، عند السلفيين، بأزيائهم الرثة، ولحاهم العشوائية، وآرائهم المتشددة، وطرائق حيواتهم الغريبة.

أم كان بإمكان تلك المزق البشرية، المأجورة للفرس والروم، في شمال الجزيرة(1)، أن تتوحد ذات صباح هكذا فجأة ـ بدافع من أصولها ومعلقاتها ذائعة الصيت، ثم تفتح مصر وتعرِّبها، وتجعلها تنسى تأثير الفراعنة والبطالمة والهيلينية السكندرية، ثم تنمحي اللغة القبطية، التي كانت لغة الشعب والكنيسة، من تلقاء ذاتها، لصالح لغة قوم فاتحين، أقل رقياً من السكان الأصليين؟! ـ إذن لفعلتْ، ولما انتظرت ظهور الفتى القرشي ـ صلى الله عليه وسلم ــ ليقوم عنها، وبها، بفعل كل ذلك.  تعال معي إلى هذا النص، لترى إلى أي حد من الهوان، وصلت أقوى قبائل تلك الأمة، ذلك الحين. رغم أن إثبات ما قلت لا يحتاج إلى الاستشهاد بالنصوص. ولاحظ أنني أختار نصاً، يتناول قوماً انتصروا، قبل سنوات قليلة، على الفرس: أقصد بني شيبان، الذين هم عصب الرقبة من بكر بن وائل، المنتصرين في ذي قار. والرواية ينقلها ابن كثير عن ابن عباس، ويعرض فيها لمقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ وفدَ قبيلة بني شيبان، في موسم الحج، قبيل الهجرة. قال ابن عباس:

"وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو... فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟. فقال له: إنّا لنزيد على ألف، ولن تُغلب ألفٌ من قلّة. فقال له: فكيف المَنَعة فيكم؟. فقال: علينا الجَهد، ولكل قوم جد. فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟. فقال مفروق: إنّا أشد ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصرُ من عند الله: يديلنا مرة، ويديل علينا. لعلك أخو قريش!. فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله، فها هو هذا. فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك. ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ، وقام أبو بكر يظله بثوبه. فقال صلى الله عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وأن تؤوني وتنصروني، حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به... قال له: وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش؟. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل: تعالوا أتلُ ما حرّم ربُّكم عليكم: ألاّ تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً) إلى قوله: (ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون). فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش؟. فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. يعظكم لعلكم تَذَكَّرون). فقال له مفروق: دعوتَ والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفِك قومٌ كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئُ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك. وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك ـ لمجلسٍ جلسته إلينا... زلةٌ في الرأي، وطيشةٌ في العقل... وإن من ورائنا قوماً نكره أن نعقد عليهم عقداً. ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.

فقال المثنى: قد سمعت مقالتك، واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به. والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة... وإنا إنما نزلنا على صريين: أحدهما اليمامة والآخر السماوة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما هذان الصريان؟. فقال له: أما أحدهما فطفوف أهل البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض كسرى وأنهار كسرى. وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى: أن لا نُحدث حدثاً ولا نؤوي محدِثاً. ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك. فأما ما كان مما يلي بلاد العرب، فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول. وأما ما كان مما يلي بلاد فارس، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول. فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب، فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه"(2).

أرأيت كم خدم الإسلامُ العروبةَ ورفع من خسيستها!. ثم أرأيت هذا المثنى ـ في هذا النص ـ الذي لا يجرؤ على أن يجير أحداً على كسرى، كيف سيكون حاله بعد سنوات قليلة، عندما سيقذف به الخليفة الأول نفس البلاد، فيجتاحها كالسكين في قطعة الزبد!. ثم أرأيت هذه المعلقات ـ التي تشجينا وتطربنا وتفعل بنا الأفاعيل ـ هل كانت ستظل باقية إلى الآن، لولا القرآن الذي حفظ عليها لغتها هذه!. أم كان بإمكان هذه اللغة الجميلة أن تصمد، أمام تحدي لغات أعرق وأكثر تجوالاً في صفحات كتب الحكمة، في الهند والصين وفارس وروما والقسطنطينية!. أم كان بإمكان كل من ابن جني والجرجاني والبلاذري وابن رشد وابن سينا وابن الهيثم وابن النفيس وابن خالويه والغزالي... وغيرهم، أن يظهروا دون هذا الإسلام، لنفاخر بهم بعد ذلك في سنوات القحط!.. "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم. أفلا تعقلون!".  

عزيزي أحمد حسين، إنني أود القول بأن العداء (غير المقدس)، الذي يمحضه إسلاميون للقومية العربية، هو عداء ناتج عن وعي مزيف، بكل من جوهر الإسلام وحركة التاريخ. وقد نص أكثر علماء الإسلام، على أن العرب هم مادة الإسلام وأصله. لكن الأصل والمادة ليسا كفيلين، وحدهما، بصنع واقع حضاري ديناميكي متطور، لأن واقع الحضارة لا ينشأ إلا من خلال تفاعل جدلي بين الطبيعة والثقافة. وإذا كان العرب هم (الطبيعة/ الأصل) فإن الإسلام هو (الثقافة/ فعل الإنسان) وما فعل الإنسان ـ وفق معادلتي السابقة ـ إلا ذلك النتاج الذي صاغه كل من الوعي والتاريخ. هكذا نشأت حضارة العرب. وهكذا كان يجب أن تنشأ. لكن كل ما سبق لم يكن له أن يبرر القهر، الذي مارسه العرب على الأمم الأخرى، باسم الإسلام ـ زيفاً ـ وبدافع من الأصلانية الطهرانية ـ حقيقةً ـ وهذا الدافع هو الذي جعل تلك الأمم، الآن وسابقاً، تعيد مراجعة تواريخ صراعاتها مع هؤلاء الفاتحين السابقين، وتتحين الفرص للانقضاض عليهم. وإنني لست بمستطيع تصور وجود إيراني واحد، يرغب في عودة القوة العربية إلى سابق عهدها، لأنه ليس مشتاقاً إلى أن يعود مولىً: يدخل في ولاء قبيلة عربية، لكي تعترف له الدولة ببعض حقوقه كمواطن. وقل مثل ذلك في الأسباني، الذي كان يأكل الفتات من وراء السيد العربي، الذي سبى زوجته ذات معركة. لقد كان بإمكان الدين الواحد، والتواصل الجغرافي، أن يؤسسا لوحدة ثقافية سياسية أطول عمراً، لولا ذلك التعالي العربي غير المبرر دينياً.

لقد نشأت هذه الأمة مرة واحدة، بفعل هذا الدين، قوية شابة وثّابة متطلعة. كما نشأت هذه اللغة، بعد بعض مراحل التطور المجهولة لدينا، كأجمل ما خلق الله: كاملة مبرأة من كل عيب، بدليل هذا الصمود الأسطوري، أمام قوى لم يكن ينقصها الحقد عليها، أو الحرص على إزالتها، بحيث لا يمكن نسبة أسباب هذا الصمود، إلا إلى الإعجاز الغيبي، الذي حماها وما زال يحميها من الزوال، لأنها لغة القرآن، الذي أراد ربك له الخلود، فخلدت بخلوده لغته.. ستقول بأن هذه غيبيات. فمن قال بأن الإنسان مستغنٍ عن الغيبيات؟. لا أعتقد أن أمة تخلو من إيمان ما، بغيبيات تجمع شتاتها ـ من هذا الصنف أو ذاك ـ وقد تكون هذه الغيبيات تصورات نابعة من الميثيولوجيا والأساطير؛ كما هو الحال مع اليهود. وقد تكون نابعة من اعتقاد واهم بتفوق العنصر؛ كما هو الحال مع النازية. أو تكون نابعة من مقولات عامة استعذبها مروجوها، فطال ترديدها، وآمن الناس بها، ورأت الجماعة الإبقاء عليها، صيانة لوحدة الأمة؛ كما هو حاصل مع الأمريكيين في تردادهم الممل لمقولة (أرض الأحلام والفرص).. ولئن اعتُبرت هذه الغيبيات ناظماً لعقد الأمة، وحافظت عليها الدول، بهذا الاعتبار؛ لأقولنّ: لماذا يكون مطلوباً منا نحن العرب التنكر لغيبياتنا، التي أثبتت قدرتها على حفظ وحدتنا، في أحلك الظروف، وضمنت اعتزازنا بتاريخ مشترك؟. وإذا استبعدنا الناظم الديني، فما هو الذي سيتبقى لنا، بعد كل هذه الاختراقات الإثنية الانفصالية في الوطن العربي؟!. ألم يكفنا أننا خسرنا الأكراد، حتى صرنا نسعى لخسارة البربر والزنوج والقبط؟!. إنني لست من المتحمسين للدولة الدينية، لكنني في نفس الوقت لا أجدني متعاطفاً مع أي طرح، يضع استبعاد الدين مقدمة لازمة، لأي تجاوز لهذا الواقع.. خصوصاً وأن واقع حال المنطقة يقول، بأن أعنف المواجهات مع المحتل الأمريكي، في العراق، والمستوطن الصهيوني في فلسطين، قائم على فكرة الوعي الديني.

قد أختلف أو أتفق مع تفصيلات هذا الوعي، لدى المقاومين الإسلاميين والعرب في العراق وفلسطين؛ لكنني لن أختلف معهم في الأصل الجامع. ولقد أعلم أن رؤية أمريكا كعدو ديني، لن تضر الحلم القومي في شيء، بل إنها ستدفعه إلى الأمام: بقوة الروح، وبقوة الثأر، وبقوة الغضب، وبقوة الوعود المحمدية للشهداء، خصوصاً وأن الإدارة الأمريكية الصهيونية هي التي أعلنتها حرباً دينية، تستلهم التاريخ والأساطير والغيبيات الوثنية.

أما الاعتراض، على هذا الوعي الإيماني، بوجود حالات؛ كالسيستانية، والحكيمية، والحزب الإسلامي، فاعتراض يردّه بأن كل هؤلاء، وكل من لا يتخندق في مواقع المقاومة الأمامية، في العراق، هو منطلقٌ من وعي زائف، يقدم المصلحة الحزبية على المصلحتين القومية والدينية. وليس الوعي الديني هو المسؤول، عن وجود نتوءات خيانية هنا أو هناك، في الجسم الكلي؛ لأن هذه هي طبيعة الأشياء. وليست علاقة مثل هذه الحالات بالوعي الإيماني، إلا كعلاقة إميل حبيبي مع خيار البقاء، الذي ابتدعتموه، بجدارة، في الجزء الذي احتُل من فلسطين عام1948. حيث مثّل بقاؤكم حينها معجزةً حقيقية، وأقام الدليل على تقدم حالة الوعي العروبي لديكم.. فماذا فعل إميل حبيبي؟. لقد حول هذا الوعي التاريخي الثوري عن مجراه، وأفرغه من محتواه، عندما ادعى بأن ذلك البقاء لم يكن له أن يحدث، لولا تحوله إلى انصهار في الدولة العبرية، ظل مخلصاً له حتى آخر لحظة من عمره!. فكان بذلك متخلياً عن وعي المجموع ـ الذي أنت وأمثالك منه ـ ومنحازاً إلى وعي زائف، يرى مصالحه في الانقلاب على مصالح أمته. وهكذا يفعل الآن الحكيم والسيستاني والحزب الإسلامي، في عراق المثنى بن حارثة الشيباني. أرأيت كيف تأكل الثعالب، في الزمن الرديء، ما اصطادته الأسود؟.

إن قراءة متفحصة لمواقف الأطراف في العراق المحتل، تبين أن واقع الكهنوت والشرذمة، إنما هو صناعة حكيمية سيستانية شيوعية بامتياز، سُجلت علامتها التجارية، مبكراً، في واشنطن وطهران، كشركة محدودة يملكها أصحابها، ومؤهلة لضم مساهمين جدد، وفق شروط المؤسسين. وقد كان. وانضم الحزب الإسلامي، كوكيل للعلامة التجارية لدى أهل السنة، رغبةً منهم في إشراك أطراف سنية في المشروع، ورغبة منه في القفز إلى العربة الأخيرة في القطار، وطمعاً في أن ترفع واشنطن الفيتو، عن فرع جماعة الإخوان المسلمين في بغداد... لكن كيف أمكن لك ـ أخي العزيز ـ الزج باسم هيئة علماء السنة، في مجمع الأوغاد هذا، وهم يمثلون الوعي التاريخي بحقيقة المعركة، ويشكلون الرافعة الاجتماعية لقوى المقاومة الوطنية والإسلامية في العراق؟!.

إن من استقدموا المحتل إلى العراق، كانوا هم كل هؤلاء. لا بسبب من ولاءات دينية، بل بسبب من ولاءات مذهبية ضيقة، مرتبطة بمصالح الخصم التاريخي الخارجي في طهران، التي ظل حكامها مخلصين، لتراثهم في الحقد على عراق المثنى، الذي اجتاح إيران ذات يوم من أدناها إلى أقصاها: ذلك التراث الذي لم يستطع الشعار الإسلامي إزالته، من لاوعي الخطاب الإيراني، حتى في مرحلته الإسلامية. فلا السنة، ولا الشيعة العراقيون، يمكن اعتبارهم بمجموعهم مسؤولين عن هذه الفرقة القومية، أو ذلك الاصطفاف الخياني، مع المحتل، ضد شرف الوطن.

ثم منذ متى حدث هذا (الإجماع) السني الشيعي، على استحلال دعوة أمريكا لغزو العراق؟!. أينعقد الإجماع برجال كالسيستاني والحكيم والجلبي، أم بشيوعيي المؤتمر الوطني ـ الذين أنساني الله أسماء زبانيتهم الكبار (مع الاعتذار لكل الشيوعيين الوطنيين المنخرطين في المقاومة) ـ أم بهؤلاء الخونة المتفاخرين من زعماء الأكراد؟!... إذا كان هذا هو الإجماع، فأين منه التيار الصدري، وأين منه جماهير أهل السنة وزعماؤهم، وأئمة المساجد الذين تغتالهم قوات بدر العميلة يومياً، وأين منه القوميون العراقيون بأطيافهم المذهبية المتعددة؟!... وإذا كان هذا هو الإجماع، فمن يقود المقاومة الآن، ومن هو الذي يزهق يومياً أرواح جنود الغزاة وضباطهم؟!... لقد انضم العراق العظيم إلى تيار المواجهة الديناميكي المتصاعد، في الوطن العربي، بفعل هذا الروح من أمر الإسلام.. ما من إجماع ـ أخي أحمد ـ سوى إجماع العملاء، والأوغاد، والمرتزقة من المثقفين، وأصحاب اللحى المضمخة ببخور طهران.. وما كان منه من أطراف، سنية أو شيعية، فإن هو إلا منطلقٌ من وعي زائف ـ بمصالح الطبقة بلغة ماركسية، أو الشعب بلغة قومية، أو الأمة بلغة إسلامية، أو الناس بلغة لا شِيَةَ فيها ـ متصالح مع (الكاوبوي) الذي لم يأت إلى هنا لتخليص الفتاة المختطفة، بل لاغتصابها بمباركة من زوجها، ثم لا يتوقع منه أقل من الشكر ودفع المعلوم.. وليرفع الزوج المضمخ بالعطر بعدُ ما أحب من شعارات دينية ومذهبية؛ فالكاوبوي لم يأت إلى العراق ليحتل (دار الإسلام) أو لينصّر سكانها الوثنيين، لأنه مشغول بالنفط وحماية إسرائيل. وليبق أهل العراق مسلمين أتقياء كما تحلو لهم التقوى: فالمعركة دنيوية في حقيقتها، حتى وهي ترفع شعارات صليبية قادمة من نتن التاريخ. لكن الدين ـ من جهة العرب على الأقل ـ هو القادر وحده على دفع التكاليف، وتأجيج المعركة، وإلقامها الوقود اللازم كلما احتاجته. ولا أزال على دهشتي من هذا التنازل المجاني عن أهم أسلحة المواجهة وأكثرها فتكاً، لمجرد إثبات وجهة نظر ليس إلا.. وإنني مستعد للتخلي الطوعي عن وجهة نظري، مقابل نصر واحد يتحقق على جبهة عربية.   

أخي أحمد حسين، إن الثقافة الإسلامية لم تكن يوماً على عداء مع القومية العربية، بل إن الذين فعلوا ذلك هم مؤسسو الكهنوت الإسلامي، في طبعته الحديثة، على يد الإخوان المسلمين. كما أن القومية العربية لم تكن متناقضة مع الثقافة الإسلامية، ساعة من نهار.. وكيف تتناقض الذات مع ذاتها!. كيف، والقومية العربية بنت الثقافة الإسلامية بامتياز!. لقد أدرك هذه الحقيقةَ كلُّ مثقفي بلادنا المسيحيين، ولعل المرحوم ميشيل عفلق ـ الذي كان أقاربه ينادونه باسم أحمد مبكراً ـ خيرَ مثال على ما أقول.. إنني أتحدث الآن عن القومية العربية الحالية، أي عما هو منبثق من واقع عربي حالي، وفق شرطه التاريخي، لأنني لا أؤمن بقومية عربية خارج الإسلام، كما لا أؤمن بإسلام لا يحقق الذات القومية والهوية العربية واللغة العربية التي نزل بها القرآن. فدعني من نسبة كل ما تكلمه سكان هذه المنطقة ـ في الزمن الغابر ـ إلى اللغة العربية، لأنني لا أعرف أي لغة عربية هي المقصودة، هل هي العربية التي تتماهى مع اللغات: العبرية والآرامية والكلدانية والأشورية... ؟. إنها للغةٌ أخرى إذن؛ لا أعرفها، ولا أود التطرق إليها بالبحث هنا، لأنها مجال الباحثين في صخور الماضي، لا حياة الحاضر ومستقبله. إنني مشغول بالحاضر، وكل ما صاغ هذا الحاضر وأدى إليه، مع العلم بأن كل تلك اللغات، لم تكن لتحيا إلى اليوم، حتى ولو لم يأت الإسلام.

ثم تعال هنا.. ما هي هذه العلمانية التي يتحدثون عنها، ويصدّعون بها رؤوسنا، سائرَ القرن، ويريدون من الإسلام التسليم بها قبل أي حوار؟!. هل هي العلمانية التي تستغل الانزياح اللفظي نحو دال آخر ـ هو العلم ـ لتنشئ مدلولاً غير مقصود في أصل اللفظة، فتدعي أن ما سواها هو المضاد للعلم والتعلم، مع أنها في الأصل تحيل إلى السلطة الدنيوية الزمنية على (العالم) المعيش، في مقابل السلطة الأخروية الدينية، التي سيطر عليها الكهنوت المسيحي، وأرادت العلمانية للسياسة أن تستقل عنها، في إدارة هذا العالم المعيش؟!. أم هي العلمانية التي حرصت، في طبعتها العربية، على التنديد بالدين، كما لم تستطع أن تفعل حتى الثورة الفرنسية التي أنجبتها؟!. وهل مخاصمة الناس لمجرد أنهم يصلون أو يزكون أو يلبسون أزياءً من نوع خاص هي العلمانية؟!. تعال لأريك شريحة بهيجة من العلمانيين، الذين هم على استعداد لمجاهرتك بالعداوة، لمجرد رؤيتهم لك تصلي.. هل تظنني أبالغ؟. لا والله.. فعلى سبيل المثال، قام مثقف علماني كبير أعرفه، بالشكوى ـ لوزير علماني مثله، في اجتماع موسع ـ من شخص يقرأ القرآن على انفراد، وبصوت منخفض، في لحظات الفراغ. مع أن الموظف الرفيع ووزيره، لم يكن لديهما أي مانع علماني من مشاركة اليهودي ـ الذي يلتقونه يومياً ـ في صلاته، لمجرد الإثبات له بأنهم علمانيون ليبراليون متسامحون.. فهل العلمانية هنا هي قرين القهر!. أم كان القهر بضاعةً لا يُحسن العلمانيون العرب تسويقها، إلا على متديني وطنهم!. ولئن كانت هذه هي العلمانية، لأحاربنها بكل سلاح، ولأتحالفن عليها مع كل محارب، بنفس القوة التي أحارب بها الآن فرض اجتهادات دينية معينة، على مجموع المواطنين.

إنني أعتقد بأن من حق كل شخص أن يتدين، ومن واجب كل حكومة أن تحفظ له حقه ذاك، بنفس القدر الذي تحفظ فيه لغير المتدين حقه في رفض التدين، وإلا فسوف يتحول واقعنا ـ المراد علمانياً ـ إلى قهر مقلوب، يُقهر فيه الرأي الديني، بسببٍ من ممارسات دينية قديمة: في انعكاسية ثأرية تجترّ جراحاتٍ نريد لها أن تندمل.

إن الجمع بين التاريخي والغيبي أمر ممكن، بالتأكيد. فليس كل ما هو حادث، على وجه هذه الأرض، ناتجاً عن علاقات إنتاج مادية صماء. بل إن كثيراً منه ناتج عن علاقات إنتاج ذات أساس غيبي. وإلا، فأي مكسب على المستوى المادي يناله الفتى، الذي يفجر نفسه في الأعداء، إذا لم يكن مؤمناً بأن له جزاءً آخرَ سريعاً قريباً وفي الحال!. إن احترام أشواق الإنسان الروحية، ليس من الكهنوت في شيء. بل هو حق طبيعي للفرد يلامس جوهر روحه، ويحقق شطراً من أمانيه المكبوتة. فالكهنوت هو سيطرة طبقة من الناس على حركة التحول الاجتماعي، من خلال الاستناد إلى نصوص، تعمل في صالح المضاد والآخر، أو على الأقل في صالح قرّاء النصوص المتحالفين مع السلطة. وهذا ما أرفضه، مقرراً أن الدين الإسلامي لا مكان فيه لمثل هذا الكهنوت.

عندما وقف أبو القومية العربية الحديثة: المرحوم جمال عبد الناصر عام1956، داعياً المواطنين والثوار لمواجهة الغزو الثلاثي، في لحظة كانت جيوش الغزاة تقف فيها على جانبي قناة السويس، في قلب مصر العروبة والإسلام. أين وقف. وماذا قال؟. ألم يختر الوقوف على منبر الأزهر؟. ألم يختر مخاطبة المصلين والعالم بصيحة التكبير؟. فماذا كان بعد؟. ألم يثبت التاريخ، وهذه الحادثة بالذات، أن الاستناد إلى الوعي الديني، هو القادر على قهر العدوان؟. أم كان عبد الناصر عابثاً أو خاضعاً لكهنوت علماء الأزهر؟.

وعندما قاد ياسر عرفات شعبه، في دروب معركة التحرير الطويلة، تحت شعار (نصر من الله وفتح قريب)، وعندما ظل مواظباً على ترديد لازماته الدينية، حول أرض الرباط وشعب الجبارين، هل كان منطلقاً من وعي لاتاريخي زائف ـ إذن لما اغتاله المحيطون من عبيد المال والصهيونية ـ أم كان متحالفاً مع حركة التاريخ، ومستنهضاً لقوى شعبه العنيد؟.

الأمثلة، أخي أحمد، على إمكانية التصالح بين الوعيين: القومي والإيماني، كثيرة ومتعددة، وليس آخرها تجربة حزب البعث، وإيمان ميشيل عفلق، وانبثاق الثورة العراقية المعاصرة، بشعارات إسلامية لافتة.. دع عنك الحديث عن الجهاد في فلسطين، وإجباره قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي تعرفه، على الانسحاب، تحت ضربات فتية اختاروا بين أمرين: أن يموتوا حالاً ويحيوا ـ على المستوى الفردي ـ سعداء بعد لحظات، ثم تحيا بموتهم أمتهم، ولو بعد حين. أو أن يبقوا خائفين من الموت الفردي، قابلين بموت جماعي قادم لأمتهم على التوالي. لقد حقق الوعي الإيماني ما وعد به. وانسحب ـ رغم أنفه ـ أقوى جيش في المنطقة، ولو تكتيكياً. وأنت تعلم أن الصهيونية لا تفصل، في مسائل الأمن، بين التكتيك والاستراتيجيات العامة.

صديقي الجميل، نحن نبحث عن أسباب التراجع فنختلف، لكننا عندما نبحث عن أسباب النهوض فلن نختلف؛ اللهم إلا إذا كنا أبناء الماضي بالفعل. وإذا كانت (التجربة الهجرية) هي السبب في نكبة العرب، فلقد يمكن أن أوافقك على جزئية هذه المقدمة ـ لا كليتها ـ بشرط أن نعي بأن حركة الانقلاب الكبرى، على الشرط التاريخي المتحقق، في المدينة المنورة، بعد وفاة الخليفة الثاني t، قد تمت على أيدي عرب أصلانيين ـ عثمان ومعاوية وقومهما من بني أمية ـ إذ إنهم هم الذين أوهموا الأمة ـ عن طريق وكلائهم من الفقهاء المتأكلين أو المرتعدين (العباسيون كانوا طبعة أخرى لنفس الكتاب) ـ بأن هذا الدين، وفق هذه الصيغة المنحولة، هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من السماء. والحق أن الدين الذي نزل من السماء كان شيئاً آخر، لم يتحقق في الواقع التاريخي، إلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهدي الشيخين العظيمين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فمن أين كان له أن يحقق النموذج الإنساني المتميز، مع طول عهد الانحراف، وقصر عهد الأصالة!.

وأخيراً، أخي أحمد، إن وعياً تاريخياً قومياً ناهضاً، لا يمكن له أن يتجاهل الدين. كما أن إصلاحاً دينياً، ذا فائدة تُرجى، لا يمكن له أن يتحقق، مع تجاهل خصوصية القومية العربية، على الأقل، في هذه البقعة من العالم، التي احتضنت كل الرسالات السماوية.

وتحاوراً مع نقاطك المحددة، في نهاية مقالتك، أجدني مسوقاً لاتباع هذه السنة الحسنة، فأقول:

1ـ لا عروبة بلا إسلام ـ سابقاً ولاحقاً ـ ولا إسلام بلا عروبة؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وذلك بسبب التداخل العضوي بين كل من الطبيعة والثقافة.

2ـ الإسلام هو الذي حمل لغة القرآن ونشرها، في كل البلاد التي سوف تُسمى بعد ذلك عربية، بسببه.

3ـ إن لغة القرآن هي اللغة العربية التي أعرفها، لأنها هي الباقية والمسماة بهذا الاسم. وما سوى ذلك، من اللغات، فلا شأن له بالعروبة، ولا شأن للعروبة به؛ حتى لو كان لغة سكان هذه المنطقة، في هذه الحقبة أو تلك. فنحن نعالج ما استقر من الحضارات، وما هو مؤثر في حركة الصراع الآن. وندع ما سوى ذلك لعلماء الآثار والأنثربولوجيا.

4ـ لو لم تتحقق العروبة بالإسلام، لما كان هذا الامتداد الإقليمي الواسع، ولما اهتممنا أنا وأنت لأمر العراق أو مصر أو حتى فلسطين، لأننا سنكون عندئذ مجرد نطفٍ لبدوي في الصحراء.

5ـ إن الدين الإسلامي ـ لا أقول الأيديولوجيا الإسلاموية ـ هو دين ينطلق من العروبة وإليها يعود ـ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها" ـ وأي تناحر بينهما، هو تناحر ناتج عن وعي زائف بحقيقة أي منهما، أو كليهما.

6ـ تقول حصيلة الراهن: إن كل التجارب، التي استبعدت التأثير الديني في الصراع، هي التي فشلت. وإن القضية العربية لم تعد إلى مسارها السليم، إلا على يد هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى. مع أنني ما زلت متحفظاً على بعض تصرفاتهم اليومية، هنا أو هناك.

وأخيراً يا أبا شادي:

لا أعتقد أن خلافنا في الرأي بقادر على أن يفسد وداً، أينع بيننا، وأرجو له أن يزهر أكثر. فلديك الكثير مما أتعلمه. وظني أن لدي القليل مما يمكن لك أن تسمعه، وتمعن فيه التفكير.. حباً في الله .. وحباً في الوطن.. وتحالفاً على قوى الخيانة المثقفة بلمعان المال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ في معركة ذي قار، وقفت بعض القبائل العربية في صف الفرس: كإياد وتغلب ودويلة الحيرة. أما عرب الغساسنة في الشمال الغربي، فمعلوم أنهم كانوا مجرد صنائع للروم. انظر: الأصفهاني. الأغاني. ط1. ج24. تحقيق عبد الأمير علي مهنا وسمير جابر. بيروت. دار الفكر. 1986. ص54 ــ 62

2ـ ابن كثير. البداية والنهاية. ج3. بيروت. دار الفكر. 1978. ص143 ــ 144