الأيديولوجيا والسلطة


النص، والواقع، وكبار المفسرين



  

29/6/2006


 

الأيديولوجيا(Ideology) إطار عقائدي يتضمن برنامج عمل. فالمصطلح يشير إلى أمرين, أولهما: ضرورة وجود معرفة, أو حزمة أفكار, يفترض أنها محررة من نير الأحكام المسبقة, ومطهرة من تأثيرات سلطة ما. وثانيهما: رفض الاكتفاء بالجانب النظري المعرفي للفكرة. فالأيديولوجيا لا تتحقق إلا بتطلع مستمر وسعي دؤوب, من أجل ممارسة دور حاسم في تعيين طابع الحياة المجتمعية, و تقرير الفعل السياسي لدى الإنسان. وعلى هذا, فالأيديولوجيا مرتبطة بالفرد داخل مجموعة, تؤثر على الفرد وتحكم علاقته بالمجتمع, بوصفها إطاراً عقائدياً, أو رؤية للعالم, تتحدد من خلالها المبادئ الأخلاقية التي تحكم سلوك الفرد الذي يعتنقها.


إن تمسك الأيديولوجيا بحزمة الأفكار المعرفية, وإصرارها على تطبيقها في الواقع المجتمعي و الفردي, أدى إلى التعارض الصريح, في كثير من الأحيان, بينها و بين الواقع: فالأيديولوجيا حينما تحقق إنجازاً في مجال المعرفة النظرية, ثم تسعى ـ بسبب من طبيعتها ـ إلى النزول إلى معترك الحياة اليومي، لتغيير المجتمع, تتخلى في أغلب الأحيان, تحت وطأة الواقع, عن هذا الإنجاز الذي يصعب تطبيقه. و إن حدوث مثل هذا التناقض القسري, عند التطبيق هو الذي حمَل مصطلح الأيديولوجيا كل هذه المحمولات السلبية تاريخياً: حيث تخلت عن الإنجاز النظري, ثم أخفقت في تحقيق إنجاز عملي(1).


وتختلف الأيديولوجيا عن العقيدة في كون العقيدة تعني: إطاراً من الأفكار, لا يشترط التحقق العملي لتحقيق ماهيته. فالعقيدة الإسلامية (الأصول) مثلاً تفترض توفر مجموعة تصورات غيبية سماعية لدى معتنقها, فإذا توفرت هذه التصورات تحققت العقيدة, بغض النظر عن السلوك العملي.


أما إذا تحدثنا عن الإسلام كديانة متكاملة, فإننا سوف نتمكن حينئذ من إطلاق المصطلح (أيديولوجيا) لوصفه؛ لأن الإسلام لم يكتفِ بمجموعة التصورات العقائدية ـ التي تقابلها (في الأيديولوجيا) المعرفة النظرية ـ بل إنه يصر على النزول إلى أرض الواقع لإحداث التغيير, ورسم سلوك الأفراد وفق تصورات مسبقة ترتبط بمنظومة الشرائع(الفروع). كما ينطبق مثل هنا القول ـ إلى حد ما ـ على اللاهوت المسيحي؛ باعتباره يصر على الربط بين العقيدة والسلوك.


وعلى هذا, يمكن اعتبار الأحزاب الإسلامية أحزابا أيديولوجيةً؛ لأنها تصر على إعادة صياغة الواقع الاجتماعي والسياسي وفق أفكارها, خلافاً للطرق الصوفية التي لا يمكن نسبتها إلى الأيديولوجيا, بل إلى العقيدة, أو المعرفة النظرية الساكنة.


والأيديولوجيا تعطي كبار الأيديولوجيين سلطة. وهذه السلطة المعطاة، من ثم، هي التي تحتكر تفسير الأيديولوجيا. وغني عن القول إن هذا التفسير سوف يكون متأثرا بمصالح هذه الطبقة الجديدة، من المفسرين الأيديولوجيين، ويعطيهم بالتالي سلطة أخرى، هي سلطة المعرفة، التي تنتج بدورها أيديولوجيا: فتفسير الأيديولوجيا هو بذاته أيديولوجيا...وهكذا يتم الأمر، وفق علاقة جدلية، تعيد إنتاج أدوات بقائها وتحكمها.


وهناك وجه آخر للعلاقة السابقة، يربط الأيديولوجيا بالمعرفة، ويربط السلطة بالقوة. والعلاقة هنا هي جدلية كذلك، تتحدد بالجمع والربط بين طرفي العلاقة، لا بالفصل والتمييز بينهما. يقول ميشيل فوكو: "فالقوة تنتج نوعاً من المعرفة، وتؤدي إلى تراكم المعلومات والمعارف، واستخدام كل ذلك من أجل مزيد من ممارسة القوة. وبالمقابل فإن المعرفة ـ بحد ذاتها ـ قوة؛ حيث لا يمكن الفصل بين نشأة المعارف وبين ممارسة القوة"(2).


والسلطة ليست مصلحة فقط، لأنها في الأصل نزعة. أما الأيديولوجيا، فليست مجرد معرفة، لأنها، بالإضافة إلى ذلك، مؤسسة: كونها تشكيلاً حزبياً يحتاج إلى المفسرين، حتى وهي في الهامش. وهي كذلك مؤسسة، بصورة أكثر وضوحاً، عندما تدخل في علاقات السلطة، بطريق المهادنة أو المشاركة، كما هو حال الأحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان. وإذا كانت الأيديولوجيا تأنف من وصف نفسها بالمؤسسة؛ فإن السلطة كذلك تأنف من الاعتراف بأنها ترجع إلى تأثير النزعة. لكن كل هذا لا يغير من حقيقة أن السلطة هي، في جوهرها، نزعة إنسانية، وأن الأيديولوجيا مؤسسة تقوم على التنظيم، الذي يضع الحدود بين المسموح والممنوع. "وإنها لحقيقة: أن النزعة تشفي غليلها في مؤسسة... ففي الزواج تقضي الشهوة الجنسية حاجتها، وفي الملكية [تقضي حاجة] الجشع. إن المؤسسة ـ وهي مثال أفعال ـ هي منظومة مجسدة سلفاً لإرضاء ممكن للحاجات... وهي منظومة وسائل، ولكن هذه الوسائل منحرفة: غير مباشرة: هي لا ترضي النزعة من دون أن تقسرها في الوقت عينه... هذا هو الفرق بين الغريزة والمؤسسة"(3).


ولأن الغريزة مطلقة ومخلوقة مع الإنسان، ولأن المؤسسة خُلقت للتوفيق ـ قدر الإمكان ـ بين الغرائز المتعارضة للبشر، فقد كان لا بد للمؤسسة من أن تحدّ من إطلاق الغرائز، بغية تدجينها وإرضائها بما هو متوفر مؤسسياً. فالمؤسسة ـ اعتماداً على سلطتها ـ تمنح الغرائز شيئاً من المتنفس القانوني، حتى لا يحدث الانفجار. لكن المجتمعات تصادف دائماً من لا يقتنع بهذا الإشباع الجزئي، سعيا وراء قدر من الإشباع لا تسمح به المؤسسة. ومن هنا تنشأ طبقة من الخارجين على المؤسسة، وهم الأقل ذكاءً، وطبقة من المحتالين عليها، وهم الذين يكتشفون أن أفضل طريقة للخروج على القوانين، هي أن يتحولوا هم أنفسهم إلى مؤسسة: أي إلى مفسرين للأيديولوجيا، ليمتلكوا سلطة القوة من خلال المعرفة، تمهيداً لإشباع أكبر لنزعاتهم المكبوتة، خصوصاً نزعة السلطة: "فمهما أمكن للقواعد العامة أن تفرض من إكراه، على الانفعالات البشرية، فهي في الواقع إبداعات هذه الانفعالات، وهي وسيلة، فقط، أشد مكرا وأكثر رهافة، لإرضائها. ليس ثمة شيء أشد تيقظاً وأكثر إبداعاً من انفعالاتنا"(4).


من هذا المدخل يمكن الولوج إلى رصد طرائق التعامل مع الواقع، لدى الحركات الإسلامية، في مرحلتي الضعف والتمكين ـ أو حين تكون في المعارضة، ثم حين تصبح في الحكم ـ حيث نلاحظ غلبة لغة الحوار على الخطاب الإعلامي لهذه الحركات، في مرحلة المعارضة. وغير مستغرب عندئذ سماعها تطالب بترسيخ مفاهيم (الديموقراطية) و(احترام الرأي الآخر) والدعوة إلى (شفافية الممارسات السلطوية) ورفض تكفير الناس أو الدعوة إلى قتلهم بسبب آرائهم، على اعتبار أن الإسلام ـ في هذه المرحلة ـ يدعو إلى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). كما أن صوت منظري هذه الحركات يتصاعد، في هذه المرحلة، مطالباً بإسناد المناصب العليا في الدولة إلى أهل الخبرة.


أما في مرحلة التمكين ـ أو حين تتولى الحركات الإسلامية السلطة ـ فسوف نلاحظ صعود طبقة من المفسرين الأيديولوجيين، الذين يفضل بعضهم البقاء في الظل وإصدار الأوامر من وراء حجاب، منعزلين بذواتهم (المتسامية) عن الواقع، ومكلفين غيرهم من صغار التلاميذ مغبة حمل هذه الأفكار، وفرضها على الآخرين، مع هجران تام لأغلب مصطلحات المرحلة السابقة، لصالح مصطلحات أخرى بديلة، تسوغ ممارسات مضادة، تقدم أهل الثقة على أهل الخبرة، بحيث لن ترى هذه الحركات مانعاً من أن تضرب برغبة الناخب ـ الذي أوصلها إلى السلطة ـ عرض الحائط، وما ذاك إلا لفعل الأيديولوجيا، التي رأت، مسبقا،ً أن فكرتها الكاملة عن أسلوب الحياة، الذي ينبغي على الناخبين اتباعه، يجب أن تكون هي السائدة. ولذا فإنها لن تجد بأساً عندئذ في سلب الناخب رأيه، بأثر رجعي، وتسليط من رفضه في الانتخابات، سيفاً مصلتاً على رقابهم، بسلطة الحزب، وبسلطة تفسير الأيديولوجيا، ولسان حالهم يقول: أنتم لا تعرفون مصلحتكم خيراً منا. ولن يكون من المفاجئ عندئذ أن نكتشف كم هو قاس ومحموم وثأري، هذا السيف المصلت بقوة الحزب الأيديولوجي، كونه متسلحاً بسلطة الإله الواحد، الحاكم من خلال النظرية، ثم كونه منطلقاً من عقدة النقص، وراغباً في معاقبة من لم ينتخبوه، من (الجاهلين) و(المنافقين) و(الغوغاء) و (العامة) و (الدهماء).


في مثل هذه الحالة، سوف يستحيل على حماة الأيديولوجيا ـ من المحاربين القدماء، وحراس التفسيرات ـ التسويق لرؤيتهم الشاملة، مما يؤدي إلى سقوط الأيديولوجيا عند أول امتحان انتخابي قادم. وهذا هو ما يدفعهم ـ في الغالب ـ للانقلاب على النظام الديموقراطي. وهذا هو ـ في الغالب ـ الذي منعهم، حتى الآن، من تحديد موقف واضح من الديموقراطية(5).


لقد حمل مصطلح الأيديولوجيا دائماً حكماً قيمياً بالسلب، نتيجة ما فعله الأيديولوجيون السياسيون، في كل تجربة حكم، لأن شروط الحياة اليومية لا تستجيب، في الغالب، للأحكام المسبقة، حيث تتميز الأولى بالدينامية، بينما تسيطر النزعة الدوغمائية على الثانية، بضجيجها، ووحشيتها، وزهدها في كل ما هو إنساني.


لقد سقطت الأيديولوجيا الماركسية، بكل نزعتها الإنسانية، في مجال التطبيق الواقعي حين وصلت إلى السلطة، في الوقت الذي تصاعدت فيه نجاحاتها على المستوى الفلسفي والجمالي وتفسير الظواهر. ولربما لو اكتفت بالبقاء في المعارضة، لحققت نجاحات أكبر, ولصعدت من حربها على استغوال الشركات الرأسمالية, ورقابتها على أجهزة الدولة، ولدفعتها إلى مزيد من الإصلاحات الإنسانية. ولسوف تسقط الأيديولوجيا الإسلامية، في كل موقع تصل فيه إلى السلطة، بسبب من إصرار طبقة المفسرين فيها على التنكر لعلاقات القوى التاريخية، لصالح تطبيق نصوص بعينها، مع أن هناك متسعاً لنصوص أخرى، أكثر قدرة على الاستجابة لهذه العلاقات، التي هي في الأصل دنيوية ومن فعل البشر.


إن الإسلام هو من عند الله, لكن الأيديولوجيا الإسلامية هي من صنع كبار المفسرين، وشتان بين ما جاء من السماء: دينامياً صالحاً لكل زمان، وبين ما اختلط بنزعات البشر وشهواتهم وعلاقات القوة، في عالمهم الذي مضى ـ ثم جاء كبار المفسرين ليحولوه إلى دين، باعتباره التفسير الأوحد رغم أن عالمه قد ذهب ـ ولعل إصرار المفسرين على ضرورة إحياء منصب الخلافة، يمثل علامة دالة على كيفية تحويل الواقعة التاريخية إلى نص مقدس، متناسين أن هذا المنصب كان قد تم ابتداعه، للمحافظة على وحدة المجتمع، قبل أن يتحول إلى منصب أبدي، تحتكره عائلة بعينها، ولا تتورع عن انتهاك القوانين، التي جاءت بها إلى السلطة، ثم لا تتورع عن خلق مجموعة من المفسرين الأيديولوجيين، الذين يسوغون للجمهور الصبر عليها، وتحريم الثورة على انقلابها المتعمد على سلطة القانون. ومع مرور الزمن, واصفرار الأوراق، اكتسبت هذه التفسيرات القديمة قدسية، أتاحت توريثها لمفسرين جدد، يلبسون ربطات العنق، والحلل الحريرية من (كريستيان ديور) بينما يقبع في دواخلهم حفاة عراة عالة يتطاولون في البنيان، ويرغبون في استرقاق المئات من الجواري الروميات، ذوات البشرة الشقراء.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ انظر: ياكوب باريون. ما الأيديولوجيا. ترجمة أسعد رزوق. عرض ومناقشة سعيد المصري. فصول. ع3. إبريل/ مايو/ يونيو 1985. ص165 ـ 166. وانظر: كريستوفر بتلر. التفكيك والتفسير والأيديولوجيا ودراسات أخرى. ترجمة وتقديم نهاد صليحة. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2000. ص67 ــ 68

2ـ انظر: ثائر ديب (مترجم). هومي. ك. بابا. موقع الثقافة. ط1. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. 2004. هامش صفحة78

3ـ جيل دولوز. التجريبية والذاتية. ترجمة أسامة الحاج. ط1. بيروت. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. 1999. ص57

4ـ جيل دولوز. المصدر السابق. ص52

5ـ فور ظهور النتائج الأولية للانتخابات التشريعية في الجزائر، حاملة معها أنباء الفوز الساحق للإسلاميين، صرح الشيخ عبد القادر حشاني ـ الرجل الثاني في جبهة الإنقاذ الإسلامية ـ بأن: لا ديموقراطية بعد اليوم. وقد سمعت في إحدى خطب الشيخ هنية بأن سقوط هذه الحكومة سوف يعني بأن لا حكومة بعدها.