أيها القاتل أبشرك بالجحيم


  

نُشرت هذه المادة أول مرة بتاريخ 25/5/2007


  

بعد اتفاقهم التام على أن القتل هو أعظم الجرائم في الإسلام، اختلف علماء المسلمين، قديماً وحديثاً، في مستقر القاتل يوم القيامة: أينجو من النار إن مات تائباً، أم يستقر فيها خالداً مخلداً لا يخرج منها ما دامت السماوات والأرض؟.


ولقد كان السؤال عظيماً فعلاً، ويستحق كل هذه الخلافات. لكن الذي لم يكن عظيماً أبداً، ولم يتحقق فيه خلاف واحد، هو أن من مات قاتلاً، دون توبة، فإن عقابه هو ما نصت عليه آية النساء، في قوله تعالى: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا"93.


والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا يقول: فهؤلاء الذين يقتلون الناس، ثم يزعمون أنهم مسلمون، وأن المقتولين من الكفار، ما حكمهم؟.


ولعمري لقد ظل حكمهم معلوماً، لدى أهل السنة دائماً، ولقد ظلوا موسومين، طوال العهود الإسلامية السابقة، بوسم "الخوارج"؛ لأنهم خرجوا بشبهة تحكيم شرع الله، فقالوا كلمة حق، وأرادوا بها الباطل. وهذا هو وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ للخوارج، عندما صرخوا: "لا حكم إلا لله". ومع ذلك فقد اقتضت هذه الصرخة الضالة منهم، أن يقتلوا المسلمين، ويقطعوا الطرق، ويخرجوا على الحكام لأدنى شبهة. ولقد كان من أطرف ما امتلك الخوارج طائفة من (العلماء) ظلوا يصرخون في أتباعهم، الملتهبين حماسة، أنهم على الحق، وأن أمة الإسلام كلها على الباطل. ولقد ظلوا كذلك دهوراً، حتى أفناهم السيف، وأراح الله الناس من تطرفهم.


هذا عمن قتل مسلماً متعمداً، ثم مات دون توبة. فما هو حكم من قتل مسلماً عمداً، ثم تاب قبل الموت؟


الحق أن الله يقول:

"إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" الفرقان/70.


لكن من الحق كذلك القول ـ في معرض التفسير ـ بأن من قتل مسلما سوف يظل معرضاً لأن يمنعه الله من التوبة؛ فلا يهديه إلى طريقها. وقد صح في الحديث أن الله إذا اشتد غضبه على إنسان، فإنه يملي له ويؤجله ويمد له في حبال التطويل، حتى تأتيه ساعة الوفاة، وهو واقع في حمأة جرائمه، وهو لا يدري.


والآن فلنسق ما صح من الأحاديث في هذا الباب:


روى الشيخان عن سعيد بن جبير أنه قال: اختلف أهل الكوفة في هذه الآية: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم" النساء/93. فرحلت إلى ابن عباس، فسألته عنها، فقال: لقد أنزلت آخر ما أنزل. ثم ما نسخها شيء.


وروى مسلم عنه كذلك أنه قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى؛ أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها" النساء/93. فسألته فقال: لم ينسخها شيء. وعن هذه الآية: "إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا" الفرقان/70. قال: نزلت في أهل الشرك. قال: فأما من دخل في الإسلام وعقله. ثم قتل، فلا توبة له.


وروى النسائي من حديث معاوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمدا، أو الرجل يموت كافرا".


فها نحن نرى أن هناك آيات وأحاديث تقرر أن القاتل يدخل النار، ولا توبة له. ثم نرى، في المقابل، آيات وأحاديث تقرر أن للقاتل توبة مقبولة، إذا ما تاب. فكيف نقرر الرأي الراجح؟


نقول ما يلي، بعد التوكل على الله:


1ـ القتل العمد حكمه الخلود في النار. وهذا مؤكد، وعليه انعقد الإجماع، لأنه منطوق الآية.


2ـ وهذه المادة، في قانون العقوبات، معرضة لأن لا يتم تفعيلها: لأن من المحتمل أن يرضي الله المقتول يوم القيامة، فيصفح ويعفو، مقابل مكانة أعلى في الجنة. وهذا هو مفهوم كلام الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرح صحيح مسلم. لكن هذا الرأي لا إجماع عليه، كما علمنا، وغير مؤكد، بل هو في علم الله.


3ـ التوبة ليست أمراً بمستطاع الفرد أن يحققه وقتما يشاء، أو بمطلق إرادته الخاصة. فلو قرر قاتل ما أن يتوب، مثلاً، فهل يستطيع الذهاب إلى التوبة، بمطلق إرادته؟. تلك مسألة قرر علماء العقائد ـ من أهل السنة ـ أنها موكولة إلى الله. وأن الظن الحسن بالله يقتضي أن يغلب على ظننا أن الله يدعه يتوب. فماذا لو كان غضب الله عليه قد اشتد، لحظة تنفيذ جريمته، خصوصاً عندما يرى المقتول يرجوه ويتوسل إليه، فينغلق قلبه عن سماع استغاثة الرحمة، ويقتله بدم بارد!.


4ـ لكننا رأينا كذلك من العلماء ـ كابن عباس ترجمان القرآن ـ من يرى أن القاتل لا يتمكن من التوبة، فيموت عاصياً، ويذهب إلى الخلود في النار. وهذا هو النص:


روى الإمام أحمد والنسائي ـ من طرق متعددة ـ عن ابن عباس، أن رجلاً أتى إليه فقال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً عمداً؟. فقال: جزاؤه جهنم خالداً فيها... الاَية. قال: لقد نزلت من آخر ما نزل, ما نسخها شيء، حتى قُبض رسول الله،  صلى الله عليه وسلم. وما نزل وحي بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟. قال: وأنّى له بالتوبة, وقد سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "ثكلته أمه: رجل قتل رجلاً متعمداً: يجئ يوم القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو بيساره ـ أو آخذاً رأسه بيمينه أو بشماله ـ تشخب أوداجه دماً، من قبل العرش, يقول : يا رب, سل عبدك فيمَ قتلني".


ولم ينفرد ابن عباس بهذا الرأي ـ كما يظن بعض من يشجعون قتل المسلمين ـ بل وافقه على ذلك الآتية أسماؤهم من الصحابة: زيد بن ثابت، أبو هريرة، عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو سلمة بن عبد الرحمن. ومن التابعين: عبيد بن عمير، الحسن البصري، قتادة، والضحاك بن مزاحم... إلخ (انظر تفسير ابن كثير لآية النساء).


5ـ ولقد يحلو لبعض ضعاف العلم الاستشهاد ـ على حتمية قبول توبة القاتل ـ بحديث القاتل من بني إسرائيل، الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم أتمها بمائة، ثم دخل الجنة بعد أن تاب. ولكن الاستشهاد بهذا الحديث تقف دونه عقبة كأداء، تتمثل في كونه من شرع من قبلنا، الذي في الاحتجاج به خلاف معروف. ثم إن شرط الاحتجاج بشرع من قبلنا ـ لدى من قال به ـ هو أن لا يكون في شرعنا ما يخالفه. وها قد ثبت لدينا أن في شرعنا الكثير مما يخالف هذا النص، الذي يتكلم عن شرع سابق. فسقط الاحتجاج بالحديث.


والخلاصة:


أن من قتل مسلماً، عمداً، معرض لأن يغضب الله عليه، فيميته على غير الإسلام، ولا يوفقه للنطق بشهادة الحق، في لحظة الموت، فيموت كافراً، ويستحق بعدها إجماع العلماء على وجوب الخلود في النار، جزاء ترويع الآمنين، وقتل المسلمين، والاستخفاف بالروح التي نفخها الله في آدم من روحه.


فيا أيها القاتل، أبشرك بالجحيم. وأبشر من أمرك بالجحيم. وأبشركما بالتلاعن يوم القيامة، والتبرؤ من بعضكما البعض. فهل يغني عنك بعد كل هذا شيء من رضا من لا تنتفع برضاه؟.


"إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذَابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ* وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا. مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ، حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ، وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار" البقرة:166/167


ليعلم الناس أن أهل العلم بلغوا. ولنعتذر إلى الله عن تقصير من علم وخشي التبليغ. ومعذرة إلى ربكم، ولعلهم ينتهون.


اللهم هل بلغت؟. اللهم فاشهد