زكي العيلة




ازدواجية المواقف في رواية عين اسفينه





من موقع الكاتب: زكي العيلة بتاريخ 3/4/2007

 


ترصد رواية (عين اسفينه) ــ الصادرة عن منشورات اتحاد الكتَّاب الفلسطينيين عام 2005 للكاتب خضر محجز ــ تأثيرات إبعاد الاحتلال الإسرائيلي لـ(415) معتقلاً فلسطينياً إلى جنوب لبنان في التاسع عشر من ديسمبر 1992، و حتى شهر سبتمبر من العام التالي حين سُمح للمبعدين بالعودة إلى أرض الوطن على دفعات اكتملت في أواسط ديسمبر 1993.


يتعرض الروائي محجز لتجربة أولئك المبعدين، وكيف تعايشوا مع واقعهم الإنساني والجغرافي الجديد الطارئ في تلك البقعة المعزولة بجبالها الصامتة المجللة بالثلوج والبرد والخوف والرهبة ، حيث تزيح الرواية الغطاء عن كثير من الأسئلة ــ المآزق ــ التي يعتبرها البعض مناطق محرمة، عبر غوصها في أعماق شخوصها راسمة ملامحهم وأحاسيسهم بعيداَ عن الصورة النمطية المألوفة للبطل المثال في مثل هذه الحالات.


عبر لغة مولعة بالإيحاء والسخرية اللاذعة المستندة إلى مغزل النصوص التراثية والحكي الشفوي والأمثال تنهض البنية المركزية للرواية مستندة إلى مجموعة من الشخوص الذين ينتمون لاتجاهات دينية وسياسية واحدة، تشي سلوكياتهم بمكونات النفس البشرية وخباياها في لحظات ضعفها : الازدواجية والتقلب والخداع والوصولية وفقدان معيار الحقيقة والبحث عن مصلحة ذاتية لا تأنف من تطويع نصوص التراث وتحريفها لمصلحة النص السياسي والأهواء الخاصة.


فالشيخ الزير سالم -الذي يحمل أعلى الشهادات- يعي منذ لحظة الإبعاد الأولى خفايا اللعبة، ومن أين تُؤتى الكتف انطلاقاً من يقينه "بأن حامل المغرفة لا يجوع" (ص67)، لذا نجده يلازم بإلحاح خيمة شيخ الدهر الورقة الرابحة، القوية في مخيم المبعدين، ولا يتورع عن مناولته المتاع وقضاء حاجاته، ومن ثم الوسوسة والوشاية له ليضمن رضاه الذي يعني موقعاَ آتياً في تشكيلة جماعة الحكماء.


وهكذا يتخطى ذلك الأنموذج المغرق في انتهازيته وسلوكياته المتقلبة الصفوف ليتحول إلى نجم إعلامي من خلال ابتداعه طريقة سهلة تتمثل في سحب طشت غسيل إلى الشارع في أذيال المؤتمر الصحفي اليومي، متظاهراً بالدعك والشطف أمام الصحفيين الذين يلاحقونه بالتصوير من زوايا مختلفة، مع التركيز على ابتسامته الخجول، وهكذا دواليك، لتظهر صوره الملونة الزاهية تتحدث عن رئيس المؤسسة المتواضع الزاهد الذي يغسل ثيابه بيديه ، مما يتيح المجال له أن يستعرض شئونه الخاصة ونضالاته المتعددة ، والشهادات العليا التي يحملها.


لعبة التعاطي مع الصحافة في المخيم، والبحث عن أي دور يدفع (على الطخ) إلى الوقوف خلف الناطق دائماً وأبداً مثل ظل ممسوح كي تظهر صورته ولو كانت مغبشة مركونة في الخلفية ، مدركاَ أهمية الإعلام ، وأهمية أن يُشاع عن شخص في المخيم أنه مسؤول ليغدو مسؤولاً فعليًا في لحظة ما "وقد شجع الطخ على هذا الاستنتاج ما رآه من تقريب أبو حسين الكاهن لشخص مثل اسحق بهية، وما جره هذا التقريب على اسحق بهية من خيرات ومسؤوليات وتصريحات، إذن فلتبدأ رحلته من الآن، ومن هنا بالذات، حيث أنسب مكان لأنسب مناسبة، ومَنْ من الناس لم يسمع ببطولات المبعدين؟! الإعلام حاضر يومياً، والإعلام يصنع المعجزات، وإذا صيتك طلع فحط عصاك ونمْ، والوقفة وراء الناطق الآن لها ما بعدها غداً، والعاقل من ادخر من يومه لغده"(ص109).


أما (ذو القعدة) فقد اكتشف لعبته بعد إعمال التفكير ليتحول إلى مغنٍ معروف، استقدم له مجلس الحكماء الأجهزة اللازمة، وهُيئت له خيمة خاصة لهذه المهنة الجديدة وصار لديه أوراق وأقلام وأجهزة حديثة لتصفية الصوت والتسجيل وكل ما هو لازم لكبار الفنانين ، أما أخوه (زعل) فقد قاده التفكير إلى سحب فرشات الإسفنج إلى الشارع في مواجهة كاميرات التصوير ، متشقلباً في بهلوانية، متسلحاً بثعبان ميت وضعه حول رقبته زاعماً أنه قتله وقد ساعد كل هذا على انتدابه كمدرب للكراتيه في بعض مخيمات لبنان (انظر: ص112 ــ 113).


أما (محمد نهر) فقد جنح إلى لعبة الاستثمار والمال والبنوك الإسلامية، حيث تمكن عبر تقمصه لدور الزاهد من إقناع شيوخ النفط، ورؤساء الجمعيات الخيرية الباحثين في مخيم المبعدين عن ممثلين أمناء كي يتولوا مهمة تسلم الأموال وإنفاقها على المحتاجين المستحقين المرابطين في بيت المقدس وأكنافه، بصلاحيته لهذه المهمة في الوقت الذي أثار فيه الشكوك في الآخرين ، خاصة الطامحين مثله في لعبة المال و الاستثمار (على الطخ ومحمد الحملة) وبناء عليه تم اختياره من قبل الممولين بحسب شروطه التي تفترض السرية وعدم المساءلة عن مكان الأموال أو جهة الصرف أو الإنفاق . مع إيداع المال في رقم حسابه البنكي الخاص لا في حساب الجمعيات بدعوى الخوف من استيلاء اليهود عليها تحت أية ذريعة ، وقد أثمر ذلك كله بعد عودته إلى الديار فيلا فخمة يحوطها سور واسع وبيارات مثمرة. (انظر: ص115 ــ 122).


بل إن الشيخ ( تبارك ) الآمر بالمعروف راح يبحث عن لعبة ما، وعندما لم يجدها قرر أن يلعب لعبته القديمة المفضلة القائمة على استبعاد الآخرين "بتبني الفتاوى المتشددة لإثبات قوة التدين في وجه أي فتوى يشتم منها رائحة التيسير صادرة عن شيوخ المخيم"(ص113).


وعندما يأتي الحديث عن الديمقراطية والانتخابات والشورى، نتحسس حجم التناقض بين القول والتطبيق، فالمستفيدون من لعبة التشكيلات ومراكز القوى يُقزمون تلك المفاهيم ويفرغونها من معانيها الحقيقية بحثاً عن مصالح معجلة أو مؤجلة تذرعاً بمقولة "الطاعة هي أهم أسباب قوتنا"(ص160). واتكاء على مؤهلات "الصمت والموافقة على المطروح .... ونعم و المرتب . ورأي الإخوة الذين هم بعض هؤلاء الصامتين"(ص66) .


أولئك الصامتون الذين تحولوا إلى قادة و ذوي شان بفضل التنظيم الذي انتشلهم من وهاد البطالة و الجوع ، و منحهم القوة و العوائد المادية و المعنوية، ومادام الأمر كذلك "فما الداعي إلى بحث أمور تافهة مثل الشورى والديمقراطية والانتخابات"(ص68) .


بحيث يبدو سؤال (صابر) عن الأساس الذي تم فيه اختيار مجلس الحكماء لقيادة المخيم الطارئ مرفوضاً من الحاضرين أهل الحل والعقد الرافضين للحوار الفكري والجدل بعد أن ضمنوا أنفسهم في قائمة المختارين الذين أصبحت مهمتهم التشاور وإصدار القرارات المناسبة.


ويتضح هذا النمط من الديمقراطية الانتقائية التي تقوم على سيادة الرأي الواحد وتهميش الآخرين واستلابهم في قرار قيادة مجلس الحكماء الرافض للطريقة التجزيئية التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية والمتمثلة في عودة المبعدين على دفعات تبدأ برجوع مئة وواحد منهم بعد شهور تليها دفعات في فترات متقاربة.


ورغم حجج صابر الذي يتمزق وحده وهو يشهد انهيار الحلم بدولة الشورى مبدياً تخوفاته من اعتبار إسرائيل لأولئك المتخلفين نازحين، وأن تبنّي قيادة مجلس الحكماء لقرار رفض الإعادة على دفعات سيشكل خطراً على الأسماء المقترحة للعودة وعلى الباقين، وأن ذلك سيتناقض مع هدف إنقاص عدد المبعدين إلى أقصى حد ، متهمًا قيادة مجلس الحكماء باختيار دُمى تُحرك بخيطان من الوراء كما في نماذج (الزير سالم والشيخ دياب وعلى الطخ واسحق بهية ولعبوط ومحمد نهر والكاهن وموسى أبو منشار وذو القعدة ...) إلا أن ذلك كله لم يستطع أن يثني مخالفيه -الذين جمعتهم المصلحة- عن موقفهم الرافض لمبدأ العودة التجزيئية


ولعل اجتراء(الكشك) أحد المشمولين بقرار العودة –المرفوض- على مناقشة الأمر مع (ولي النعم شيخ الدهر) يدل على بشاعة الديكتاتورية وهشاشة الشورى الممارسة حيث جوبه الكشك بردة فعل قمعية عنيفة من أولئك الذين افترضوا الطاعة في غيرهم :


 "انصرف وله .. مين أنت؟ صرخ شيخ الدهر فجأة و قد رمى عقاله على الأرض في حركة طائشة ـ إحنا اللي صنعناك، واحنا اللي بنرجعك لحجمك .. بتفكر حالك مين؟.. تذكر نفسك أحسن لك، و اعرف مع مين بتحكي"(ص159).


بل إن في الأمر الصادر من الكاهن إلى لجنة الطعام في المخيم بالامتناع عن تقديم الطعام للمبعدين الذين نعتهم الزير سالم بالخوالف ، لرفضهم مبدأ المشاركة في المسيرة المتجهة صوب بوابة زُمْرَيّا ــ بسبب تحفظاتهم عليها ــ دليل على انتقائية العمل بمبدأ الشورى، حيث لم يكلف الكاهن نفسه عناء التشاور مع مجلس الحكماء المُنتقى، عدا شيخ الدهر، انطلاقاً من اعتبار أن الأمر انشقاق خطير يهدد مخططات المستقبل، و يؤذن بارتفاع صوت مخالف لم يتعود على سماعه أحد منهم طوال سنوات ماضية.


ورغم تشدد المتنفذين في مجلس الحكماء في موضوع العودة التجزيئية إلا انهم انصاعوا في النهاية لصالح قبول الصفقة بعد تنامي تأثيرات حزب المؤيدين لها ، يساندهم في ذلك عدد من ذوي القدرة على التأثير كصابر والشيخ دحام، وقد برروا ذلك التراجع بضرورة تغيير الأدوات وأهمية التعامل مع المستجدات، والخشية من أن تغدو قضية المبعدين عرضة للتقادم وغيرها من التبريرات التي كانوا يحاربونها بعنف سابقاً(انظر: ص203 ــ 205).


الازدواجية تتجلى بوضوح أيضاً في صورة تنازعات النفس وإطاعة هواها أو لجمها عبر أنموذج الشيخ دياب المتشدد في العلن، الباحث عن المرأة في السر، حيث يمني النفس باجتياح أرض الكافرين رغبة في السيطرة على نسائهم وتحويلهن إلى متاع وسبايا وجواري تُشترى في الأسواق.


رغبته المتأججة في النساء والخشية من العودة القريبة إلى البيت "بما يعنيه ذلك من عودة إلى ممارسة الزواج القديم بطقوسه المكرورة حيث لا شقراوات ولا لبنان ولا ما يحزنون وكأنك يا أبو زيد ما غزيت". ص139، تدفعه إلى التوجه إلى القرية الهادئة أكثر من مرة عبر طرق التفافية كي لا يراه أحد، بحجة شراء بابور الكاز من تلك المرأة الأربعينية الشقراء الفاتنة التي يحوم حولها ممنياً النفس بولوج عالمها واستكشاف أسرارها الأنثوية.


وعبر السارد الموضوعي العليم المتداخل مع تيار الوعي نتعرف على حالته النفسية وما يموج في أعماقه من هواجس تجاه تلك المرأة التي أسرته بلمسة يدها البضة الناعمة الملمس ، وصوتها الأجمل من الموسيقى تلك الموسيقى التي كان يُحرمها ويُجرمها "شجعته الكلمات وأشعرته بأهميته، لذا فقد وجد نفسه ينظر إلى شفتيها المكتنزتين بلوعة ، وقد نسي الأوامر والنواهي : نسي الحلال والحرام ، ولم يدرك شيئاً باستثناء أنه هنا، وأنه لا يريد المغادرة وكان وجهها الضاحك يفتر عن ثغر واسع قليلاً ، تظهر من خلاله ثناياها المفروقة: "وجه أشقر مشبع بحمرة متوردة ، وخدان ممتلئان تعلوهما عينان سوداوان مكحولتان، والرأس معصوب بمنديل معقود من وراء العنق ، بصورة تجعله يظهر أكثر استطالة رغم القصر البادي في قامة المرأة، هي ذي امرأة تحسن إبراز مفاتنها، لقد أحسن مجلس الحكماء إذ رفض الموافقة على مغادرة هذا المكان ، ليتهم لا يعودون جميعا" ص156.


وفي سعيه للبحث عن رخص فقهية تهدم الأدلة التي كان يقوم عليها تحريمه السابق للغناء ولزواج المتعة، تتنازعه الاحتمالات والترددات والتوجسات فهو أمام الناس شيخ يتبعه تلاميذ وخيمة واسعة ودروس فقهية ، وعليه إذن ألا يتصرف مثل الرجال، عليه أن يستشعر الخطر، أن يلوذ بكوابح التشدد التي تتدفق في دمه، ألا يرفع الحجب عن أحاسيسه وشعوره الباطن.


ولعل هذه الازدواجية وذلك التناقض بين المأثور والمنظور، بين الظاهر والمخفي توكيد على اغتراب تلك الشخوص، حين تُخرِس خلجات نفسها ومكنوناتها الداخلية، وتقمع في الوقت نفسه رؤى الآخرين لصالح الراهن وهوى الأغراض الخاصة والرغبات، ولو كان ذلك على حساب النصوص والواقع والوقائع.