أمجد ناصر 



إميل حبيبي خائن أم بطل؟



 

مجلة (صدانا) الشارقة. 26/11/2006



لم يتوقف إميل حبيبي، يوما، عن أن يكون اشكاليا مناكفا، فصيح اللسان وسليطه، جارحا في نقده لمخالفيه، هازئا بالفكرة القومية، معتبرا أبرز مفاصلها في الحياة السياسية العربية، محض (قومجية).


وقبل رحيله أبى إلا أن يقلب تاريخه السياسي والحزبي، رأسا على عقب، واصفا من ظلوا على الطريق التي عبدها الى موسكو، بـ(الستالينيين المتحجرين)، ملتحقا، أمام ذهول رفاقه وقرائه، بمعسكر (المع) في الحرب الاميركية الأولى على العراق.


أن يفعل إميل حبيبي هذا وهو حي، ذلك أمر مفهوم، نسبة الى قدرة الرجل العجيبة على الجدل، وطول النفس، وحيازته ترسانة لا تنفد من السخرية الشعبية والتراثية، والتاريخ النضالي الطويل. ولكن أن يواصل إميل حبيبي عواصفه السياسية والفكرية، بعد عشر سنين على وفاته، فهذا هو العجب.. وهو، لعمري، عجب يليق بصاحب العجائب الأدبية المزخرفة، التي تركها كألغاز وأسئلة ملتبسة وراءه.


مرة أخرى يعود هذا السؤال الى الواجهة: هل كان إميل حبيبي بطلا أم متواطئا؟ سؤال كهذا طُرح في حياة إميل حبيبي، عندما تسلم من يد شامير أرفع جائزة أدبية اسرائيلية، وقامت الدنيا الأدبية العربية ولم تقعد، بين:


1ـ قلة أيدت الكاتب الفلسطيني، واعتبرت إقدام شامير، بالذات، على تسليم حبيبي جائزة إسرائيل الأدبية، اعترافا آخر بوجود الشعب الفلسطيني (داخل اسرائيل) ومنافسة أدبه أدب الإسرائيليين، المتحدرين من أصول أوروبية؛


2ـ وبين كثرة عربية وفلسطينية رأت قبول حبيبي تسلم الجائزة من يد قاتل شعبه ـ باسم الدولة التي قسمت وطنه، وهجرت قسما كبيرا من أهله، ونكلت بالقسم الباقي، وضمت إليها أرضا عربية أخرى ـ ضربا من الخيانة الوطنية.


وعندها، أو قبلها بقليل، دار حوار صاخب بين حبيبي وبعض رفاقه السابقين (من بينهم سميح القاسم) حول مواقفه الراهنة وتاريخه، وتسرب من ذلك النقاش خبر قُصد منه تدمير صورة إميل حبيبي النضالية، المستقرة باطمئنان في نفوس قرائه ومحبيه في العالم العربي، يزعم قيامه، مع زعيم الحزب الشيوعي الاسرائيلي، صموئيل ميكونس، بزيارة الى براغ لحث الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي على تزويد اسرائيل بأسلحة لمواجهة الجيوش العربية، التي تريد القضاء على دولة إسرائيل؛ الأمر الذي أعطى هذه التهمة ثقل الواقعة الحقيقية ورودها، على ما يبدو، في مذكرات ميكونس نفسه، التي لم أطلع عليها، وانما قرأت، في أدبيات عربية، هذا الزعم منسوبا إليها.


بعد عشر سنين على رحيله تصدر دار نشر سورية تدعى (قدمس)، مهتمة بالتاريخ الحضاري للشرق الاوسط، كتابا نقديا اشكاليا للكاتب الفلسطيني خضر محجز، الذي كان في عداد النشطاء الفلسطينيين المبعدين الى مرج الزهور في جنوب لبنان، وعمل في صفوف حماس فترة طويلة، قبل أن يتركها، من دون أن يُحسب على فصيل آخر. أما الكتاب الاشكالي فهو بعنوان (إميل حبيبي: الوهم والحقيقة)’ وقد كان في الاصل رسالة لنيل درجة الدكتواره، أشرف عليها في القاهرة الناقد المصري المعروف صلاح فضل.


ليس هنا مجال الدخول في الخطة النقدية التي اتبعها محجز، ولا في صلة رسالته بمدرسة النقد الثقافي، فلذلك حيزه الخاص. وما يهمنا، الآن، هو عودة السؤال نفسه، الذي طُرح في حياة حبيبي حول (بطولته) أو (تواطئه).


كان إميل حبيبي صاحب مقولة (باق في حيفا)، التي أوصى أن تُنقش على شاهدة قبره، وصار له ما أراد. والمقولة رد، لا ندري مدى صحة زعمه، على مطالبة العرب لفلسطيني الـ48 بمغادرة أرضهم، ليتسنى للجيوش العربية مواجهة (العصابات الصهيونية).


وأيّا كان صدق تلك المقولة ـ التي تزعم أن العرب سهلوا بذلك إخلاء الأرض، وزينوا هجرتها ـ فقد كان يحلو لإميل حبيبي أن يرددها، في غير مناسبة، وأن يقول، من دون كلل، أن صموده وصمود عشرات آلاف مثله، هو الذي جعل وجود أقلية عربية كبيرة داخل اسرائيل ممكنا. بهذا المعنى كان يرى إميل حبيبي بطولته: إنها في الصمود على الأرض التي وُلدوا عليها، فيما لم تنفع الأفكار والدعاوى العربية، الرائجة في تلك اللحظة، الفلسطينيين في شيء. واضح طبعا أن حبيبي كان يقصد بذلك الأفكار القوميـــة التي رفضـــت الاعتراف، بأي شكل، بالدولــة الاسرائيلية باعتبارها واقعا، ودعـــت إلى اجتثاثها بوصفها جسما غريبـــا في المنطقة.


لم يكن إميل حبيبي يؤمن أن اسرائيل جسم غريب، على الأقل في الأدبيات التي أصدرها، سواء في الأدب، أم في السياسة والفكر. إنه واقعي: إسرائيل موجودة، إذن ينبغي التعامل معها. تلك حجة إميل حبيبي التي لم يتردد في طرحها، بقوة وصلف، إن لزم الأمر، في جميع السجالات التي خاضها مع المثقفين الفلسطينيين والعرب.


الصورة التي يطرحها محجز في كتابه، والمتعلقة بمواقف ومسلك حبيبي السياسِيَين، وقيامه بالتوسط عند الدولة الشيوعية، الرفيقة تشيكوسلوفاكيا، لإمداد إسرائيل بالسلاح، لمواجهة العرب (الرجعيين) ليست جديدة؛ فقد سبق أن تناول هذا الموضوع أكثر من كاتب فلسطينيي. الجديد هو ـ على ما أظن ـ في صنع تطابق بين شخصية بطل حبيبي الشهير (المتشائل) وشخصية إميل حبيبي الحقيقية. فعند محجز ليس سعيد أبو النحس المتشائل مجرد شخصية روائية، بل هو إميل حبيبي نفسه، متخفيا وراء قناع روائي.


طبعا لا يمكن التسليم بدعاوى من هذا النوع بسهولة، فللمدافعين عن حبيبي ترسانة قوية من الحجج والبراهين، التي تؤكد وقوفه بقوة ضد التمييز، الذي مارسه الاسرائيليون ضـــد شعبه، وايمانه بالعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الناس، ورفضه للحروب.


الشيء المؤكد أن عودة النقاش حول مواقف إميل حبيبي، والنبش في تاريخه، يعبران بكل تأكيد عن المكانة التي احتلها الرجل، في التاريخ السياسي والفكري والأدبي عند الشعب الفلسطيني.