العلاقة بين الحداثة والنصية

 

وعي الحاضر وحضور النص



  

نُشرت هذه المادة أول مرة بتاريخ النشر 25/1/2008


 

لا يقتضي الوعي بالحداثة تمرداً على طرق الإدراك القديمة فحسب، بل يفرض ـ إلى جانب ما سبق ـ البحث عن طرق وأدوات جديدة. لأن الحداثة إعادة نظر في الماضي، وإعادة قراءة للحاضر. وذلك لأن زاوية الرؤية التي ننظر منها إلى الماضي، هي التي ستحدد لنا مجال رؤية الحاضر، ووعينا به. ولنضرب لذلك مثلا من واقع الحال:


يرى فقهاء أهل السنة أن الخلاف الدموي، بين علي ومعاوية، يمكن له أن يكون خلافا بين نظرتين فلسفيتين (اجتهاد)؛ ومن ثم يقررون بأن لكل منهما أجراً.


ولئن أمكن لهذا (العقل السني) اعتبار علي أقرب إلى الحق، فإنه مصمم على أن معاوية صحابي مجتهد، له نصيب من الأجر كذلك. وعلى هذا فلعلي أجران: بصفته مجتهدا أصاب الحق. ولمعاوية أجر واحد: باعتبار اجتهاده وافق نتيجة غير صحيحة.


والآن، فلننظر كيف أثرت هذه الرؤية على الحاضر:


عندما قامت الحرب الأهلية بين المجاهدين الأفغان، غداة انسحاب القوات السوﭭيتية، كان على رأس كل فريق، من الفرق السنية المتنازعة، قائد يحمل شهادة الدكتوراه في الفقه والحديث. وكلنا يعلم أن كلا من (رباني) و(سياف) و(حكمتيار)، وأمثالهم، كانوا دكاترة شرعيين. فكيف تمكنوا من إطلاق النار على مدنهم وشعبهم ومواطنيهم وإخوانهم في الدين، لولا أنه كان قد وقر في قلب كل منهم أن له قدوة في علي ومعاوية؟!.


إن كلا من رباني وحكمتيار وسياف، نظر إلى نفسه باعتباره واحداً من اثنين:


1ـ مجتهد أصاب الحق، كعلي. فله أجران، ولن يحاسبه الله على أرواح المسلمين، التي أهلكتها مدافعه.


2ـ مجتهد أخطأه الحق كمعاوية (لاحظوا الصياغة السلفية: فالحق هو الذي أخطأ الطريق إلى الفقيه، وليس العكس) فهو مجتهد مخطئ، وله أجر واحد، وعلى هذا فلن يتحمل مسؤولية كل هؤلاء القتلى، الذين وقعوا تحت قذائف صواريخه.


وهنا في غزة، يمكن لك أن تسأل المجاهدين ـ الذين يطلقون النار على مخالفيهم ـ فيجيبونك بأحد قولين:


1ـ إما أن يصفوا المقتول بالكافر، لأنه مخالف لما يعلمونه من الدين، وفي هذه الحالة فأجر القاتل عند الله مضاعف، وقد يتضاعف عدد الحور العين المخصصة له هناك، جزاء كل هذا القتل الذريع.


2ـ وما أن يصفوا أنفسهم بأنهم اجتهدوا فأخطأوا، فهم مأجورون بقتلهم ولهم حسنات، وفي هذه الحالة، فبالمستطاع الاكتفاء بالقدر المقرر من الحور العين، دون زيادة.


هذه هي بعض نتائج أدوات الإدراك لدينا. ولذلك فنحن في أمس الحاجة للتمرد عليها. ولا يتأتى لنا هذا إلا بإعادة قراءة وعي الماضي، وإصدار الأحكام الجديدة بشأنه.


لا تقتضي أدوات الإدراك القديم تحكيما للنص، في كل مجالات الحياة فحسب؛ بل تفرض ـ إلى جانب ذلك ـ تحكيم طبقة من المفسرين النصيين، ذوي الوعي المتحجر، والقدرات العقلية المتواضعة، في حياة الفكر والناس وواقع الحياة المتجدد. وما ذاك إلا لأن زاوية رؤية هؤلاء للحياة، هي زاوية ثابتة قارة لا تتحول، بزعم أن محددها هو الله شخصياً.


إن الحداثة، في بيئتها الحقيقية، لم تولد هكذا من رحم اللاشيء، ولم تكن يوما معلقة في فراغ سديمي، من انعدام علاقات التطور الاقتصادي؛ بل ظلت على الدوام مرتبطة بتغيير أدوات الإنتاج المادية، في المجتمع. فتغيير أدوات الإنتاج، يغير علاقات المجتمع، ويستدعي أنماطا إنتاجية جديدة، ويبدع منتوجات لم تكن. مما يستدعي خطابا جديدا، بأدوات غير مسبوقة.


إن تغيير علاقات الإنتاج، معناه تغيير في طرق التفكير. وإن تغيير طرق التفكير، لن يقودنا إلى إعادة منهجة تصوراتنا الفلسفية فحسب؛ بل سيقودنا كذلك إلى إنتاج أنماط جمالية مختلفة عما كنا نفعل في السابق.


فأين هي علاقات الإنتاج المتطورة، في مجتمعاتنا، حتى يكون لدينا حداثة؟. أين هي تلك التجاذبات الدنيوية التي تنتجها، وتنتج معها أنماطا من الفكر الدنيوي؟. أم يمكن القول بأننا لا نزال مجرد مجتمعات صحراوية، وسائل الإنتاج فيها بسيطة، ولا تتعدى نهب ما هو موجود، ومقايضته بما لدى الآخرين، من وسائل متعة؟.


في ظل هذه النصية المفرطة، يقايض الحاكم ثروة البلد، بوسائل متعة، يمنح القليل منها لخدامه وجواريه، فيسبحون بحمده، ويدعون إلى طاعته، ويعممون النصوص المقررة وجوب هذه الطاعة، تخليداً لهذا النمط من الإنتاج، الذي لا يتزعزع ولا يحول.


وإذا كانت كل النصوص ـ التي يحفظها الفقهاء ـ لا تقود إلى تغيير هذه العلاقة؛ فإن لنا أن نقرر بالفعل، أن هذا النوع من الوعي، هو وعي مدرك عن طريق النص، لا عن طريق الحياة، وأن هذا النوع من الفقهاء هو مادة الـ(استقرار) الذي يطلبه الحاكم. وهذا الاستقرار بعينه هو ما يتسبب للحياة العربية بالركود والتكلس والضعف.


النصوص المدركة فقهيا تريد الاستقرار. والعقل يريد التحول. فمن مع نحن في هذا المكان المنكوب من العالم؟.


وإذا كان الوعي بالحداثة وعيا بالتاريخ. فلا يعقل إذن أن يُطلب من الحداثيين الالتزام بوعي مدرك عن طريق النص وحده. فلقد رأينا أن النصية فعل لاتاريخي، وأن النصيين قوم يتميزون بوعي غير قادر على التحرك خارج دائرة النصوص. ولذلك رأيناهم يختلقون نصوصا كلما احتاجوا إلى فهم واقعة جديدة.


ولقد يحضرني، في هذا المقام، قول أحد الدارسين للفقه الإسلامي، بأن فقهاءنا السابقين قد اجتهدوا لنا اجتهادات تكفينا، لاقتباس نصوصهم، وتنزيلها على وقائعنا المستقبلية، وحاجاتنا المتجددة. وقد استشهد (هذا النصي المتميز) بمسألة وردت في بعض كتب الفقه القديمة، حول حكم صلاة حامل قربة البول، صحة وعدماً. وبعد أن هز رأسه، بيقين من يعرف حقائق الأمور، حمد الله مطولا، وترحم على (هؤلاء السلف) الذين كفونا مؤونة البحث، بعد مئات السنين من وفاتهم!. وها نحن نرى ـ والقول ما زال لدارس الفقه ـ أنه قد جاء وقت الاستفادة من هذا (النص) وتنزيله على بعض حالات مرضى الكلى، الذين يضطرهم المرض إلى حمل قرب البول معهم، حيثما حلوا أو ارتحلوا... وعندما سألت النصي (الفقيه)، عن طبيعة هذا الحكم، الذي أصدره (السلف الصالح) بشأن قضايا (الخلف الكسالى)، هز رأسه وهو يقول بقناعة من رأى وجه الله: "لا تجوز صلاتهم طبعا، لأنهم يحملون النجاسة"!.


هكذا يلوك النصي الكلام، ليقرر منع حركة الحياة. وها هم (علماء السلف) قد قرروا لنا ـ منذ ما يزيد على ألف عام ـ أن صلاة مرضى الكلى، الحاملين لقرب البول، غير جائزة!. وها هم دارسو الفقه عندنا لا يجرؤون على نقض هذه (الفتوى/النص) لمجرد أنها من الماضي!. فكيف يمكن لهم أن يجتهدوا في مسائل أكثر صعوبة، وتقتضيها حياتنا المتجددة!.


ثم تراهم لا يسأمون من الادعاء بأنهم (أهل الحل والعقد) في الدولة الإسلامية القادمة!.


يا سلام!. أنا سيحكمني أمثال هؤلاء النصيين الجامدين الماضويين، لا لشيء، إلا لأنني مسلم وأخاف الله!. ألا ترون، أيها السادة، أن أمثال هؤلاء يدعون الناس إلى الكفر، في حقيقة الأمر لا إلى دين الله السمح؟!. ألا توافقون معي على أن هؤلاء ـ بأعيانهم وسماتهم وهيئاتهم وأعمالهم ـ هم من وصفهم النص القرآني بأنهم "فِتْنَة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِين" سورة يونس/85. أليسوا هؤلاء هم من سيحتج بوجودهم في الكون، كل رافض للإسلام، باعتبارهم فاقدي الأهلية القانونية للتصرف في أنفسهم، فضلاً عن التصرف في الآخرين؟!.


وفي مواجهة هذه النصية المتأسلفة، يبزغ لنا الوجه الآخر للمسألة: الوجه الحداثي المتمغرب. ولئن كان النصي مغرما بالنقل، وقول (قالوا)؛ فإن الحداثي مفتون برفض كل ما قيل، إلى درجة تهدد بانخلاعه من الجذور.


إن الإغراق في النصية عيب بالفعل. ولكن الإغراق المقابل في التاريخية عيب كذلك.


إن التاريخية مجرد وعي بالزمن. ولئن كان الوعي بالزمن شرطا للتقدم الحضاري، فلقد لا يكون كذلك، عندما يتعلق الأمر بالهوية الوطنية. إذ لا يمكن لنا الزعم بأن الوعي بالزمن هو الذي ينتج هوية الفرد والأمة وثقافتهما. فنحن نعلم بأن الثقافة والهوية منتجان لازمنيان، أو لادنيويان، لأنهما ما نشعر أننا نستحقه، أو ما نظن أننا نمثله؛ لا ما نحن عليه بالفعل. وهذا الشعور لا يمكن له أن يكون خليق أدوات الإنتاج، خصوصا بعد كل تلك الاكتشافات العظيمة في علم النفس التحليلي، التي ترجح أن مثل هذا الشعور منغرس في اللاوعي، منذ ما لا يعلم أحد متى.


إن الإقرار البارد بواقعية ما نحن عليه بالفعل، هو منتج تاريخي حقا، صاغته علاقات القوة. ولكن هناك أشواقا روحية لامادية، نشعر أنها تحضنا على التحقق، وتدفعنا إلى رفض الاستمرار بإقرار ما نحن عليه، وصولا إلى ما نتصور أننا نستحقه. إن علاقات القوة وحدها لم تستطع، حتى الآن، أن تفرض على وعينا الجمعي، القبول بما كان على أنه واقع قار ومستمر، ولا يُستطاع تجاوزه. بل ربما يمكن الزعم بأنها خلقت فينا الكثير من الإصرار، والكثير من التمرد.


وأخيراً يمكن إجمال الخلاصة فيما يلي:


يمكن وصف الحداثة ـ من جانب ـ بأنها حالة من الإقرار بحدوث ما حدث، والتصميم على التواؤم مع ما حدث. في مقابل النصية، التي تقف على العكس من كل ذلك. ومن هنا أمكن لنا تفسير كيف رأينا النصيين في كثير من الحالات ثوارا. لأن الثورة ـ في أفضل وصف لها ـ هي ضرب من الجنون. والجنون فعل لا يحسنه الحداثيون، بأدوات قياسهم الباردة. ومن هذه الزاوية يمكن نعت الحداثة بكل النعوت السلبية، وإضفاء كل النعوت الإيجابية على النصية.


ومن جانب آخر، يمكن نعت الحداثة بأنها رفض للانقياد الأعمى للنصوص، ودعوة للحوار العقلي الهادف إلى تحكيم العقل. في مواجهة النصية، التي كثيرا ما رفضت الاعتراف للعقل بأية سلطة خارج النص. ومن هذه الزاوية يمكن نعت النصية بكل النعوت السلبية، وإضفاء كل النعوت الإيجابية على الحداثة.


ما أود قوله هنا أن الحداثة ليست شرا مطلقا، بالضبط كما أن النصية ليست خيرا مطلقاً. فنحن في حاجة ماسة إلى الكثير من العقلانية وآليات التجديد، في مواجهة حركة الزمن. وهذا ما يوفره وعي حداثي ملتزم. كما أننا في حاجة مماثلة إلى بيت متين نلجأ إليه، ونحقق فيه ذواتنا. وهذا ما توفره نصية معتدلة واعية بالدنيا.