علي الخليلي



 


مع رواية "اقتلوني ومالكاً" لخضر محجز


أموت فلا تقبلني أرض ولا تبكي عليّ سماء... إن نسيتُ



الأيام. رام الله. 3/8/2006


  

ليس من السهل على القارئ العادي أن يفهم معنى "اقتلوني ومالكاً" الذي اختاره الروائي خضر محجز عنواناً لروايته الصادرة في العام 1998 عن وزارة الثقافة في غزة. فمن هو مالك؟ ومن الصارخ بمطلب القتل معه؟ ولماذا؟.


لابدّ من العودة الى التراث العربي الإسلامي للرد على هذه الأسئلة، وعلى كثير غيرها ينشأ متدرجاً في السياق، وصولاً الى فهم معنى هذا العنوان: دون أن يعني أن هذا الفهم يشتمل تلقائياً، وبطريقة ميكانيكية، على فهم نص الرواية ذاتها. ثمة مسافة بين العنوان والنص، تفتح المجال أمام المخيلة الروائية للإيحاء وتفعيل الرمز، وهي مسافة فنية لا تفصل بينهما، إلا لتؤكد على توافق الخيوط المتداخلة لنسيجهما الواحد، في السرد.


والواقع، أنه فور الدخول الى رحاب هذه الرواية، يكتشف الداخل القارئ لها، لأول وهلة، أن السرد المتدفّق بحداثته وأمكنته وأزمنته المعاصرة، لا علاقة له بهذا التراث القديم. ثمّ يتعمقّ الاكتشاف "الفهم العميق" لاحقاً، بوجود هذا التراث نفسه في كل سطر.


معنى العنوان:


يأخذ العنوان معناه، من أحد مشاهد الصراع الدامي في التاريخ الاسلامي. وبالتحديد من "معركة الجمل" سنة 36 هـ. نقرأ: "وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة. فكان لا يأخذ الراية ولا بخطام الجمل، إلا شجاع معروف، فيقتل من قصده، ثم يُقتل بعد ذلك... ثم تقدّم عبد الله بن الزبير فأخذ بخطام الجمل، وهو لا يتكلم، فقيل لعائشة إنه ابنك، ابن اختك! فقالت: واثكل أسماء! وجاء مالك ابن الحارث "الأشتر النخعي"، فاقتتلا، فضربه الأشتر على رأسه، فجرحه جرحاً شديداً. وضربه عبد الله ضربة خفيفة. ثم اعتنقا، وسقطا إلى الارض يعتركان، فجعل عبد الله بن الزبير يقول: اقتلوني ومالكاً، واقتلوا مالكاً معي. فجعل الناس لا يعرفون مالكاً من هو، وإنما هو معروف بالأشتر، فحمل أصحاب علي وعائشة، فخلصوهما...".


هذا في التاريخ القديم. أما في السرد، فإن السارد غسان "أحد أشخاص الرواية" الذي تنتزعه القوات الاسرائيلية من بيته في مخيم جباليا، من بين ذراعي ابنته التي سمّاها "يافا" تيمناً بثبات الذاكرة على اسم مدينته الاصلية، وتدفع به الى المعتقل الصحراوي في النقب، يتمنّى لو أن الصواريخ العربية تدكّ اسرائيل دكاً، فتدمّر مفاعل "ديمونا" النووي، وتقتل الاسرائيليين والفلسطينيين معاً! يصرخ غسان "لنسترح من هذا البلاء، بأي ثمن. اقتلوني ومالكاً، واقتلوا مالكاً معي".


مالك في هذا المعنى، رمز للإسرائيليين. وعبد الله بن الزبير رمز للفلسطينيين. وللخلاص من مالك "الإسرائيليين"، لا بأس من أن يموت الفلسطينيون أيضاً، إن كان هذا الموت هو الطريق الوحيد للخلاص!.


صرخة تراجيدية الى حد مفزع. والأشدّ فزعاً من هذا كله، أنها تستلهم قوتها أو "رؤيتها" من التراث/ الصراع في التاريخ الاسلامي، حتى كأنّ الصراع العربي الإسرائيلي امتداد لبعض مشاهد هذا التراث؟! كيف؟ الكيفية في المعنى، هي التراجيديا ذاتها. فطالما أن الفلسطينيين والإسرائيليين "مشتبكون" معاً، أو "متعانقون" في القتال، على أرض واحدة، فلتنطلق الصواريخ العربية المدمّرة، وتقتلهم معاً! السارد الفلسطيني بهذا المعنى، يضحّي بنفسه، من أجل نصر عربي مبين على إسرائيل. فلا إسرائيل بعد، وإنما هي فلسطين العربية، حتى بعدم وجود شعب فلسطين، إن الوجود الأهم، هو وجود العروبة والاسلام في فلسطين!.


السرد في المعنى:


تبدأ الرواية بنكبة العام 1948، وهجرة أو تهجير إحدى العائلات الفلسطينية من قرية الجيّة "قضاء غزة" الى مدينة غزة نفسها، لتقيم في مخيم الرمال، ثم مخيم جباليا، ولأننا نعرف أن جذور المؤلف خضر محجز تعود الى "الجية"، وأنه ولد في العام 1952، في مخيم الرمال، وترعرع في مخيم جباليا، فإننا نحس في السرد، بأمكنته وأزمنته، ما يمكن أو ما يشبه أن يكون مقاطع وملامح لسيرته الذاتية، ويعزز هذا الإحساسُ مزيداً من قدرتنا على الفهم، وعلى الانفتاح غير المحدود في استلهام التاريخ.


"صابر" أبرز اشخاص الرواية، هو المؤلف نفسه. وهو محور السرد. نقرأ: "لم يكن باستطاعة صابر أن يولد في الجيّة، لأنه كان يجب أن تقع النكبة، وتضيع الجية، ويهاجر أبواه ليلتقيا في مخيم الرمال ويتزوجا عام الثلجة، ويتأخر قدوم صابر عامين، حتى تبلغ أمه سن الإنجاب، الى آخر ليلة من ليالي كانون، الذي سوف يصبح له مع صابر قصة طويلة، في خيمة براشوت "مظلة" من مخلفات الحرب العالمية الثانية، التي أعادت ترتيب الامور والمناطق في العالم، بحيث صارت فلسطين من نصيب اليهود، وصارت المظلات من نصيب الفلسطينيين...".


يكبر صابر وينضج ويتعلم ويتزوج ويشارك في الانتفاضة الاولى، ليقضي سنوات من عمره في سجون ومعتقلات إسرائيل. ولكن السرد، حتى وهو محوره لا يتوقف عنده بل يطوف كثيراً، بين عشرات الأشخاص في الرواية. وهم جميعهم دون استثناء، أشخاص مناضلون مأسورون وراء القضبان، يمكن الى ذلك، القول إن السرد في المعنى، هو سرد بطولة الاعتقال، من صابر الى غسان، الى بقية "الاخوة والرفاق والمجاهدين". ولا ينسى السارد أن يشرح لنا أن مفردة "الأخوة" خاصة بالفتحاويين، و"الرفاق" تعبير يساري مسجل للجبهة الشعبية والديمقراطية ومن على شاكلتهم. أما "المجاهدون" فلا يعني الا حماساً والجهاد الاسلامي. وهو شرح تفرضه ثقافة الاعتقال.


يتحرك "الاخوة والرفاق والمجاهدون" في الرواية، حركة تصاعدية بين التاريخ القديم والسرد المعاصر، عبر ثلاثة أقسام، أو ما سماها المؤلف ثلاثة كتب. الأول "كتاب المخيم". والثاني "كتاب الجيّة". والثالث "كتاب الحبس". وكل كتاب من خمسة فصول، تمتد جميعها على مئتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط. ولعل اشدّها وقعاً في الاحساس التراجيدي، وفي السرد، "كتاب المخيم". نقرأ: "خيام متجاورة ومزدحمة، على قطعة صغيرة من الأرض المزدحمة بالذباب والفضلات، مثل بقايا جيش مهزوم، تحت السماء مباشرة، في الحرّ والقرّ والجوع....، وفي الليل، عندما يرفض الكرى أن يزور أجفان الاطفال، بسبب الجوع والبرد، كان يمكن سماع أغان حزينة جديدة ابتدعتها الأمهات والجدات، من وحي المأساة، تصف عملية الرحيل والرمال والرياح والخيانة: عَ اللاجئين اللاجئين، يا ناري عَ اللاجئين/ لما رحلنا من الرملة، كل واحد حامل حمله/ يا فاروق تعدم عمرك، خربّت ديار اللاجئين....".


ثم نقرأ إصرار السارد على عدم نسيان "الجية" بما فيها قطعة حديد ترسم مساحة الارض التابعة لبيته فيها، وبما فيها أي زاوية او شجرة، أو مجرد قبضة من الطين: "صارت الجية للأشكناز... فلأمتْ مثل الكلب، ولا تقبلني أرض، ولا تبكي عليّ سماء، إن أنا نسيت حديدة أو زاوية أو شجرة أو قبضة من طين".


تنتهي الرواية بإبعاد كثير من أشخاصها الى خارج الوطن. ولكنه مع ذلك، إبعاد الى العرب والعروبة والاسلام! وبالتالي، لا خوف. الوطن الكبير ممتد من داخل الى خارج، حتى ولو كانت الصرخة الفلسطينية "اقتلوني ومالكاً" تقطر دماً ودمعاً.