لا يمكن أن يأمر رسول الله بالغدر


حول ما قيل من غدر محمد بن مسلمة 


بصديقه كعب بن الأشرف



يسألني بعض الأصدقاء عن مدى صحة ما يروى من أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أذن لأحد أصحابه أن يغدر بأخيه من الرضاعة، فيؤمنه بدعوته ليلا، فينزل إليه واثقا كونه اخاه، فيقتله غدراً، مستغلا أخوة الرضاعة.


فأقول متوكلا على الله:


يقدم لنا ابن إسحق هذه الرواية بالسند التالي:


حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن لي بابن الأشرف؟ فقال له محمد بن مَسلمة: أنا لك به يا رسول الله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك. فقال: يا رسول الله، إنه لابد لنا من أن نقول؛ قال: قولوا ما بدا لكم، فأنت في حلٍ من ذلك. فخرج خمسة نفر، هم: محمد بن مسلمة، وأبو نائلة ـ وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة ـ وعباد بن بشر، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر. حتى بلغوا حصن كعب فهتف به أخوه من الرضاعة أبو نائلة أن ينزل. فهم كعب بالنزول إليهم من حصنه، لكن زوجته أمسكت به تحذره قائلة: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينــزلون في هذه الساعة. فرد عليها بفروسية: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائماً لما أيقظني. فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. فرد عليها بفروسة أقوى: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب. فخرج إليهم فاجتمعوا على قتله فلم يقدروا عليه إلا بعد كفاح عنيف منه وقد جرح بعضهم.


أولاً: نقد السند:


يعاني هذا السند من النتوءات الآتية:


1ـ نكارة ابن إسحق. فمعروف تضعيف المحدثين لروايته، خصوصا حين تخالف من هو اوثق منه.


2ـ الإرسال: فهذه رواية منقطعة، فعبد الله بن المغيث بن أبي بردة، ليس صحابيا بل ليس تابعياً. مما يعني أنه قد سقط من السند راويان على الأقل: صحابي وتابعي.


ثانياً: نقد المتن:


هذه الرواية على علاتها تشير إلى الاتي:


1ـ فروسية منقطعة النظير من كعب بن الأشرف اليهودي.


2ـ غدر منقطع النظير من أبي نائلة الصحابي الخارج في مهمة تطوعية.


3ـ موافقة من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا الغدر وقطع الأرحام.


4ـ الخوف الشديد لدى خمسة من الرجال من رجل واحد. معه  أنهم هم من طلب أن توكل إليهم المهمة.


والصحيح أن هذا الحديث بهذا النص منكر ومردود.


إذ لا يمكن التصديق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن بالغدر. ودعوني أذكركم بأن الذي طلب الإذن، بقتل كعب، كان محمد بن مسلمة، لا أبا نائلة، أخا كعب في الرضاعة.


فظاهر النص لا يتطرق إلى أن خروج الآخرين مع محمد بن مسلمة، كان بمعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجهم مع محمد بن مسلمة ـ كما تروي رواية ضعيفة عن ابن عباس ـ فليس ذلك دليلا على أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعلم أن أحد الخارجين لمهمة قتل، كان أخا من الرضاعة للمستهدف بالقتل.


ونحن الان ننقل النص الأقرب إلى القبول لدينا:


وهو ما رواه البخاري في مواضع ثلاثة من صحيحه:


الرواية الأولى:


باب: رهن السلاح.


حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان: قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال محمد بن مسلمة: أنا. فأتاه فقال: أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. فقال: ارهنوني نساءكم. قال: كيف نرهنك نساءنا، وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهن أبناءنا، فيسب أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا. ولكنا نرهنك اللأمة - قال سفيان: يعني السلاح - فوعده أن يأتيه. فقتلوه. ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه.


الرواية الثانية:


باب الكذب في الحرب.


حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا سفيان، عن عمرو، بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله؟. قال محمد بن سلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأتاه: فقال: إن هذا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قد عنانا وسألنا الصدقة، قال: وأيضا، والله لتملنه، قال: فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه، حتى ننظر إلى ما يصير أمره، قال: فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله.


الرواية الثالثة:


باب الفتك بأهل الحرب.


حدثني عبد الله بن محمد: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لكعب بن الأشرف؟. فقال: محمد ابن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فأذن لي فأقول، قال: قد فعلت.


انتهت رواية البخاري.


فأقول:


إن كل ما يمكن أن يقال هنا: إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أذن لمحمد بن مسلمة بأن يكذب، فيدعي الكفر بالرسول، ليأمن له الخصم.


وهذا من باب الخديعة في الحرب.


مع العلم بأن محمد بن مسلمة لم يكن أخاً لكعب من الرضاعة.


أي أنه لم يؤمنه برحمه، ثم غدر به.


هذا والله أعلم