دكاترة السودان وكنز علي بابا

 


إضاءة:

هذا مقال سبق أن نشر قبل سنوات. وهأنذا أعيد نشره اليوم مع بعض التعديلات الطفيفة، الناتجة عن تحقق ما تنبأ به المقال في حينه.

 

إن أسوأ ما في نظامنا التعليمي، هو منح أصحاب الدرجات الدنيا، في التحصيل الثانوي، فرصة الالتحاق بالكليات الشرعية، ومن ثم الحصول على درجات جامعية، تؤهل حاملها للتخصص في شؤون الفتوى.


ولنا أن نتصور كيف أمكن لتلميذ راسب، أو متخلفٍ، أو معانٍ من عاهة نفسية، أن يحمل لقب (دكتور)، ليرقى المنبر، ويعظ الناس، ويتدخل في آخر أمر يمكن له أن يحسنه: السياسة وعلوم الاجتماع.


إنه لمما يثير الغثيان حقاً، ويُزهّد كلَّ نابهٍ في هذه الحياة، أن ترى خطيباً يحمل درجة الدكتوراه في الحديث النبوي، ثم ـ رغم أنه لا يعرف في تخصصه إلا أقل القليل ـ تراه يتكلم في وسائل بناء الدولة، مستثيراً الغوغاء والجهلة، وموجهاً لهم لاقتراف أبشع جرائم القتل، ثم تنصيب نفسه قاضياً يحكم بـ(شرع الله) على الناس، على اعتبار أن الدين له سلطة مهيمنة على الحياة السياسية والمجتمعية!.


فهل قدر لنا حقاً أن نقع تحت طائلة هذا النوع من (القضاة)!.


لقد رأيت أحد هؤلاء القضاة الغوغائيين يشرح ما ورد من رواية ابن إسحق، حول خيانة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإفشائه أخطر الأسرار العسكرية للأعداء.

لقد شرح الخطيب الغوغائي هذه الحادثة، بطريقة تشجع الناس على الخيانة الوطنية!. أي والله!. لقد جرى الأمر برمته على هذا النحو، ذات يوم أغبر، حملتنا فيه فريضة الجمعة على رؤية رجل يصعد المنبر ـ مستعيناً بشهادته الشرعية من السودان ـ ليقول لجموع المصلين البسطاء، بأن الخيانة الأولى مغفورة!.


ولْنسُق الحادثة كما وردت في كتب السيرة أولاً:


عندما نقضت قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عليه أن يأمر جيشه بالمسير إلى مكة لفتحها. ورغم أن وجهة الجيش ظلت سراً على المقاتلين، لضمان المفاجأة الاستراتيجية، إلا أن الصحابي حاطباً أدرك المقصود، فبادر إلى إرسال رسالة لقريش، يحذرهم من الهجوم، مرتكباً بذلك جريمة الخيانة العظمى. ولولا أن الله أعلم نبيه بالخيانة، فتدارك الأمر، لحدثت أمور لا تحمد عقباها. المهم أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، طالب بإعدام الواشي. ورغم أن النبي الكريم لم ينكر على عمر مطالبته هذه ـ في إشارة إلى أن المتهم يستحق هذه العقوبة بالفعل ـ إلا أنه رفض إعدام الرجل، لكونه ممن شهدوا بدراً. ثم علق قائلاً: "وما يدريك لعل الله اطَّلعَ على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم"(1)


إذن فالرجل يستحق العقوبة على خيانة عظمى. ولولا أن الله قد عفا عنه مقدماً، لنفذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه العقوبة بحقه. فكيف قرأ خطيبنا الدكتور الديماغوجي هذه الحادثة:


قال الدكتور ـ الذي حصل على شهادته من السودان، ثم انتمى لجماعة المسلمين، ليضمن وظيفة مريحة في إحدى مؤسساتها ـ بأن في هذه الحادثة دليلاً على أن من خان وطنه يستحق العفو والشفقة، بشرط أن تكون المرة الأولى!.


أي والله! لقد قال الخطيب المِصْقَع هذا بالضبط.


ونحن بالطبع ندرك أن هناك من ضعفاء الأنفس من سيستفيد من هذه (الفتوى السودانية)، ويفشى أهم الأسرار للعدو الصهيوني، واعداً نفسه بألا يكررها مرة أخرى، ثم لا بأس بعد ذلك من أن يكون من المرضيّ عنهم، المستحقين للمديح، مثل حاطب!.


فهل رأينا جهلاً أعظم من هذا؟.


وهل رأينا أحداً من (جماعة المسلمين) يشجب ما قال هذا الدكتور، الذي حصل على شهادته من السودان، فيبين أن الخيانة هي الخيانة، وأن من خان وطنه أو دينه يستحق العقوبة، خصوصاً وأنه ليس من أهل بدر.


وهل غاب عن جهل الدكتور (البطين)، أن خصوصية أهل بدر لا تتكرر لأحد من بعدهم، لأنه قد جاء فيهم نص خاص، بمغفرة خاصة؟. أم أن نوع الشهادة التي حصل عليها الدكتور، وبلاد منشئها، هو العامل الحاسم في إصدار هذا النوع من الفتاوى؟!.


يبدو فعلاً أن البطنة تمنع الفكرة!. ولو كانت البطنة خيراً لما أجاع عمر، رضي الله عنه، نفسه عام الرمادة، ولما اكتفى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالكفاف، فجاع يوماً ليذكر، وشبع يوماً ليشكر.


أم لعل الدكتور البطين يريد أن يكون شاكراً أبداً؟  


كم سيكون حجم الإساءة إلى الدين، حين يتاح لمثل هذا النوع من الدكاترة الأغبياء، أن يفتوا في جواز قتل المؤمنين، بشبهة مخالفتهم لـ(جماعة المسلمين)!. ألا نكون نحن، بهذه السطور، ممن يستحقون مثل هذا الحكم؟!.


لكن شهادة السودان حجاب!.


أمر آخر يمكن الإشارة إليه ـ من مجمل هذا الركام البائس المسمى حسماً ـ وهو أنه قد قيل لنا دائماً بأن الدين حاكم على السياسة. فكيف فعل الدين ذلك الآن؟.


لا جرم أن غدا واضحاً الآن أن الذين يحكمون الفعل السياسي الآن عندنا ـ في بلاد الجبارين ـ هم أمثال هذا الدكتور، الذي أباح الخيانة الأولى، بصفته واحداً من كبار مفسري الدين والمستنبطين لأحكامه. فما حاجتنا منذ الآن إلى كل هذا القانون، وكل هذه المحاكم؟!. وما حاجتنا إلى المحامين؟!. وما حاجتنا إلى كل الكتابات التي تُكتب، وكل الإبداعات التي يبتدعها المخترعون، إذا كان من سيتحكم فيهم مجرد طالب تدنت علاماته فاختار دراسة الدين، ثم اكتشف أنه قد وقع على كنز علي بابا!.


في السابق كان يحكمنا عقيد فاسد يطلق العنان لصفارة سيارته العسكرية، في سبيل شراء ربطة خبز. والآن يحكمنا دكتور، يحمل شهادة في تفسير القرآن، ثم يزعم أنه الأقدر على استنباط الحكم الإلهي. فمن من الشخصين أكثر خطورة؟.


كنت أقول للعقيد الفاسد بأنه مخطئ، ومتجاوز للقانون، وأؤكد له أنني سأناقش خطيئته مع مسؤوله. فينحني ويتصاغر، ويتراجع، ثم يرجو.


أعلم أنه كان يعود إلى ما كان عليه. وأعلم أن رئيسه في الوظيفة ما كان ليجرح شعوره الفاسد، لأنه أفسد منه. لكنني لا أستطيع مقارنته بحامل شهادة شرعية، مستعد لأن يشهر في وجهي نصوصاً قادرة على ذبحي!.


العقيد الفاسد كان يصغر أمام سطوة المثقف.


أما حامل الشهادة السودانية فيرغب، من صميم قلبه، في قتل المثقف، بصفته يناقش في النصوص، التي حمل بواسطتها الدكتور الشرعي شهادته.


نحن الآن أيها السادة في مواجهة دكاترة يدافعون عن تفسيراتهم الأيديولوجية. فهم تبعاً لذلك أكثر خطورة على تنوع المجتمع ونسيجه الاجتماعي، بل وبقائه منذ الأساس.


أما أنهم أكثر خطورة على الدين، فأمر لا يحتاج إلى مجرد ذكر.


سألني أحدهم: متى تتوقع أن ينتهي الحكم الديني، في بلاد الجبارين؟ فأجبته: لا أعلم. ولكنني أعلم بالقطع من سيحكمنا بعده.


قال: فمن؟


قلت: أناس يرون حرمة الصلاة والتدين، ويدعمهم المجتمع في ذلك.


أظن السبب الآن صار واضحاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات: ـ

1ـ رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر: ابن الأثير الجزري. جامع الأصول في أحاديث الرسول. ج8. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط. مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان. بيروت. 1972. ص358 ــ 359 (حديث رقم6142)