• تاريخ
  • 2678 قراءة
  • 06:11 - 23 سبتمبر, 2015

في بدايات تشكل الوعي العربي


السرد والتاريخ والثقافة

 

إن كلاً من التاريخ والسرد والثقافة متلاحم في بعضه البعض، بحيث لا يمكن في الغالب الفصل بين واحدة وأخرى من هذه المفاهيم المتداخلة الملتبسة. فوراء المعنى المباشر لكلمة السرد يكمن مفهوم التلاحم بين التاريخ الحقيقي، والسرد المتخيل. ومن هذا الاشتباك تتكون الثقافة: مجموعة استيهامات فانتازية للمجتمع المتخيِل. هكذا تحاك صور الذات عن ماضيها، صورة يصوغها الحاضر بتعقيداته، بقدر ما يصوغها الماضي بخفاياه. من هنا فإن فهمنا الحاضر للماضي غير مستقل عن مجموع هذه الاستيهامات القومية. إننا لا نستطيع على سبيل المثال أن نناقش الأحداث التاريخية ـ خصوصاً لحظات الانتصار والهزيمة ـ خارج هذه السردية التي تشكل وعياً مسبقاً، ومقدمة حاكمة على كل الاستنتاجات المتخيلة. هل نستطيع مثلاً أن نقرر أن أبا بكر كان مخطئاً لأنه عدل عن رأي الجماعة إلى رأيه الفردي الخاص حين حارب المرتدين؟. إننا لا نستطيع ذلك لسببن: أولهما راجع إلى حقيقة أن النهاية صادف أن كانت سعيدة، وثانيهما يرجع إلى حقيقة أن منهج أبا بكر هو الذي انتصر في التصور الإسلامي الموروث. والسؤال هو: ماذا لو لم تكن نتيجة حروب الردة سعيدة؟. إننا نفهم الآن من هذه السردية المضمرة، شديدة التأثير على الوعي، أن تفرد الحاكم بالرأي قد تكون له آثار جيدة، تناقض ما يقال اليوم عن سلبية التفرد. فإذا كان ذلك كذلك، فكيف يمكن أن ننشئ وعياً دينياً يرفض الدكتاتورية، ونحن في داخلنا مؤمنون بفوائدها أحياناً؟.


إذن فلدينا سردية تاريخية نحن مقتنعون بها. وعندما أقول مقتنعون فإنني لا أقصد هنا الوعي الظاهر، فيا ليت الأمر كان على هذه الشاكلة، بل أقصد اللاشعور، ذلك المحرك الأساس الذي يقف من وراء الأفعال، وهو متخف صامت، يقود الوعي في الغالب، وفق مقولات عن تميز العرق والجنس والعقيدة، وأحقيته في السيطرة والغزو وانتهاك الحدود. دعونا نتذكر في هذا الشأن كيف حول الإسلام التاريخي أمة الفرس، صاحبة الحضارة الممتدة في عمق الزمن، إلى (موالي)، مهمتهم الخضوع للسيد العربي القادم من الصحراء، رغم أنه يدينون بنفس الدين!. فهل يستطيع أحد الآن الزعم بأن الإسلام لم يكن هو الذي فعل ذلك؟. طبعاً أنا أتحدث عن الإسلام الذي تحقق، والذي يمثل وعياً جمعياً أولياً تتم دعوتنا إليه صباح مساء، باسم الدولة الإسلامية؛ وكأن الدولة الإسلامية اليوم سيقيض لها من هم أفضل من السابقين!. فأين إذن هي صرخات الاحتجاج المعلنة من قبل العلماء!. الحق أن هذا الإسلام التاريخي هو الذي تقررت صورته في الوعي الجمعي للأمة. والحق أن هذا هو ما يغرس في العربي وعي الأفضلية على الباقين، رغم حقيقة أنه لم يأت إلا من سلالة آكلي الجعارين والعقارب وممارسي مهنة الغزو والسلب.


إن كل ما ذكرته هنا له علاقة بالثقافة. فالثقافة حقاً هي "مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع، أو مجموعة اجتماعية. وتشمل ـ إلى جانب الفنون والآداب ـ طرائق الحياة، وأساليب العيش معاً، ونُظُم القيم، والتقاليد، والمعتقدات"(1). ستجد راسخا في لاشعور المثقف الإسلامي توقاً غير محدود للقوة. من هنا يمكن فهم لماذا يُذكر الحجاج كثيراً على ألسنة الوعاظ على المنابر!. إنهم لا يرون فيه إلا ما يمثله من وحدة وقوة وانتصار العهد الأموي على الأعداء. ها هنا توق للقوة لا يدانيه إلا كراهية مقيتة لكل بوادر التمرد على الدولة. فإذا كان اللاشعور يحمل كل هذه البذور، من الرغبة السالبة، فكيف يمكن أن تقوم ثورة أو يتبلور وعي جديد يدعو إلى تغيير الحاضر؟. إن الرضا بكل هذه السلبيات، التي يحملها هذا الحاضر، موجودة بذرته في أعماق اللاشعور الجمعي للأمة. ولكي أدلل على ذلك أكثر أقول: كم مرة ذكر وعاظ السنة الحسين، عليه السلام، وهو أحد رموز الثورة الباحثة عن العدل؟. ولو جاء راصد ورصد مجاميع وعظنا على المنابر، وقارن بين ذكرنا للحسين وذكرنا للحجاج، فما هي النتيجة التي سيخلص إليها؟. من هنا فلا غرابة أن ينتصر وعي الحجاج على وعي الحسين، عليه السلام، في عقول أمة تبحث عن التغيير فلا تكاد تمسك ببدايات خيوطه. وبالمقابل يمكن لنا أن نتفحص اللاشعور الجمعي للطائفة الثانية في الإسلام ـ الشيعة ـ لنرى كم هي منغلقة ومستبدة وشديدة التخلف، إذ ترى في البشر قدرات إلهية تتخطى الفعل الزمني حين تقرر أن شخصاً عابرا للزمن سوف يأتي ليحقق العدل. إذن فلا داعي للثورة ولا مناط للتغيير، فالمهدي قادم وما على الأمة سوى الانتظارّ. دع عنك النظرية السياسية الخائبة في العصمة والتوريث الأبدي لسلالة على كل الناس.


إن ثقافة الأمة بشكلها الحالي ـ وأخاطر بالقول وفي كل شكل ـ هي ناتج إرادة القوة. وعلينا أن نتصور ماذا كان سيكون عليه الحال لو أن عليا هو الذي انتصر وتمكن من خصمه معاوية، أو لو أن علياً لم ينشغل بتغسيل النبي يوم السقيفة وذهب هناك ليصارع على حقه في الخلافة، هل كان أبو بكر قادراً حينها على قول عبارته التي قالها مدللاً على أحقية المهاجرين بالحكم؟. أظن أن الجواب معروف. وربما كنا سنجرب نوعاً من الحكم الثيوقراطي الوراثي، في مرحلة مبكرة أكثر. وربما لرأينا كم سيكون بشعا هذا النوع من الحكم، مقارنة بما حققه أبو بكر وعمر.


"إن الكيفية التي بها نصوغ الماضي، أو نمثله، تصوغ فهمنا للحاضر، ووجهات نظرنا فيه"(2). ونحن العرب كلما فهمنا لحظة حاضرة، فلا بد لنا من الحفر فيما وراء هذا الفهم، وما هي محدداته، وكيف رأيناه، ولماذا رأيناه بهذه الصورة دون سواها؟. وعلى سبيل المثال يمكن القول بأن ما جرى في انقلاب غزة، هو ناتج عن طريقة معينة في قراءة التراث، أو ربما عن قراءة سائدة غير ناقدة لهذا التراث. فكلنا يعلم بأن الجماعات الأصولية تقدس التاريخ، ومن ثم يمكن لها أن تسعى إلى إعادة إنتاجه. ولئن لم يتمكن الحاكم الأصولي من أن يكون عمر بن الخطاب، فإن بإمكانه أن يتمثل هارون الرشيد، أو معاوية، أو يزيد، أو حتى الحجاج بن يوسف الثقفي: فلا شك أنهم كلهم ـ من وجهة نظر أصولية ـ حكام مسلمون!. وعندئذ يصبح بالإمكان ارتكاب كل الموبقات، بضمير مرتاح، واعتبار أن لهم فيمن سبقوا من (العظماء) أسوة حسنة!. إن قروناً كاملة، من القهر والظلم والطغيان والانقلاب على الوعي، تتعقبنا وتتدخل في رؤيتنا للحاضر. ولكي نتمكن من فهم الحاضر فهماً واعياً، فلا لنا بد من الكشف عن كل هذا الإرث وتحليله، لكي تنفك العقدة، ونعرف كيف نقرأ الحاضر. دعوني أقل لكم إن كل هؤلاء المتقاتلين (الإسلاميين) في هذا (الربيع العربي) لم يكن لهم أن يطلقوا الصواريخ على بعضهم البعض، لولا أنهم قد قرأوا التاريخ قراءة مغلوطة. وإنني لمتأكد أن كل أمير من امرائهم يسبق كل قذيفة، يطلقها على أخيه، بركعتين لله مطالبا بالنصر. هكذا كان يفعل علي، وهكذا كان يفعل معاوية. ولقد سكتنا عن كليهما، ووقفنا على الحياد، في معركة دارت على وعينا ومستقبلنا.


إذن فقد عدنا بالفعل إلى البدايات الأولى.. ولا جرم، فأنا من هؤلاء الذين يعتقدون أن بداية بداياتنا هي الإسلام، لا أي لحظة سواها: فالأمة العربية تكونت بالإسلام. واللغة العربية لم تتبلور، في صورتها النهائية، إلا قبيل الإسلام، وكمقدمة لنزول القرءان. والتاريخ العربي يبدأ من لحظة ظهور ذلك الشخص المميز: محمد صلى الله عليه وسلم؛ بما جاء به من السماء، ثم بما انبثق من داخله من الأخلاق، التي جاء الإسلام ليتمم مكارمها. إذن فلنبدأ بوصف ما كان عليه حال هذه المزق، من المخلوقات الآدمية التي كناها، قبل أن نتحول إلى أمة. ولا أجد أشد تكثيفاَ في وصف تلك الحال، مما قاله جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، أمام النجاشي وقد سأله عن هذا الدين، فقال: "أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً. وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام"(3).


ولقد كان ما كان. وحققنا ذاتنا كأمة، وأنجزنا وثبة حضارية من نوع مميز، بهذا الدين، وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ولقد كان مقدراً لنا أن نواصل مسيرة صعودنا الحضاري، لو استمسكنا بما به نشأنا. لكننا شئنا شيئاً آخر، فكان لنا ما شئنا، ثم نسبنا ذلك إلى الله. وما ذلك إلا لقرب عهدنا بالفوضى والتواكل والاستسلام للطغيان؛ وهي السمات الأساسية من عهد الجاهلية. لقد تسللت جرثومة الطغيان مبكراً، من لحظة ابتداء الانحراف الكبير. وإنني أرصد تلك اللحظة، من يوم أن قرر برلمان الأمة الخضوع لسلطة الخوف من المجهول، وفضل الاتباع والسكون وهيمنة الأدوات القديمة، على الاجتهاد ومواجهة المستقبل واختراع أدوات جديدة. والبرلمان كان هو طبقة أهل الحل والعقد في المدينة المنورة. والأدوات القديمة كانت هي طريقة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في اختيار الحاكم. وسلطة الخوف كانت تتمثل في ذلك الشعور القوي، الذي غلب على أعضاء البرلمان، بأن علياً رضي الله عنه يريد السلطة، ويتوق إلى جعل الخلافة وراثة في أبنائه من بعده.


إنني لا أنتقص من قدر أحد، عندما أصفه بالرغبة في الوصول إلى السلطة، ما دام ذلك بالوسائل المشروعة. وإنني لأرى أن علياً كان فعلاً يريد السلطة، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لا لطمع، ولكن ليقيم دولة على مثالٍ يراه في نفسه. وإن كون علي شخصاً مميزاً وحكيماً وشجاعاً ونزيهاً وزاهداً، لا يلغي حقيقة رغبته في الوصول إلى السلطة، لتحقيق ذلك المثال، الذي كان يخاف عليه، بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم. لكن خطورة هذا المثال كانت اعتقاد علي بأحقية آل محمد بالخلافة من بعده؛ مما يعني إقامة مملكة ثيوقراطية وراثية، الأمر الذي لم يكن له أن يعجب أغلب أعضاء البرلمان. وإذ كان ذلك كذلك، فقد وجد الشيخان نفسيهما مندفعين إلى المبادرة بالالتفاف، على هذا التصور الجنيني، بفعل سريع، تمثل في جمع الناس في سقيفة بني ساعدة، وحثهم على مبايعة أبي بكر، وإقرار نظام الخلافة على شكله الذي صار عليه. ولئن كان هذا النظام هو أفضل المتاح، في تلك اللحظة، فلقد يمكن القول بأن السرعة في إقراره، كان دافعها الخوف من اجتهادات علي، المشغول تلك اللحظة بتغسيل النبي صلى الله عليه وسلم، وتجهيزه لرحلته الأخيرة.


ولقد كان ما كان. ولقد حدث ذلك بأبدع طريقة. ولقد كان ذلك لا مفر منه. ولقد كان ذلك مرضياً للسابقين واللاحقين، بحيث نال ما يشبه الإجماع، منذ زمنه حتى الآن. ثم تُوفي أبو بكر بعد عامين. وكان الخوف من اجتهادات علي ما زال قائماً، مما جعل من المناسب أن يستخلف أبو بكر صاحبه عمر بن الخطاب، ليكمل المشوار، تمهيداً لإقرار شكلٍ آخر للنظام المستقبلي. ولقد كان. وزادت خلافة عمر على العشر سنوات. ثم مات بعد استقرار الدولة فعلاً، واستقرار شكل النظام، وفق النموذج الأقرب إلى الديموقراطيات الحديثة بعد ذلك: حيث كان قد تقرر، من قبل وفاة عمر أن الخلافة بالانتخاب، وأن الشورى ملزمة، وأن أهل الدين كلهم لهم الحق في الترشح والانتخاب، لا فضل لأهل البيت في هذا عن غيرهم، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لغني على فقير. مما يعني أن رغبة عمر في توسيع دائرة اختيار الحاكم، من مرشح واحد إلى ستة من أعضاء البرلمان الموثوقين، باتت أمراً تقرره طبيعة التطور المجتمعي؛ لا السماء، ولا دعوى الوراثة. ومما يعني، كذلك، أن على الخليفة، الذي يليه، تطوير هذا التصور، وتوسيع دائرة اختيار الخليفة، في شريحة أوسع، لأن هذا هو ما تقتضيه طبيعة تطور الأمور، في سياقها الذي جاء به الإسلام، وفي شكلها الذي بلوره الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خصوصاً وقد قال في آخر خطبة له قبيل وفاته: "بلغني أن فلاناً قال: لو قد مات عمر بن الخطاب، لقد بايعت فلاناً. فلا يغرّنّ امرءاً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت. وإنها قد كانت كذلك، إلا أن الله قد وقى شرها. وليس فيكم من تنقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين، فإنه لا بيعة له، هو ولا الذي بايعه؛ تغرةً أن يُقتلا"(4).  


وبعد موت عمر، كان حرياً ببرلمان المسلمين اختيار أفضل الستة، دون الوقوع تحت طائلة تهديد لم يعد موجوداً: فعليّ تلك اللحظة ليس عليّاً يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل اثني عشر عاماً. فلقد تقرر شكل النظام، واستقرت الدولة، وكان على المؤسسات أن تقوم بدورها، وفق روح الدستور، لا وفق ما تمليه تهديدات وهمية. لكن البرلمان اختار أضعف الستة، وألينهم، وأحبهم لأقاربه، عثمان بن عفان. ومن هنا بدأ التهديد الحقيقي لنصوص الدستور غير المكتوبة. مما أدى في النهاية إلى الثورة على عثمان وقتله، وإعطاء الفرصة للطامعين في السلطة بغير حق، لتحويل خلافة علي، إلى سلسلة كاملة من الحروب الداخلية، التي سوف تنتهي بانتصار الانقلابيين على الشرعية، وإقرارهم لنظام ما جاء الإسلام أصلاً إلا للقضاء عليه.


يسقط الطغاة حين يسأل الإنسان من أين جاء الطغاة؟. وإن من أهم مقدمات السؤال، أن نبحث عن مكامن الخطر الأول، الذي كان موجهاً إلى وعي الأمة، لدفعها إلى القبول بالطغيان. ولقد كان هذا الخطر، للأسف، قادماً من الجبهة الثقافية، جبهة علماء الدين، الذين أسسوا مذهب أهل السنة والجماعة، على الهيئة التي نراه عليها اليوم. فجاء مذهباً متصالحاً مع الحكام الجدد. ومن هنا كانت خيانة المثقفين، الذين أقروا، للمذهب الجديد، بضرورة القبول بمن تسيّد عليهم بحد السيف؛ معللين ذلك بخوف الفتنة. وقد تكفلت القواعد الأولى لحزب السلطة، المسمى بـ(أهل السنة والجماعة) بتخدير أي وعي ثوري لدى أي فئة ترغب بالتغيير، وذلك عن طريق التلويح باستخدام النصوص المقدسة ضدهم، واتهامهم بـ(الخروج على السلطان الحق بغير الحق). ومن الجدير، ذكره أن كتّاب هذا الحزب، هم الذين كتبوا التاريخ بعد ذلك، بعد أن أصبحوا طبقة ذات امتيازات، بدلاً من أن يكونوا على الهامش، ويرعوا أحلام المقهورين. ولنتذكر جميعاً، أن أول كتاب في التاريخ، كان هو الذي ألفه محمد بن إسحق بن يسار، للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وهو نفس الكتاب الذي سوف يختصره، فيما بعد، ابن هشام، ليصبح أهم مرجع في السيرة النبوية. وليت شعري، هل كان محمد بن إسحق قادراً على أن يورد في هذا المؤلف، ما من شأنه أن ينتقص من قدر العباس، وهو يهدي الكتاب لحفيده (المنعم الجبار)، حتى لو كانت تلك الرواية صحيحة؟. إذن لما عاش الرجل، ولما عاش الكتاب، ولما تمكن ابن إسحق من نيل الجوائز، ولا من نيل لقب إمام أهل السير والمغازي(5)!. ولعل من المناسب هنا، الاستشهاد بنص بسيط من نصوص الحافظ ابن كثير الدمشقي القرشي، للإشارة إلى حجم ولاء فقهاء هذا المذهب للطغيان، وإلى حجم تفريطهم بمهمات المثقف، التي من المفترض أنها منوطة به. النص من كتاب (البداية والنهاية). والمناسبة ثورة قادها ابن الأشعث، على حكم بني أمية، وأيده فيها عدد كبير من التابعين والعلماء المجاهدين. يقول ابن كثير: "والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة، وليس من قريش، وإنما هو كندي من اليمن. وقد اجتمع الصحابة، يوم السقيفة، على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش... فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة، على المسلمين من سنين، فيعزلونه وهو من صلبيّة قريش؛ ويبايعون لرجل كندي، بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد؟!"(6).


إن هذا النص يمكن اعتباره (النص الأب)، الذي تعود إليه النصوص عند الاختلاف؛ نظراً لمكانة صاحبه، التي لم يصل إليها إلا لكونه معبراً صادقاً عن مذهب أهل السنة والجماعة: فابن كثير مرضيٌّ من كافة ألوان الطيف السني: فهو في الفقه شافعي من مدرسة أهل الحديث، وفي علم الكلام سلفي، ومفسر بالنقل، ومؤرخ ذو هوى قرشي أموي عباسي. إضافة إلى حيازته لقب (حافظ)، بما تعنيه هذه الدرجة العلمية من رسوخ قدم في علم الحديث، روايةً ودرايةً. فلنلاحظ في هذا النص ما يأتي:


1ـ أن ابن كثير لا يهمه كيف أخذ الخليفة الأموي، عبد الملك بن مروان، تلك البيعة: فمع علمه بأنها كانت تحت تهديد السيوف، إلا أنه جعلها واجبة الطاعة.

2ـ إصرار ابن كثير على شرط القرشية هذا، حتى في غياب شروطٍ أهم، كالعدالة والعدل واحترام الدستور. وهو الذي يروي، في نفس الكتاب، أن هذا الخليفة نفسه، قد ودع القرءان بمجرد توليه الخلافة، قائلاً: هذا فراق بيني وبينك(7).

3ـ أن هؤلاء، الذين ينعى عليهم ابن كثير ثورتهم على الخليفة، كانوا أعلم أهل زمانهم وأتقاهم: سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وكميل بن زياد، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وطلق بن حبيب... وأمثالهم. ومضمر خطاب ابن كثير هنا هو أنه أعلم منهم، أو أتقى، أو كلا الأمرين معاً(8).


وبقتل هؤلاء وإسكاتهم وتغييبهم في السجون، تبلور مذهب أهل السنة، كمذهب ينظّر لدستورية حكم كل من حكم بحد السيف، حتى جاء زمن تساقطت فيه حتى تلك الشروط الواهية، التي تذرعوا بها سابقاً حول القرشية، وتولى السلطة رجال لا هم من قريش ولا هم من كندة، ولا هم من العرب حتى. ومع ذلك فقد ظل ابن كثير، وأستاذه ابن تيمية، يساندون حكمهم، وينظّرون لمشروعيته، مخادعيننا بأن هناك خليفة قرشياً من بقايا العباسيين في بغداد، يعطيهم وكالة بممارسة الحكم ولاة له، وأي ولاة!. وكلنا يعلم أن خلافات ابن تيمية مع السلطان المملوكي محمد بن قلاوون، لم تكن بسبب العدالة أو الشورى أو على طريقة الوصول إلى الحكم، بل ولا على أسلوبه في توزيع الثروة على المحيطين، بل على مشروعية شد الرحال إلى المسجد الإبراهيمي بالخليل. على هذا سُجن، وبسبب هذا يصدع تلاميذه رؤوسنا بمقولاته حول ثبات العلماء، متناسين أنه وافق أخيراً على مشروعية السفر إلى هناك، دون شد رحال!. وكأن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بهذا الدين، من عند رب السماوات والأرض، ليحل لنا مشكلة الرحال على الجمال!(9).

وقبل أن نستكشف أهم مميزات مذهب أهل السنة والجماعة ـ المذهب الذي سوف يصوغ وعي الأمة طوال دهور ـ يجدر بنا أن ننقل هذا النص عن ابن تيمية: شيخ ابن كثير و(شيخ الإسلام) أو (أستاذ الأساتذة)، بلغة اليوم. يقول: "فمتى صار قادراً على سياستهم ـ بطاعتهم أو بقهره ـ فهو ذو سلطان مطاع، إذا أمر بطاعة الله. ولهذا قال أحمد [أي: ابن حنبل] : ... ومن ولي الخلافة، فأجمع عليه الناس، ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف، حتى صار خليفة، وسُمي أمير المؤمنين، فدفع الصدقات [أي: الزكاة] إليه جائز؛ برّاً كان أو فاجراً"(10).


وخطورة هذا النص تأتي من كونه من النصوص المجمع على محتواها، بين أهل السنة، على اختلاف مذاهبهم، كما أنه تلخيص أمين لكل ما ورد في كتب السياسة الشرعية التي سبقته(11)، ولكل ما سوف يلحقه. وإذا كانت أي مراجعة لآراء جمهور علماء المذاهب الأربعة الأولين، سوف تبين لنا إلى أي حد كان هذا النص تعبيراً مباشراً وأميناً عنهم؛ فإن أي مراجعة مثلها، لنصوص المعتبرين المؤثرين من علماء المذاهب الأربعة المتأخرين، سوف تعطينا نفس النتيجة، لنتبين كم يتناسخ هذا (النص الأب) في كتابات المحدثين، مما لا يُرجى معه تغيير، في علاقة الحاكم بالمحكوم؛ حتى قال شارح الطحاوية: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا؛ ولا ندعو عليهم. ولا ننزع يداَ من طاعتهم. ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضةً؛ ما لم يأمروا بمعصية... بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الأجور"(12). ثم قال من بعده الشيخ الخضري: "الإمام خليفة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: فمن عصاه فقد عصى الرسول، ومن عصى الرسول فقد عصى الله. ومن حارب الإمام فقد حاربهما"(13)

 

مما سبق، ومن خلال تفحص النصوص السابقة، يمكن القول بأن أهم ما يحكم علاقة الشعب بالحاكم ـ في وعي الأمة الذي صاغه علماء أهل السنة ـ هي المحددات الآتية:         

1ـ القبول بكل من اعتلى سدة الحكم، بأية طريقة، وتحت أي ذريعة.

2ـ الامتناع عن محاسبة الحاكم سياسياً ومالياً.

3ـ الولاء التام للحكام واعتبار الطاعة لهم، طوال حياتهم، واجبة وجزءاً لا يتجزأ من الممارسة الدينية.

4ـ القبول بمبدأ الوراثة في الحكم: حيث تتم البيعة للابن بولاية العهد، في حياة الأب، وبقوة القهر.

5ـ التركيز على الانتصارات الخارجية، وجعلها وسيلة للتعمية على الإحباطات الداخلية والظلم الاجتماعي.

6ـ كتابة التاريخ وفق ما سبق، والترحم على كل من سبقوا من الحكام، مهما كانت درجة ظلمهم.

7ـ الانصراف عن شؤون السياسة إلى نقاش مسائل الفروع، على اعتبار أنها هي الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مما أدى إلى ظهور الفرق الكلامية المتعددة، في المذهب الواحد، زيادة في إشغال الناس وإلهائهم عن واقعهم الاجتماعي المتردي.

8ـ اتخاذ المواقف السلبية، في مواجهة كل الثورات السياسية والاجتماعية، والحرص على إصدار الفتاوى المؤيدة للحاكم، في مواجهتها، حتى فيما بعد زوال دولته.


لكن أهم حدث صاغ وعي هذا الحزب الرسمي ـ وصاغ بصياغته لاشعور الجمهور والأمة طوال أحقاب ـ كان هذه التسمية العجيبة (أهل السنة والجماعة) ومناسبتها التاريخية: فأهل السنة والجماعة تعبير يراد منه ـ وفق مفهوم المخالفة ـ  أن يقول: بأن كل من هو من غير هذا الحزب، فهو ضد وحدة الأمة، ومعارض لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالعام الذي اغتيل فيه الإمام علي هو عام الجماعة!. في إشارة إلى قبول مبكر بحقيقة القوة وأحقيتها بالقول، بغض النظر عن كل مبادئ العدالة السماوية، وقوة المنطق السليم؛ الأمر الذي سوف يؤسس في اللاشعور الجمعي، مع كثرة الترداد، قبولاً وإيماناً باعتبار عهد معاوية عهداً مشرقاً. ولئن كان عليٌّ طوال حياته، منشغلاً بالحروب المفروضة عليه من البغاة، فإن معاوية قد قيّض له أن يدخر جزءاً من وقته، المتبقي بعد اغتيال خصمه وابنه، لتحقيق انتصارات خارجية، تحقق المجد للحاكم، مع أن الناس يعانون من الجوع والقهر. وفي أسوأ التقديرات يصبح عليٌ كمعاوية، باعتبارهما خصمين اختصما، وافترقت باختصامهما الأمة، قبل أن تعود للاجتماع على معاوية، الذي تم اختراع لقب جديد له: كاتب وحي رسول الله!. فليت شعري، متى كتب معاوية الوحي، وهو قد أسلم عام الفتح، ثم ظل في مكة، في حين غادر الذي ينزل عليه الوحي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة، ومات بعد عامين، لم يقدم خلالهما معاوية إلى المدينة، ليلتقي ويصاحب ويكتب؟!. فانظر كيف تغلب الشائعةُ الحقيقةَ، بحيث صرنا، نحن جمهورَ أهل السنة، لا نسمع عن كتبة الوحي العظام: كعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير(14)... ثم صرنا نسمع بمعاوية!.


إن القيم السلبية التي يغرسها مثل هذا الخطاب المعلن، تملك قدرة سحرية على اختراق الوعي، والاستقرار هناك في أعماق اللاشعور الجمعي للأمة. وهذه القدرة السحرية منبثقة من هذه السردية الكبرى، التي يتشكل بها الخطاب، لتقود العقول في دروب الحكاية: حكاية الرجل الذي وحد الأمة، بعد فرقتها، وكتب الوحي النازل من السماء، وصار من ثم هو الحليم الحكيم، الذي لا يقطع ما بينه وبين الناس، ولو كان في دقة الشعرة. وكل هذا يعني في مضمر الخطاب ـ وهو أخطر من معلنه ـ أن كل من وقف ضد هذا الرجل مفرق للجماعة، ولا يحب كتابة الوحي ولا كتّابها، ولا يحترم الحكمة!. ومن كان هذا حاله، فلا يحق لنا أن نناصره إذا ثار، حتى لو كان يدعونا إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. لقد بلغ انحياز ابن كثير، لمعاوية، إلى الدرجة التي تسمح له بنسبة الخطأ والتعجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ـ شخصياً ـ في سبيل تبرئة معاوية، من خُـلُقٍ يأنف أشعب من أن يُنسب إليه. فلنتأمل كيف فعل المؤرخ المأمون عند أهل السنة ذلك. يقول: "وروى الإمام أحمد ومسلم والحاكم في مستدركه من طريق ابن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء عن ابن عباس، قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، فقلت: ما جاء إلا إليّ. فاختبأت على باب. فجاءني، فخطاني خطاة أو خطاتين، ثم قال: اذهب، فادعُ لي معاوية ـ وكان يكتب الوحي ـ قال: فذهبت، فدعوته له، فقيل: إنه يأكل. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنه يأكل. فقال: اذهب فادعه. فأتيته الثانية. فقيل: إنه يأكل. فأخبرته. فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه. قال: فما شبع بعدها. [والكلام من هنا لابن كثير] وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه: أما في دنياه، فإنه لما صار إلى الشام أميراً، كان يأكل في اليوم سبع مرات: يُجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل، فيأكل منها. ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول: (والله ما أشبع، وإنما أعيا). وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك. وأما في الآخرة، فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما، من غير وجه، عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (اللهم إنما أنا بشر، فأيما عبد سببته أو جلدته، أو دعوت عليه، وليس لذلك أهلاً، فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة). فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية"(15)ولا أعرف ما هو هذا الكلام، من المؤرخ المأمون عند أهل السنة؛ إن لم يكن هو العمى والمصلحة!.  


إن واقع الحال يدل تمام الدلالة، على أن المثقفين مفيدون غاية الفائدة في تفعيل الهيمنة ـ كما يقول غرامشي ـ لإن مساهمتهم في تصوير الأداء السياسي للحكام كاملاً هو ما يشكل جوهر خيانتهم(16). وإن نظرة سريعة إلى أهم كتب التاريخ، التي صنفها مؤرخو أهل السنة وعلماؤهم، تبين لنا كم كانت هذه المساهمة مفيدة للحكام وضارة بالشعوب. ولننظر كم هو حجم هذا الاهتمام، الذي أبداه مؤرخ كابن كثير، بتسطير الصفحات المطولة، بغية إلقاء الضوء على حياة الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي، وتسجيل انتصاراته، وعرض بلاغته، وتمجيد إحسانه!. في الوقت الذي ألزم فيه نفسه ببخل غريب، كلما تطرق الأمر إلى ذكر ثائر من الثوار، ولو كان من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.


من معاوية حتى نهاية العصر العثماني، وأيدي الطغيان تتداول هذه الأمة، وتصوغ هذا التاريخ. أي أن الأمر استمر على ذلك ما يقرب من ثلاثة عشر قرناً. وإن ثلاثة عشر قرناً، من ممارسة الحكم بهذه الطريقة المشينة، لكفيلة بغرس جرثومة الاستسلام، في وعي المجتمع بكامله. لقد تعود المجتمع الإسلامي على هذا القهر، حتى أصبح ما سوى ذلك شاذاً ومؤقتاً: يزول فلا يحزن أحد، ولا يثور أحد؛ كما حدث بعد موت عمر بن عبد العزيز مسموماً، بعد أقل من سنتين يتيمتين، من توليه الحكم، رحمه الله. فهل يمكن القول بأن ممارسة مجتمعية، بهذا العمق الزمني والنفسي، كفيلة بأن تتحول إلى عادة مسلكية، تتسلل إلى جينات الأفراد، فيورثها الأب للابن؟!. وهل يمكن القول بأن الطغيان قد تحول، بهذه الطريقة، من مجرد حادث اجتماعي، إلى مرض نفسي، أصاب مجموع أفراد الأمة؛ مما يستدعي القول بصعوبة العلاج؟!.


يقول أرسطو: "إن العبد يفتقر تماماً إلى ملكة التفكير والتأمل"(17). ولقد يُخشى أن يكون شيء من هذا قد أصاب الأمة، لطول ما استعبدها حكامها، وإلا فما هذا الصمت من أمة ترى، رأي العين، بذخ حكامها، واستقواءهم عليها، ونهبهم غير المحدود لكل ثرواتها، بينما هي تجوع وتعرى يومياً، وتتعرض للغزوات؟!. لقد بلغ الأمر ببعض هذه الشعوب حداً من الامّحاء والتماهي في الحاكم، يفوق قدرة العاقل على التخيل: فها هي ترى كشف الوثائق لعمالة حكامها، وتآمرهم مع عدو الأمة، ونقلهم الأخبار لإسرائيل ـ بوشك الهجوم المصري السوري عليها عشية حرب1973 ـ ثم ها هي تواصل صمتها العاجز، الذي لا يكتفي بالصمت، أحياناً، بل ينبري كثير من أهل الرأي فيها، للدفاع عن الحاكم ذاته، ويوجه لك اللوم الشديد، إذا تناولت أفعاله بما لا يحمل معاني الحمد!. أفلا يدل هذا على حدوث شيء، في اللاشعور الجمعي، هو أخطر من مجرد القبول بالظلم؟. ألا يحتمل أن يكون مثل هذا استدعاءً للظلم، وتأييداً للخيانة؟!.


إن المرض السلوكي متغلغل، ولا يجوز الصمت عن معالجته، لأنه بات الآن يهدد وجود الأمة، ويعرضها للزوال. وإن معالجة هذا المرض تبدأ بإعادة كتابة التاريخ، وإعادة قراءته. فلو أن حاكماً ما علم أن التاريخ سيلعنه؛ فلربما لشكل هذا شيئاً من الرادع له، وإن كان وحده لا يكفي. لكنه يرى أن التاريخ سيمتدحه، كما فعل مع كل أمثاله. ونحن الآن نسمع خطباء، منسوبين إلى جماعات تدعو إلى إقامة (الدولة الإسلامية) يترحمون على الحجاج، ويمتدحونه، وينهون عن اتهامه بالظلم، إلى درجة تأليف الكتب في الدفاع عنه: فقد رأيت يوماً في يد أحدهم كتاباً، هو عبارة عن رسالة ماجستير، بعنوان: (الحجاج بن يوسف الثقفي ـ رحمه الله ـ المفترى عليه)!!!.. أي والله!. هذا هو العنوان بالتمام والكمال، فيما لا حاجة بعده لقراءة الكتاب، لأن المحتوى كله قد صار على الغلاف. هذا بعض مما قالته رسالة الماجستير المذكورة. ولو اطلعنا على ما يحب أهل السنة أن يحفظوه من وصايا، ويورثوه من ثم لأبنائهم، لأمكن لنا أن ندرك كم بلغت لديهم عبادة الحاكم، من سمو ورفعة، لا يدانيها إلا اقترانها بشهادة التوحيد. ولنقرأ شيئاً من وصية الحجاج بن يوسف الثقفي ـ التي نقلها ابن كثير، بكثير من الامتنان والإعجاب ـ لندرك كم تغلغل هذا المرض السلوكي في الحاكم والمحكوم: "عن يزيد بن حوشب أنه قال: بعث إليّ أبو جعفر المنصور فقال: حدثني بوصية الحجاج بن يوسف. فقال: اعفني يا أمير المؤمنين. فقال: حدثني بها. فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك: عليها يحيا، وعليها يموت، وعليها يُبعث... قال: فرفع أبو جعفر رأسه إلى أبي العباس الطوسي ـ وكان قائما علي رأسه ـ فقال: هذه والله الشيعة، لا شيعتكم"(18).


إذن، هكذا يفعل الطغيان بالعبيد. وهكذا يفعل الطغيان بالمعبودين: العبد يقرن الطاعة بالإلوهية، والمعبود لا يكتفي من المطالبة بالمزيد. فماذا نفعل ونحن نرى جامعات حزب السلطة (أهل السنة والجماعة) تمنح شهادات بدرجة الامتياز، على بحوث كهذه؟!. ألا يدل هذا على أن الجامعات، ودور العلم، قد تحولت إلى أدوات هدم، بدلاً من قيامها بواجباتها في التنوير وفتح مغاليق العقول؟. إنني أعتقد، شخصياً، بأن من يترحم على الحجاج وأمثاله، بهذه الطريقة، فإنه يشتم عليا رضي الله عنه، في ذات الوقت، لأن هذا هو مضمر خطاب بهذه الصياغة.


لقد تم التأسيس للقهر الاجتماعي والسياسي بأيدي علماء الأمة. ولقد استمر هذا القهر المحمي بـ(العلم الشرعي) طوال قرون، بحيث بات من الصعب الدعوة إلى الثورة، على حكام على هذا المستوى من تدني الأخلاق، ونهب المال العام، والعمالة للعدو. فما العمل؟. وهل أمامنا من طريق سوى استمرار الكفاح؟!. لا أعتقد ذلك؛ لسبب بسيط، هو أننا لا نملك خياراً آخر، من يوم أن قررنا بأن الاستسلام، لكل هذا الاستغوال، ليس خياراً مطروحاً. وإذا كنا نريد امتلاك أدوات البقاء، فلن تتوفر لنا هذه الأدوات، مع أمثال هؤلاء الحكام، وإنما تبدأ نهضتنا فقط بعد زوالهم. فهم جزء من المشكلة، ولا يمكن أن يكونوا جزءاً من الحل. ومن بعدهم، فقط، يمكن نيل الحرية والقوة ووسائل البقاء. وقبل أن يحدث ذلك، فسوف نبقى شعباً من العبيد: ينهب الحاكم ثروته، ويبيع استقلاله، ثم لا يجد ما يتقوت به، وينام على الأرصفة، في كل فصول السنة، ثم لا يشبع الحاكم من المطالبة بالمزيد من الخضوع، ولا يشبع المحكوم من استدعاء المزيد من القهر، والجوع، والإذلال القومي. إن قيامتنا لن تقوم إلا بانتزاع حريتنا من سالبيها: فلا يجوز لنا قط، أن نتوقع انبثاق حكم رشيد، بين شعب من العبيد.


والآن ما زال المثقفون العرب ينظرون يميناً ويساراً، ويعيشون غرباء في مجتمعاتهم، التي يريدونها أكثر قدرة على الاستجابة لرغباتهم، فلا تستطيع هذه المجتمعات، تلبية هذه المطالب الباهظة، لأبنائها العاقين: إنهم يريدون حرية، ثم يتحالفون مع الطغيان. ويريدون شفافية، ثم لا يتورعون عن مد أيديهم إلى المال العام، مما تجود به أيدي الحكام. ويريدون تنويراً لا يتيح لهذه الأمة إلا أن تفتح الأبواب للرذيلة على مصراعيها. ويريدون علماً لا يمكن لهم أن يقبلوا به إلا إذا كان قرين الكفر. ويريدون ليبرالية تسمح لهم بأن يسمعوا أنفسهم فقط... إنهم لا يفهمون الحضارة إلا سكرتيرة حسناء، ومكتباً فارهاً، ومرتباً مجزياً، وعطالة عن العمل، وانشغالاً بالشعار، غير مدركين أن كل مثل هذا لم يتحقق، في أوروبا، بأدوات مثل أدواتهم الكليلة هذه؛ بل بالتضحيات والموت والدم والمثابرة وتقديس العمل واحترام المختلف.


لقد حدث ذلك في الماضي، بما يعنيه هذا الماضي لأمة تحسن الاتباع وتحارب الابتداع!. فماذا يحدث اليوم؟. ألا نرى أن الكثيرين منا لا يزالون يحنون للحكم العثماني، رغم كل ما رواه لنا عنه آباؤنا؟. ألا نزال نطالب بدولة الخلافة رغم أنها هي، لا غيرها، من أجبرنا على البحث في بعر الجمال، عن بقايا طعام نهبته من بيوتنا؟. ثم إذا كنا كذلك، أفلا يعني هذا أننا أحد رجلين: إما أننا لا نصدق آباءنا، أو أننا مستعدون لمواصلة أكل بعر الجمال، في سبيل الحصول على (حكومة إسلامية)؟.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي. من أوراق وزارة الثقافة الفلسطينية. ص1

2ـ إدوارد سعيد. الثقافة والإمبريالية. ترجمة كمال أبو ديب. ط1. بيروت. دار الآداب. 1997. ص75

3ـ السيرة النبوية لابن هشام.جزء1. ط1. القاهرة. مكتبة الإيمان. 1995. ص210

4ـ السيرة النبوية لابن هشام. المصدر السابق. ج1. ص122 ــ 123

5ـ علينا ملاحظة أن هناك من طعن في صدق ابن إسحاق واتهمه بالوضع، ومن هؤلاء الإمام مالك. ولم يقبل الباقون روايته إلا بشروط أصعب من الشروط التي فرضوها على من سواه، باعتباره مدلساً.

6ـ ابن كثير. البداية والنهاية. ج9. بيروت. دار الفكر. 1978. ص54

7ـ انظر: ابن كثير. البداية والنهاية. المصدر السابق. ج9. ص63

8ـ انظر: ابن كثير. البداية والنهاية. المصدر السابق. ج9. ص96

9ـ انظر: ان كثير. البداية والنهاية. المصدر السابق. ج14. ص123 ــ 124

10ـ ابن تيمية. منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. ج1. بيروت. دار الفكر. دون تاريخ. ص141 ــ 142

11ـ انظر كمثال على ذلك: كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي. ط2. بيروت. دار الكتاب العربي. 1994. ص37 ــ 39

12ـ انظر: ابن أبي العز الحنفي. شرح العقيدة الطحاوية. ط6. بيروت. المكتب الإسلامي. 400هـ.

13ـ محمد الخضري بك. إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء. القاهرة. المكتبة التجارية الكبرى. دون تاريخ. ص11 ــ 12

14ـ انظر: السيوطي. الإتقان في علوم القرءان. ج1. بيروت. دار الفكر. دون تاريخ. ص58 ـــ 61

15ـ ابن كثير. البداية والنهاية. المصدر السابق. ج8. ص119 ــ 120

16ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة عبد الكريم محفوض. دمشق. منشورات اتحاد الكتاب العرب. 2000. ص15