هل باتت القدس مسرى نبي الفلسطينيين وحدهم؟

 

نُشرت هذه المادة لأول مرة بتاريخ 19/1/2008

 

يخترع الفقهاء من سدنة الماضي عددا من الضوابط والعلاقات، فيكرسونها مرجعيات، تتعالى على عوامل التاريخ واقتراحات الحاضر.

إنها ضوابط وعلاقات لازمنية وثوقية لا تقبل الجدال.

ومن يخرج عنها، فإن الوعي المجتمعي المأسور ـ الذي صاغه السدنة ـ سوف يتكفل بنبذه واتهامه ومحاكمته وإقصائه، تماماً كما فعلوا مع نوح عليه السلام حين دعاهم إلى فتح عقولهم أمام دلائل الحق، فقالوا: " قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ" (الشعراء/116).

وما يعتبر سدانة، من سدانات أهل السنة، هذه التواكلية التي اتسم بها مذهبهم، وهذا الصغار أمام قمع كل حاكم، ما دام لا يظهر الكفر البواح.

فليت شعري، لماذا يظهر حاكم عربي الكفر البواح، ما دام المطلوب منه هو مجرد ركيعات يصليها، أمام المقهورين، فتمنعهم من الثورة، وترد غضبهم إلى صدورهم، لتنشق أفئدتهم غيظاً وإحباطاً وعقداً نفسية ـ إضافة إلى الجوع ـ طاعة لما قيل إنه حديث ينهى الناس عن قتال الحكام، "ما أقاموا الصلاة"!.

إنه لحديث ذهبي هذا إذن!.

ورغم العلة الظاهرة في هذا الحديث ـ بمخالفته لكل ما جاء في القرآن ـ ترى السدنة يكثرون من الاستشهاد به، ويشهرونه في وجوه الفقراء، كلما حدثتهم أنفسهم بالصراخ في وجوه جلاديهم!.

وإن تعليلي لهذا الحديث نابع من رؤيتي كيف خالفه الكثير من أفعال الصحابة. ويكفيني في تعليله ورده خروج سيدي الحسين بن علي ـ عليه السلام ـ على يزيد. إذ لو صح هذا الحديث لما خالفه الحسين ولما خرج أبداً.

أضيف إلى ذلك من أفعال علماء كبار التابعين، خروج عدد منهم على الحكام الظلمة. ولو صح لديهم هذا الحديث لما ثار الإمام زيد على هشام، ولما خرج النفس الزكية على المنصور، ولما خرج سعيد بن جبير وأصحابه على الحجاج، ولما أفتى أبو حنيفة (وهو من التابعين) بضرورة هذه الثورات كلها، حتى دفع حياته ثمناً لفتواه!.

تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

إن عدم تضعيف هذا الحديث ـ لمجرد أنه مروي في مسلم ـ سوف يحيلنا إلى استنتاجين خاطئين:

1ـ أن كل ما ورد في القرآن من الآيات التي تحض على ضرورة الثورة على الظلم ومواجهته خاطئ أو منسوخ بهذا الذي يقال عنه حديث.

2ـ أن ثورة الحسين على يزيد كانت خطأ فيزيد حاكم يقيم الصلاة ولا يظهر الكفر البواح. وهذا هو المنهج الذي اتبعه كل من صاحب العواصم وشارح كتابه.

كل هذا يحدث من السدنة إياهم، رغم وجود أحاديث أصح من هذا ـ لا يحبون ذكرها ـ وتنهى أن تقبل الأمة بالصغار، أو تهاب أن تقول للظالم يا ظالم، أو تجعل سيد الشهداء من وقف للحاكم الظالم فأمره ونهاه فقتله... إلخ.

الفتنة.. الفتنة.. الفتنة..

أليست هذه هي الفزاعة التي يفزعوننا بها، كلما حاولنا تغيير أحوالنا، واستعادة حرياتنا؟.

أيها الناس، أليس فيكم من يقف ليقول: إن ما نحن فيه، من نهب منظم لثرواتنا، من قبل أشخاص الحكام وأسرهم وأزلامهم، هو الفتنة حقاً؟.

وهل الدين الحق ـ الذي يدين به السدنة ـ مجرد دين ينتظر أن يقوم الحاكم بمنح الحرية لشعبه؟.

وهل يمكن لنا، وفق هذا المنطق السني، أن نتوقع أن نصحو، ذات صباح جميل، على خطبة الحاكم الذي يعلن أنه قد قرر التوقف عن نهب مالنا، وقمع حرياتنا، لمجرد أنه استخار ربه الليلة، فألهمه أن يعيد كل المسروقات إلى المساكين، الذين هم نحن، ولا أحد غيرنا؟.

إن طرق الإدراك القديمة هذه في حاجة إلى من يتمرد عليها، بحثا عن طرق وأدوات جديدة.

وإذا كانت الممارسة الدينية، طوال أحقاب، تقودنا إلى التخلف؛ فلقد يجب علينا إذن مراجعة كيفيات هذه الممارسة الدينية، وأدوات إنتاجها، وعلاقاتها التاريخية، التي أنتجتها أول مرة. أولم يكن الأمويون هم من اخترع لنا هذه العلاقات، منذ اليوم الذي سمينا فيه العام الذي انتصر فيه باطل معاوية على حق علي بـ(عام الجماعة)؟.

فماذا تعني هذه التسمية سوى أن ما كنا عليه من مناصرة الإمام علي كانت أعوام فرقة.

وماذا تعني هذه التسمية سوى أن معاوية إمام حق أقام الله به الوحدة بعد الفرقة!.

وماذا تعني هذه التسمية سوى أن قتل الإمام علي كان سبباً مقبولاً لعودة الوحدة!.

إن هذه التسمية المقيتة لجدير بنا أن نبذها، لأنها خداعة في ظاهرها، خداعة في مضمرها.. خداعة لأنها تؤسس للقبول بحكم الطغيان!

فهل كانت هذه التسمية إلا من فعل السدنة إياهم!.

أيها الناس، إننا بالفعل نحتاج إلى إعادة نظر في الماضي، وإعادة قراءة للحاضر.

فنحن لن نفهم كيف استبدت بنا هذه التفسيرات النصية ـ المؤسسة للطغيان ـ دون أن نتمعن في تاريخ تأسيس مذهب أهل السنة والجماعة.

ودعونا نتأمل ما هو واقع الآن، لنرى كيف استبد النص بالواقع، وسلبه القدرة على الحركة الفاعلة.

العالم العربي ينتظر من الفلسطينيين أن يدافعوا عن شرفه، الذي انتهكته الصهيونية.

العالم العربي ينتظر من الفلسطينيين أن يهزموا الآلة العسكرية، التي هزمت جيوشهم مجتمعة.

العالم العربي ينتظر من الفلسطينيين أن يحرروا الوطن، الذي لم يملكوه يوماً: فمن المعلوم من التاريخ بالضرورة، أن من أُخذت منه فلسطين كان هو النظام العربي، والجيوش العربية، لا سكان فلسطين العزل!.

ومع ذلك، فماذا نرى الآن؟.

الفلسطينيون يُحاصَرون. والذي يحاصرهم بقرار أمريكي هو الحكام العرب!.

ولا داعي لأن يقفز لي أحدهم ليقول لي إنهم لا يستطيعون تحدي الحصار.

لأن هذا إذا كان صحيحا في حق حاكم خائف على كرسيه، فهو غير صحيح في حسابات شعوب ترشو ضمائرها ببعض المساعدات الصغيرة، بدلا من الثورة على هؤلاء الحكام المرتهنين لعروشهم.

كيف تطلبون من الفلسطينيين الصمود، والموت اليومي، وأنتم غير مؤهلين لدعمهم، الذي لا يكون إلا بتحرير إرادتكم الوطنية؟.

فهل يدافع الفلسطينيون إلا عن مسرى نبيكم؟.

أم باتت القدس مسرى نبي الفلسطينيين وحدهم؟.

لقد اختار الفلسطينيون الرباط، فهل اخترتم أن تخلفوهم في عيالهم بالحصار، ومجاملة صانعي الصواريخ التي تقتلهم؟.

ثم ها أنتم أولاء تمنحون كل من اضطر من الفلسطينيين إلى التفاوض ـ لكسر بعض شوكة عدو استفرد بهم ـ الاحتقار والتشويه، باعتباره مفرطاً!.

وكأنكم أنتم الذين لا تنامون من كثرة ما تدافعون عن فلسطين!.

فهل كان صعبا على النظام العربي أن يمول كل بيت فلسطيني (بطريق مباشر بدلاً من أن يدفعوا لمن يسرق) بما يكفل له العيش الكريم والتفرغ للجهاد؟.

وكم هي عدد البيوت الفلسطينية كلها، حتى ينوء بحملها النظام العربي، بدلاً من كل هذا الترف غير المنتج؟.

هل كانت أمريكا ستخلع الحكام العرب، فيما لو قرروا أن يكسروا حصار أمريكا، على شعب مارس حريته في انتخابات طالبت بها؟.

ثم ماذا لو فعلت أمريكا ذلك؟.

هل يساوي عرش الحاكم كل هذا الذل، لكل العرب والمسلمين؟.

إنه لعرش لا دين له إذن، ولا يستحق إلا الثورة عليه، لو كان هناك شعب حي وراءه.

إن كل هذه العلاقات التاريخية ـ التي تبرر الخنوع والذل واستجداء الحرية من الحاكم ـ إن هي إلا علاقات أنتجها مذهب أهل السنة والجماعة بجدارة، حتى لقد بات واضحا أن كل من يدعو إلى غير ذلك، إنما هو مجرد شخص لا ينتمي لهذه الطائفة!.

يا سلام!.. وهل مما يشرف كثيرا أن يكون المرء منتميا إلى طائفة تُغزى ولا تغزو، وتُنتهك حرماتها ولا تثور، ثم تجد لها مبرراً دينياً لكل هذا الخور وضعف العزيمة؟.

لقد تحول انتماؤنا المذهبي، لحزب أهل السنة ـ بمفاهيمه البالية ـ إلى وثن فعلي!. ولقد تحول خدام هذا الوثن ـ من علماء الدين الرسميين والمتبعين ـ إلى سدنة متكسبين، ينتظرون دعوة الحاكم ليستفتيهم في كيفية حف الشارب، وفي رأي ابن عمر في الطول الأمثل للحية... أما القدس، فلها الله والفلسطينيون، الذين لا مانع من حصارهم، ما دام الحكام يرون المصلحة في ذلك.

إن هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في طريقة تدين أهل السنة، وفي أدوات الممارسة الدينية ذاتها، كما هي حاجتنا إلى إعادة قراءة الماضي، لنتمكن من اكتشاف العيوب وتجنبها.

فدين الله حق كله. ولكن من هو هذا الذي يرى تديننا ثم يقول بأن هذا هو الإسلام؟.

الإسلام نور لا يدع ظلمة إلا انتهك أستارها. فإذا رأيت ظلما سائدا، يلوك آيات الله بالباطل، فاعلم أن الإسلام مر من هنا، ثم غادر سريعاً.

الإسلام ثورة الظلم على الباطل. فإذا رأيت خنوعاً ذليلاً خاشعاً، يتخفىٰ وراء صلوات وتسابيح، فاعلم أن الإسلام لم يمر من هنا أصلاً.

الإسلام حرية العقل ونور العلم. وحيثما رأيت جهلاً وتخلفاً، ورغبة عن التفكير واستكشاف الكون، فأيقن أن ما تراه هو شيء آخر، ربما كان ذات يوم إسلاماً، فمات.

الإسلام كلمة الله لهذه الأرض العطشى. فلماذا تموت أرض الله، ثم يقال لنا بأن المطر قد نزل عليها؟.

ألا يحق لنا حينئذ أن نطالب بفحص هذا المطر في المختبرات، فلربما نكتشف أنه مطر حمضي من عند السدنة إياهم؟.