أحمد دحبور



 

رواية قفص لكل الطيور


فضاء لطيور خضر محجز




الحياة الجديدة. رام الله. 27/8/1997


 

كنت ولا أزال أرجئ اشتباكي ـ أو عناقي ـ مع الأدب الفلسطيني، المنشور في الجزء المتاح لنا من فلسطين، هذه الأيام. ولا أدري أكان ذلك تعبيراً عن رغبة خاصة بي، في الإبقاء على مسافة موضوعية، تتيح لي أن أتملى نتاجنا الوطني، بما يمكنني من وضع تصور للمشهد الثقافي الفلسطيني الراهن؛ أم كان ذلك لغاية في نفس يعقوب، ونفسي معاً. إلا أن المفاجأة التي أبرزها الشيخ الشاعر خضر محجز، بروايته البكر "قفص لكل الطيور" قد هيجت غدة الفضول عندي، بما يكفي لهتك تلك المسافة المدعاة: فما أنا إلا من غُزَيّة، وإن كنت ألزم نفسي، قدر الإمكان، بألا أغي، ولا أرشد، إلا بما يحاذي بوصلة رؤيتي، ومرآة فهمي البسيط للعملية الإبداعية.


والشيخ خضر، كما أفترض، معروف للوسط الثقافي والسياسي في بلادنا. وهو مولود في "الجية" القريبة من عام1954. أصدر منذ فترة مجموعة شعرية بعنوان "اشتعالات على حافة الأرض"، وله تاريخ وطني حافل: فقد كان من نشيطي حماس، ومن المبعدين إلى مرج الزهور، خلا عن تعرضه للاعتقال غير مرة. وهو الآن على رأس حزب الاتحاد الوطني الإسلامي. وإلى ذلك فهو مدير في وزارة الثقافة، يعمل على تأسيس دائرة خاصة بالتراث والمخطوطات التاريخية.


فما الذي يحمل شاعراً، في أوج اندفاعه الشعري، على كتابة رواية؟. أهي النظرية القائلة إن كل من يتعاطى أحد أنواع الكتابة مرشح لكتابة رواية واحدة، على الأقل، هي ـ على الأغلب ـ مستمدة من تجربته الشخصية؟. إذا كنا سنسلم بهذه النظرية، فقد لا نضمن أن "قفص لكل الطيور" ستكون الرواية الوحيدة لخضر محجز؛ حيث فتح أقواساً، لا يمكن إغلاقها بعمل واحد؛ فضلاً عما تثيره من شهية القص، من غير أن يكون ذلك نوعاً من رواية المذكرات الشخصية. وما دام قد اختار الجنس الروائي وعاءً لما يكتب، فقد استقلت الشخصيات والحوادث عنه، لتكون ملك هذا النسيج الجديد، وبمادة جديدة، لا يملك قارئه ـ حتى يحكم عليها ـ إلا أن يراقب امتثالها للشرط الروائي، أو خروجها عليه. من هنا علينا أن نفهم العنوان الطريف، الذي وضعه لما يشبه الفصل أو المقدمة، للتعريف بشخصيات العمل، وهو: "هؤلاء تسللوا إلى الرواية ولم يتركوا شيئاً" بمعنى أنها دعوة ـ ولو مؤقتة ـ إلى القارئ ليتعامل مع الشخصيات، بمعزل عما قد يظنه علاقة بينها وبين الكاتب. وليس في ذلك تنصل من الرسالة العامة للعمل، إذ هي في النهاية رواية راوٍ ذي رؤيا محددة واختيار لا يخفى.


بعيداً عن الحياد:


يمكن تلخيص أحداث "قفص لكل الطيور" ببضع كلمات. ولكن أي عرض لها لن يغني عن قراءتها: بمعنى أنها عمل يستمد ثراءه لا من تراكم الحوادث أو نموها، مما نعرفه في الروايات المألوفة؛ بل من تقاطع الخطوط والزوايا، ذاتية وموضوعية، في عقدة مواصلات هذا العمل، أعني داخل شخصية صابر، البطل والراوي معاً، بذاكرته وواقعه وحدسه، فضلاً عن ملاحظاته وتخميناته واقتناعاته التي يصهرها جميعاً في بوتقة رؤياه البسيطة والمتوترة، فإذا بالرواية مستوى عمودي يسبر شخصيات ذات أمزجة ومصالح وخلفيات مختلفة، ويتقاطع مع مستوى أفقي يعرض لواقع قطاع غزة، تحت الاحتلال في بدايات التسعينات، مع ذهاب الذكريات إلى ما يخدم رؤية الواقع في ذلك الوقت.


ثمة أفراد من جيش الاحتلال يقتادون صابراً إلى السجن. وهو لا يكتم عن قرائه أنه "متورط" في النشاط الوطني. لكن ظروف الاعتقال، والانتقال من زنزانة إلى سجن إلى محكمة، إلى انتظار الترحيل، ليست إلا تعلة ليقص على القراء وقائع معاناة المعتقلين، ورؤيته ـ القاسية أحياناً ـ لدخائل كثيرين منهم، غير متعفف عن كشف حقيقة وجود بعض المتعاملين مع الاحتلال. إلا أننا لو اكتفينا بهذا التلخيص المخل حتى الفضيحة، لما كان لنا حق الاطلاع على الرواية: فالشخصيات ـ وصابر تحديداً ـ هي أوعية زمانية ومكانية متنقلة، نظراً لما تستحضره من وقائع، وما تشهد عليه أو تتوقعه، من مخاطر ومساحات، لصراعات مركبة بين المواطنين والاحتلال، من جهة، وبين أصحاب هذا الاختيار من المختلفين معهم في هذا الاختيار، من جهة ثانية؛ بل بين أصحاب الاتجاه الواحد، من جهة ثالثة، وقد ذهبت المصالح ـ أو إدارة الاتجاه وفق المصالح ـ بكل منهم، في تيار. وإذا كان الشيخ خضر يدير الوقائع من وجهة نظر صابر ـ إلا نادراً ـ فهو أولاً وأخيراً يكتب رواية، لا تاريخاً. ومن حق الرواية أن تحمل رأياً، وإن كان من حق القارئ أن يمحص موضوعية الراوي، فينحاز إليه أو يحاسبه، حسب الفرص التي يتيحها النص للشخصيات المتعاقبة: أي حسب قدرة إقناع القارئ بأن هذه شخصيات روائية غير مفتعلة.


وعلينا أن نقر مباشرة بأن رواية خضر محجز غير محايدة، فهي ضد الاحتلال: سجناً ومحكمة وجيشاً وسياسة. وبما أنه من الاستحالة ـ بل من البجاحة ـ أن نطالبه بأن يكون غير ذلك؛ فإننا نكتفي بألا يقدم شخصيات الاحتلال بصورة كاريكاتورية، مما يعطي الطابع الساذج لثأر المغلوب على أمره. والواقع أن الشيخ قد تفنن ـ حتى مشارف السادية ـ بتصوير قسوة المحتلين، لكنه لم يقع في غواية الكاريكاتور، ولا التشفي السطحي، حتى لو جعل أحد الجلادين شاذاً جنسياً، وجعل آخر قبيح الهيئة أو معقداً من شكله. ولكن علينا أن نقر ـ من جهة ثانية ـ بأن الرواية غير محايدة، في عرضها لشخصيات المعتقلين، أو الفلسطينيين عموما. وهنا لا نضمن أنه لم يعمد إلى الكيد الكاريكاتوري، كما فعل مع شخصية "لعبوط لعبوط لعبوط" مثلاً، ابتداءً بالاسم الساخر، وانتهاءً بتنكيل الكاتب به، عندما قرر أنه "الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد، حسب دارون". لكن الأمانة تلزمنا بالإشارة، إلى أن نزعة الكاتب الساخرة، تهون من شأن التنكيل والكاريكاتور؛ لأن القارئ لا يضمن عدم سخرية صابر حتى من نفسه. وهذا مستوى آخر من هذه الشخصية العجيبة؛ فبقدر ما هي مليئة بالنبالة والإيمان وحس الاستشهاد، فإن مرارة ما ترى، تحملها على نوع من الحيطة، وعدم تسليم الثقة بسهولة، لأي كان؛ فلكل شخصية نصيبها من نقاط الضعف، أو من الوقوع تحت طائلة السخرية، وهو ـ بمعنى ما ـ أمر لصالح العمل، من حيث أن البشر هنا هم لحم ودم، وليسوا أفكاراً تحمل أسماءً وبطاقات تعريف.


جبهات الصراع:


أما وقد فتح الشيخ ناره،  من "قفص لكل الطيور"، على الاحتلال، وعلى ما يراه صابر من أخطاء في الصف الوطني (ويمكن أن نضيف بخطوط غامقة: وعلى الفقر) وترك للنار أن تلبس لبوس السخرية حيناً، وتسجيل الملاحظات حيناً آخر؛ فإن كون الرواية رواية شخصيات أساساً، جعل لكل جبهة شخصيات تتكفل بتقديم المشهد الملائم: فأبو هاني، وذو الرأس المنكوش، وجاك، والضابط (من غير تعريف)، هم رموز للقسوة والجلافة وانعدام الرأفة، مع توزيع للأدوار فيما بينهم. أما القاضي الصهيوني، فإن حساباته بينه وبين نفسه تكشف وعي المحتلين لما يفعلون، وتتصيد ما يرسمون للمعتقلين، وللوطن عموماً. أما عندما يفتح صابر ملف هؤلاء الأعداء، فإنه يقع في أكثر فصول الرواية ارتباكاً، وذلك بانتشار أفكاره على خطين نقيضين: الأول هو موقفه السياسي (الوطني أو الديني) فهو لا يضمر لليهود عداوة بما هم يهود، بل يشهر العداء حتى الصراع الدموي ضد الاحتلال البغيض. ولكن الخط النقيض هو الانتقال لتفنيد أفكار اليهودية مرة واحدة، بما يجعل من موقفه الأول مجرد شعار. وهو لم يقف عند هذا الحد، بل أعطى التفنيد جانباً "توثيقياً"، عندما أوضح صابر قراءته للتوراة، بأنها افتراءات، من اليهود المعاصرين، على بعض الأنبياء، مثل لوط وداود وسليمان. ولكنه "نسي"، على ما يبدو، هذه القراءة، عندما أعاد الاعتبار إلى التوراة، بوصفها وثيقة معتمدة، وذلك من خلال الفقرات التي تدين اليهود أنفسهم. إن هذا الفصل النابي، إضافة إلى ارتباكه الملحوظ، يحرج الخطاب الروائي، بنزعته التقريرية، التي تتنازل عن تقديم الموقف من خلال الشخصيات؛ بل تلجأ إلى الكتابة النظرية، التي يمكن أن تندس في أي كتاب غير الرواية، أو حتى في موعظة دينية.


أما الجبهة الثانية التي تفتحها الرواية، فهي على الشخصيات الانتهازية والمتسلقة والمشعوذة. وهنا يمشي صابر على شعرة دقيقة خطيرة؛ فهو مؤمن متدين، ولهذا فهو لا يخشى مواجهة المتسترين بستار الدين، فالله ليس حكراً على أحد، والتأويل ليس مقصوراً على أحد؛ بل إن من حق صابر، وغير صابر، أن يرفضوا ـ وحتى أن يسخروا ـ من التأويلات و"الفتاوى" التي تتناقض مع العقل، وهي بطبيعة الحال غير ملزمة للمتدينين المتنورين. بل إن صابراً يذهب إلى أبعد من ذلك، عندما يهتك الستار عن ثراء مفاجئ، لبعض هؤلاء المتسترين بلبوس الدين، ويسخر بمرارة وألم من تخريجاتهم، التي توفر لهم الأمان والبحبوحة، على حساب المناضلين البسطاء. ثم إنه لا ينكر صمود بعض هذه النماذج، ولكنه يضيق ذرعاً بضيق أفقها، وعدم تعاملها بدراية مع التحديات، التي يمثلها الاحتلال. ولكنه لا يوفر نماذج انتهازية من طبيعة مختلفة، كالمحامي "الكلش"، بأدائه البراغماتي المتمثل في المساومة، داخل المحكمة، على سنوات السجن التي سيحكم بها القاضي الصهيوني.


أما ظروف الفقر التي فتحت رواية خضر محجز مختلف أشكال النار عليها، فهي ساحة توثيق وسخرية، كالعادة، وفرصة لإشهار بطولة شعب عرف كيف يقاوم وينتزع لقمة عيشه، من خلال شخصيات نابضة بالحياة نراها يومياً، من غير أن نفطن إلى عبقريتها الفطرية، في مواجهة عوامل الانقراض بالصبر والتدبر، بالاشتباك الساخن، وبمهمة "صنع الأطفال"، كما هو الأمر في أول فصول الرواية، وربما أجملها.. وقد كانت لحظة درامية عالية، أن يتبع فصل المطر والسيل وغرق البيت، بفصل دخول جنود الاحتلال واعتقال صابر، الصابر والشاعر؛ فكأنما النسيج الروائي يتواطأ مع صابر، بتصوير تحالف الاحتلال وقسوة الطبيعة، على المخيم، مع أن التصدير القرآني يعزي المؤمنين "الصابرين" ويفرد لهم مكاناً ومكانة بين "من رحم ربك".


هذه الرواية:


"قفص لكل الطيور" رواية محيرة، بالمدرسة التي تنتمي إليها: فقد يحق للقارئ أن ينسبها إلى ما يطلق عليه النقاد في الغرب صفة (Naive)، لما فيها من بدائية وحشية محببة، حيث لا حذر ولا تردد في زج أي مشهد، أو استدعاء أي حدث أو شخصية. وحيث الحوار يستطرد ويتشعب كما هو في الحياة اليومية، بلهجته العامية، وألفاظه السوقية العارية، التي ندر أن نراها محتشدة في رواية عربية، كما هي في هذه الرواية. ثم إن الأسماء المعروفة واقعياً تجد مكاناً لها، لا على سبيل التوثيق، بل لورودها على لسان هذه الشخصية أو تلك؛ حتى أننا لو تعاملنا معها خارج سياق البدائية الوحشية هذه، لوقعنا في إشكالٍ، من نوع مديح إحدى الشخصيات لـ"يوسي سريد"، وهو ما لا يمكن أن يقره الكاتب. ولكنه شعر أن كلاماً كهذا يمكن أن يرد في حوار عادي، فسجله. وفي هذا السياق يمكن أن يوضع الفصل الذي أشرنا إليه، والخاص برؤية صابر لليهود. بل إن مثل هذا الفصل، الذي وصفناه بالنابي، يمكن أن يعطي نكهة وحشية ـ لا بمعنى: الشراسة والعدوانية. بل بمعنى: الفطرة ـ بحيث نستطيع تقبله كلون من ألوان الطيف الروائي المتموج، مستوياته المتعددة.


ومع ذلك، ومع ما في كلمة (Naive) من إخبار عن سذاجة ما، فمن الصعب أن يوصف هذا العمل بأنه بسيط، فالكاتب يعرف كيف يمكر ويتدبر: إنه ينشئ عمله على مبدأ الفصول المستقلة، بل إنه يعطي كل فصل عنواناً مستقلاً وتصديراً خاصاً. وعناوين الفصول ـ من نوع "صابر يؤجل البحث في أسطول البحر الأسود"، أو "حسن يؤجل حب زوجته إلى يوم القيامة"، أو "صابر يقرر أن يبلط أبو جميل البحر" ـ تذكرنا بالعناوين الماكرة لأساطين الإبداع الحكائي، من "ثرفانتس" الأسباني، إلى "بريخت" الألماني، مروراً بـ"جوناثان سويفت" الإنجليزي، و"فولتير" الفرنسي. أما التصديرات ـ التي قد تكون حكمة تاريخية، أو جملة دينية، أو مقطعاً من قصيدة من المقرر أن يكتبها صابر فيما بعد ـ فهي قد تناسب واقع الحال، وقد لا تناسبه تماماً. ولكن وظيفتها أن تضفي على العمل جواً شعبياً، وأن تنشئ ألفة مع القارئ، الذي يروق له أن تتكسر جهامة الصفحات الثماني والسبعين بعد الثلاثمئة، في غضون فصول روائية منفصلة ومتصلة في آن واحد. وهي فصول مقسمة موضوعياً على ثلاث وحدات: وحدة السرد العامة، حيث نقرأ ما جرى لصابر، ولمن عايشهم صابر أو يتذكرهم؛ ووحدة التصنيف، حيث رسم صابر لزوجته، وللقراء بالتالي، من خلال رسائله الخمس، "بورتريهات" لشخصيات السجن، بأعمارها وأمزجتها المختلفة. ويأخذه الاستطراد أحياناً، فينسى أنه يخاطب زوجته، فيبدو كمن يكتب يومياته لنفسه، بدليل أنه قد يستخدم صيغة المخاطب المذكر، مع أن الرسالة تخاطب زوجته عزيزة، ووحدة التوثيق حيث يعرض وقائع خمس جلسات في المحكمة العسكرية. وبما أنه يتحرك في حيز زمني معروف لقارئه الفلسطيني المباشر، فهو غير قلق من عدم وضوح نهاية الرواية؛ فالقارئ/المواطن يعرف ما جرى للمعتقلين، من خلال الأحداث الواقعية التي تلت أحداث الرواية، إضافة إلى أن الكاتب قد يدخر بقية الأحداث لرواية لاحقة. من يدري؟.


النزعة الطبيعية:


بموازاة البدائية الوحشية ـ وفي خدمتها ـ تحكم الروايةَ، من بدايتها إلى خاتمتها غير المنتهية، نزعةٌ طبيعيةٌ صارخة (Naturalism)، حيث يدخل الكاتب في صميم البشع والمقزز، فيفرزه بمشرط لا يرحم. وهو ما يفسر تلك الغابة من الألفاظ العارية المباشرة، واستخدامها من غير مواربة، أو تلك المتابعة المضنية لظروف القذارة، والروائح الفظيعة، والشتائم التي قد يتعفف حتى ابن الشارع عن سماعها. والكاتب إذ يراقب هذه الوقائع والمناخات غير الإنسانية، فإنه يسجلها حيث يراها: هناك مثلاً الجلاد الصهيوني "أبو النمر" الذي يستقبل المعتقلين بكلمات من تحت الزنار، وبوعيد من نوع "أنا ما باستقبل اعترافات. أنا فقط أضرب وأضرب وأضرب: أشويك على نار هادئة. بعد ما أشويك، إلك الحق أن تعترف، لكن مش عندي...". ولكن إذا كان هذا متوقعاً من جلاد، فإن الألفاظ "الدسمة" جاهزة على ألسنة أبناء المخيمات، الذين يضربون الجنود بقنابل من البراز ـ الكاتب يستخدم الكلمة الشعبية إياها مباشرة ـ وحتى أحد المتمشيخين نراه يشتم خصومه بالكلمات العارية المباشرة. وليست هذه هي علامة النزعة الطبيعية الوحيدة؛ بل إن الشيخ يذهب إلى تقصي عوامل الضعف والوهن، سواء أكانت في الجسد البشري (كحاجة المعتقل إلى التغوط في دورة المياه) أم في النفس البشرية، حيث تدور الأفكار الأمارة بالسوء. ولقد أسهب صابر ـ برسائله الخمس إلى عزيزة ـ في اصطياد نقاط الضعف عند زملائه المعتقلين، حتى ليكاد القارئ يتساءل عن الشخصية المضيئة في هذه الملحمة. وللإنصاف والحق، فإننا نجد هذه الشخصيات النبيلة، أو ما يبرز فيها من إشارات، تؤكد أن هؤلاء الناس هم ملح الأرض، ووارثوها الشرعيون.


هل صفى الشيخ خضر محجز  حسابات شخصية في روايته هذه؟. هل أدلى بشهادة عن مرحلة نوعية من تجربة؟. هل ظلم أحداً أو أعطى أحداً فوق مما يستحق؟. ليست هذه هي الأسئلة المجدية للحوار مع عمل أدبي، نفترض أنه مرآة لواقع شديد الوطأة والقسوة، وليس سطح مرآة يرمز الكاتب من خلاله للشخصية الفلانية، المعروفة بالشخصية العلانية الروائية. وإذا كان قلمه السليط لم يرحم أحداً، فإنه لم يرحم صابراً نفسه، وهو ضميره وحامل رسالته.


من أراد أن يأخذ من هذه الرواية مكافأة سطحية ـ سياسية أو ما أشبه ـ فإن الشيخ في "قفص لكل الطيور" لن يرضي أحداً. ومن أراد أن يذهب إلى هذه الرواية على طرق سالكة وآمنة، فهذه رواية وحشية خشنة مكتظة بالألفاظ السوقية، ولكنها من جهة ثانية تعوم على نهر من المشاعر الإنسانية الرقيقة والحنان العذب.


وإذ زوجت هذه الرواية بين البدائية والطبيعية، وأتت غاية في الشراسة والبوح الحميم ـ بكشف المستور والمسكوت عنه ـ لتعطي هذه النتيجة المتمتعة بقدر عال من الفرادة؛ فقد أتوجه إلى الشيخ خضر محجز بسؤال بريء، عما إذا كان يعرف أنه كتب رواية لن يكتبها سواه، في المدى المنظور؟. هل يملك الجرأة على إعادة التجربة؟..


من القلب والعقل معاً: ألف مبروك يا أبا حذيفة.