يسري الغول


 

الاختفاء خلف الظل

 

قراءة في رواية خضر محجز "عين اسفينه"




  

الحياة الجديدة. رام الله. 22/1/2006



  

"صابر ليس هو الكاتب لأنه أقل شأناً من ذلك...".


بهذا التنويه ابتدأ الروائي خضر محجز روايته (عين اسفينه) التي صدرت مؤخراً عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين، محاولاً التخفي خلف ذلك الظل الذي يفضح الكاتب بطريقة أو بأخرى، ففي خضم تلك الرواية نعيش مع صابر الذي هو بطل رواية محجز الثانية (اقتلوني ومالكاً) لتثبيت بطلان تلك الكلمات في ذلك التنويه الزائف الذي يفضح كاتبه منذ اللحظة الأولى، فصابر يمثل شخصية الكاتب في مرحلة عمرية ما، أو بالأصح مرحلة تنظيمية ما. ينسى كاتبنا حينها ذلك أو يتناساه مدللاً على شخصيته في معظم الأحايين، فرحلة الإبعاد التي عاشها، والوادي نفسه في عين اسفينه يرسم شخصية البطل التي نلمسها في روح الكاتب، كذلك الكلمات التي يستدرجها تعطي القارئ ـ الذي عايش الكاتب عن كثبـ انطباعاً بأن ما في هذه الرواية محجز نفسه، فعلى سيبل المثال يقول الكاتب في السطر الرابع من الصفحة(64) أن البعض استشاره في قصيدة كتبها أحد المبعدين ممن كانوا مع كاتبنا في مرج الزهور، فقال إنها (خراء)، وأخذت جائزة بعد ذلك فيتذمر. وكما هو معلوم لدينا أن خضر محجز في الأصل شاعر قبل أن يكون روائياً، فقد صدرت له مجموعتين شعريتين إحداهما بعنوان (الانفجار) والأخرى بعنوان (اشتعالات على حافة الأرض)، حتى في قيعان هذه الرواية ندرك من خلال الكلمات الشاعرية التي يفتتح بها فصله الأول حتى لتشعر بأنك تقرأ قصيدة مفرقة مثل: "الوقت صباح شتوي/ الحبة طلقة والطلقة موت/ اللحى صامتة والصمت مفاجأة/ الحبات مضغوطة، الجنود مضغوطون/ الصمت موت معلق فوق الرؤوس/ المجللة بالثلوج والبرد والخوف ..الخ".


الأمر الآخر هو أن محجز نفسه كثيراً ما يكون صارماً في رأيه؛ فإما أبيض أو أسود كما في هذه القصة، وهذا ما زاد تحامل الشعراء الشباب عليه أو على نظريته في تلك الأيام، فهو ليس اليوم فقط يصف القصائد بالسيئة أو الضعيفة، بل منذ وقت قديم مضى.. كذلك الشخصيات التهكمية في الرواية تعرج بنا نحو رأي الكاتب في ذلك الإطار التنظيمي بعد قدوم السلطة والتحاقه بوزارة الثقافة.


أيضاً، يتابع محجز ذلك التنويه قائلاً: "و كل ما هو هنا كذب واختلاق، لأن ما هو صدق لا يصلح للرواية كما لا يصلح للحياة." وأعترض على هاتين الجملتين بشدة لأن الرواية تصلح لأن تكون أصدق من الواقع ذاته، وهذا ما لمسناه في روايات نجيب محفوظ ومحمد البساطي وبهاء طاهر وغريب عسقلاني وعبد الله تايه وحبيب هنا وكثير غيرهم، كما لمسناه عند الشعراء؛ فمحمود درويش نفسه لولا صدق أحاسيسه وصدق معايشته للواقع لما استطاع أن يصل إلى تلك المكانة المرموقة التي يتمتع بها الآن، ثم أعترض مرة أخرى على هاتين الجملتين لأنهما ظل باهت غير صادق، فداخل الرواية حقيقة صراع محجز في مرج الزهور مع قيادات الإخوان في تلك الفترة – وليس اختلاقاً كما يدعي. وكل هذا يصب في الدائرة نفسها التي تقول أن محجز هو نفسه صابر، فالجميع يعلم أن محجز، قبل عهد السلطة، كان من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين التي ينعتها في روايته بأنها (جماعة المسلمين)، وله كتاب يدرس لدى أعضاء الجماعة في رسالة تعاليم الإمام حسن البنا رحمه الله، ونرى محجز الآن يكثر في تحامله على تلك الجماعة التي احتضنته لأمد بعيد مذكراً إياي برواية (الحبل) للكاتب العراقي إسماعيل فهد إسماعيل، والتي تتحدث عن شخص ينضوي تحت لواء أحد التنظيمات، ثم يحدث اختلاف بين بطل الرواية والآخرين كما صابر عند محجز، ما يترتب على ذلك الأمر أن يصبح البطل من ألد أعداء ذلك التنظيم، ومحجز أصبح كذلك مبيناً ذلك في التهكم الواضح على أبطال تلك الرواية الذين هم المبعدون أصلاً، فيستخدم الرمزية في الأسماء (symbolism) التي تبرز السخرية بصورة واضحة فـ( شيخ الدهر والشيخ تبارك والشيخ ذياب وعلي الطخ وإسحاق بهية والكاهن والزير سالم وعلي زينب ولعبوط.. الخ) أسماء ترمز إلى أشياء تظهر مدى الحقد المكنون في قلب كاتبنا لأولئك الرجال، فـ(الدهر) تعني حب الدنيا والتمسك بها كما يرها صابر في شيخ الدهر الذي يحب النساء ولعبة الكراسي الموسيقية، ويؤمن بأن من لم يتزوج مصرية فهو لا يزال أعزب، ثم الشيخ تبارك المتعصب جداً، وعلي الطخ الذي يقف دائماً بجوار الناطق لأنه يؤمن بأنه سيصل يوماً ما إلى الرياسة والقيادة من خلال الظهور في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، حتى الزير سالم نجده في هذه الرواية بصورة غير التي استخدمها الكاتب في رواياته الأخريات (اقتلوني ومالكاً) و(قفص لكل الطيور)، فيظهر من خلال هذا الاسم مدى تعلق الكاتب بالعصر الجاهلي وحبه لشعره أيضاً وعالمه، ثم على زينب الذي يحمل في باطنه معنى التشيع أو الحب لآل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) والذي يعتبر المشايخ بأنهم يُخيفون أكثر من غيرهم، وخاتمة الرواية تذكر حقائق نهاية الأشخاص وأعمالهم الحالية في تلك البقعة الباهتة من الكون، فالشيخ ذياب فتح عيادة قرآنية في بيته، أما الزير سالم لا يركب إلا ثلاثة – أي تزوج ثلاثة – وربما الآن أربعة، أما الشيخ تبارك فترقى في المناصب وأصبح ذا مكانة مرموقة، كذلك صابر أصابته السكتة القلبية على الرغم من أنني أراه بصحة جيدة.


الكاتب في هذه الرواية كان له أسلوبه الرائع ولا أخفي ذلك، فمنذ البداية بدأ بتسلسل الأحداث، من الاعتقال ليلة الإبعاد حتى المحاكمة، ثم الإبعاد والعودة مرة أخرى إلى أرض الوطن، ثم يعود إلى مرحلة الطفولة بطريقة الفلاش باك(flash Back) ويتحدث عن شقاوته مع (الدفش) وحربه الطاحنة التي تكللت بنصره واعتقاده بأن (الدفش) وضع في يديه دماء الحردون كي لا يتألم من عصا المدرس الذي أصابه الغيظ، ثم الحرمان الذي عاشه بطلنا في طفولته فيقول: "أما لماذا لم يجد أحداً يدافع عنه.. لأن أباه غائب لا يعود ولا أم له، ولا إخوة أكبر يدفعون عنه العدوان".


استخدم الكاتب الكلمات العبرية كـ(يشع والجوييم وليخ لعززيل وشيكيت.. الخ)، ونجح في استخدامها لجعل القارئ يعيش أمام ذلك الجندي القاتل ممتشقاً السلاح ليرعب به الآخرين وأمام تلك المحكمة الجائرة التي نبصرها بعين الكاتب. أما بالنسبة لطريقته فهي واضحة كلاسيكية، فحين يمسك أحدنا الرواية دون اسم ويقرأ أول سطورها يدرك أنها لخضر محجز لنكهتها الخاصة التي تبدأ بتقسيم الفصل وتسميتها وتحديد الزمان والمكان قبل الولوج في عمق الرواية، فهنا يسمي المكان (الدولة الإسلامية) التي هي في الأصل منطقة مرج الزهور أو منطقة عين اسفينه، وعين اسفينه هي منطقة في عمق الوادي أحبها الكاتب لأن له ذكريات معها كادت تودي بحياته نشاهدها خلال تلك الرواية، فعلي زينب الذي وصل في اللحظة الحاسمة لإنقاذ صابر يتعرف بعد ذلك على صابر ويستنطقه قصة ميلاده وخيالاته المرعبة مع عرائس الجان. وقد يكون تسمية الرواية بهذا الاسم تستراً خلفه بدلاً من مرج الزهور التي كان من الممكن أن يسميها به. والغلاف يظهر هذه المنطقة في عمق الوادي.


الفكر الإسلامي واضح لدى الكاتب من خلال إدراج المعلومات الثرية أسفل الصفحات، والتي أرهقت القارئ لكثرتها، ولاستطراد الكاتب في أشياء لا داعي لها والاستفاضة بصورة مملة، فالنظر إلى أسفل لمعرفة الفكرة التي في أغلب الأحايين كان من الممكن وضعها في السرد الروائي نفسه.


في هذه الرواية ابتعد الروائي خضر محجز عن العامية التي ظهرت بشكل كبير في روايته الثانية (اقتلوني ومالكاً) والتي كان لها طعمها الخاص.


أختم بالقول إن الكاتب له طريقته في التعامل مع الأشياء، واستخدام النسق التعبيري الرمزي التي نجح بصورة مدهشة جعلت القارئ يتعلق بتلك الشخوص، يحب ما يحبه بطلنا ويبغض الآخرين، وقد لا أكون متفقاً مع الكاتب بخصوص تلك الشخصيات والحكم عليها، لأن ما أثبتته هذه الانتفاضة غير ما يدرجه الكاتب في أبطاله الذين كما أعتقد أن معظمهم استشهد أو اُغتيل، إلا أن هذا لا يعني أن يكون الراوي غير صادق في ما يقوله، وقد لا يكون صابر في النهاية هو الكاتب، لربما، ربما ذلك الظل الذي يغشاني.