أمينة غصن




اتهامات جديدة في كتاب للناقد خضر محجز


هوية إميل حبيبي المبعثرة تحن الى التئام جروحها





الحياة اللندنية. 11/11/2006

 



«إميل حبيبي الوهم والحقيقة» كتاب لخضر محجز هو في الأصل رسالة دكتوراه قُدِمت لمعهد البحوث والدراسات العربية المنبثق من جامعة الدول العربية بعنوان «البنية الثقافية في كتابات اميل حبيبي». صدر الكتاب عن دار قدمس (دمشق، 2006). كرسالة دكتوراه من غير تعديل، أو حذف أو تكثيف، أعادنا الكتاب/ الرسالة إلى اسئلة أكاديمية مكرورة : كيف ولماذا اميل حبيبي، وماذا عن المنهج وآليات البحث والخطوات الإجرائية وتقسيم الفصول. وإذ ضّيق خضر محجز دائرة خطواته الإجرائية، عاد بنا الى الشكلانيين الروس، والى موت المؤلف أو قتله، فأغرق القارئ الأكاديمي في بديهيات ملّها منذ مئة عام، وترك للقارئ غير الأكاديمي أن يتوهم ان كتاباً كهذا لن يتركه في هجنة معرفية، هي هجنة الأسماء و المناهج، وما فيها من انزلاقات، وتشنجات، وتبعثرات لا تقر بوحدة إلا وحدة التفكيك والتشظي. وليت المؤلف انصرف الى قراءاته الإبداعية، وأسقط عنها أحاديث المنهج، يتلمسها القارئ بالإشارات والإيحاءات.


مذ تسلّم إميل حبيبي جائزة الابداع الاسرائيلية من يد رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحاق شامير، في عز الانتفاضة الأولى، أمسى كاتب البدع الداعي الى ضرورة تطبيع العلاقات الثقافية مع الكتّاب والأدباء الصهاينة. ومنذ تلك الدعوة في العام 1995، لم يصدر بيان واحد عن اي مؤسسة ثقافية في فلسطين يرفض التطبيع.


ولما أصدر إميل حبيبي مجلة «مشارف» تجاورت مقالات الكتاب الفلسطينيين والإسرائيليين، بعدما أكد إميل حبيبي «حق تقرير المصير لليهود في فلسطين». وهبّت كل الجبهات الثقافية العربية مشتعلة في مواجهته، وحاسمة في رفضه. أما إميل حبيبي ـ الذي اتُهم بجلب السلاح إلى إسرائيل من أوروبا الشرقية، في عز حرب 1948 ـ فكان منصرفاً الى كتابة نصوص إبداعية ذات بنية واحدة، تتكرر وتعيد إنتاج نفسها، عبر رابط خفي يجمع بين أحلام «الأنا» اللاعقلانية واللامنطقية، وأسواق «الثقافة» التي كانت جزءاً من الحل، وأرضية للإجماع، فصارت جزءاً من المشكلة وحلبة للنزاع.


ولما ارتبطت الثقافة بالهوية، رأى إرخ اورباخ «أن على الثقافة التعامل بحس عدواني لمصلحة الأمة والوطن والجماعة والانتماء» حتى كأن إرخ أورباخ يسقط عن الثقافة أبعادها الإنسانية، ويتحول بها إلى تواريخ من القمع، والتسلّط، والاستعمار.


وإذ عارض اميل حبيبي إرخ اورباخ قال: «لا، لكل الحدود والقيود. نعم لحرية الابداع والابتداع»! وصارت كتاباته ظاهرة ثقافية، يستعصي على النقد أن يقتل فيها مبدعها، ويعلن موت مؤلفها.


كان إميل حبيبي ـ الذي برز على المسرح السياسي سنة 1943 ـ قد نشأ في أسرة ذات أُصول ريفية، تتطلع الى الثورة على طبقتها الاجتماعية، والوصول الى البرجوازية المدينية، التي قال فيها إميل حبيبي: «إنَّ عائلتي كانت تنظر دائماً إلى فوق»، وترى حتمية التحوُّل الطبقي في المجتمعات، وصولاً إلى الكمال الشيوعي وجناته الموعودة.


«هذا الفوق» جعل إميل حبيبي ينضم إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني سنة 1940. وبعد فشل ثورة 1936، حيث قال: «لقد أوقفت حياتي بمجملها على بناء هذا الحزب: سنداً للشعب، ولكل المستضعفين في الأرض، ولقضية السلام والتقدُّم الإنساني. وكنت آنذاك في التاسعة عشرة من سني صباي». غير أنَّ هذا الإنتماء «الفوقي» لم يدم أكثر من سنوات ثلاث، تحوَّل بعدها «المنتمي»: من الأممية إلى القومية، وانخرط في عصبة «التحرر الوطني» بحثاً عن سلطة تتلبس ايديولوجية حزبية، تزعم رفض الكولونيالية الصهيونية.


ولما اشتعلت الحرب في فلسطين، بعد صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، انشغل إميل حبيبي بجمع كوادر العصبة الموالين له، لاتخاذ قرارٍ بقبول التقسيم. وهو قرار بقي حبيبي يفاخر به حتى بداية العام 1948، إذ أحرقت الجماهير مقرَّات «عصبة التحررالوطني»، وهرب إميل حبيبي إلى لبنان. وظلَّ طوال حياته المدافع المستميت عن حق إسرائيل في الوجود، والكاتب المنشغل بالسخرية من العرب وعروبتهم، التي قرنها بالفاشية وتبرأ منها! ثم عاد ثانية ليجرد الصهيونية من عنصريتها، ويدعو إلى التطبيع مع من رآهم «زبدة الناس» في معرض القاهرة للكتاب عام 1994.


فخ الكلمات:


ولما قامت دولة إسرائيل العتيدة، عاد إليها إميل حبيبي بالتعاون مع قوة الاستخبارات التابعة للوكالة اليهودية، كما يقول معارضوه. وقد حوَّل حبيبي انهزاماته السياسية سرديات لغوية، وبطولات قصصية، منذ اعترف بعدما جاوز السبعين من عمره وقال: «وكلُّ فارس، حين يبقى مثل السيف فرداً، يرنو ببصره دائماً نحو المحيطين به من كلِّ جانب، ينظر إليهم بعيني الأمل والسؤال المصيري: هل هناك من يقبل التحدث إلينا؟» وكأن حبيبي نصب فخاً من الكلمات إذ قال: «كلُّ فارس يجد نفسه وحيداً، ينحني مستعطفاً أعداءه». وهكذا حدد حبيبي معنىً جديداً لفروسية براغماتية تستشرف الغد الآتي، وتنكر الأمس بخطابه اللغوي الخدّاع! كان الماضي فلسطين، وصار الحاضر إسرائيل، وقال حبيبي في المتشائل: «مليح أن صار هكذا، وما صار غير شكل». وعى حبيبي أن طقس التطهُّر من الماضي وكوابيسه لا يتم إلا بالاعتراف الكامل بتحول الماضي حاضراً لا يشبهه، بل ينقضه ويهدمه. وما إن تصالح مع الحاضر المقيم لا الماضي الغائب، حتى استدعى أدواته الإبداعية، ليعيد تجسيد ماضيه العجيب من طريق التمثيل والسرد. فالسيرة الذاتية يسميها حبيبي: «سيرة خرافية أو حكاية شعبية»، ثمَّ يضيف مطمئناً: «إن هذا الشكل من الكتابة لم يتعرض له احدٌ بالتصنيف، لأنه يشبه «حكي» الجدَّات اللواتي ابتدعن خرافاتهن منذ القدم.


وأخذ إميل حبيبي بإبداع الجدَّات، وعجزهن عن تجنيس الحكي والقص، فأبدع «المتشائل»، نصَّاً خرافياً، يضجُّ بقصص غريبة، ولا يحتوي على أحداث، ولا يختلق شخصيات تخييلية؛ كما يرى خضر محجز، الناقد الذي يؤكد أن المتشائل خلوٌ من تقنيات القصِّ الحديثة، حيث لا يتشظى الزمن، ليعيد المتلقي ترتيبه، ولا يمتد أُفقياً لينام على إيقاعه الرتيب في انتظار النهاية. فـ«المتشائل» يميزها غياب البنية السردية غيابا لافتاً. وفي هذا الغياب يقول خضر محجز: «إن إهمال بنية الرواية، يواكب تباعد حبيبي عن الحزب الشيوعي، وهو تباعد جعل حياة حبيبي في مفازات الوجود، عبثاً خالياً من معنى الوجود»! كأن حبيبي قطع كل صلة بالحياة، ولما اطمأن الى انقطاعها، استبدلها بالكتابة وحوَّلها كلمات تبدأ كمثل بدايات القصص العجيب، من غير أن تتجاوز أي بداية بدايتها، أو تبلغ إلى نهاية: «كانوا في صيف 1983. وكان صدى الحرب السادسة يتردد بعدُ في آذانهم، تردد آهات الحنين، في صدورهم، إلى صخرة على الشاطئ ابتلعها البحر، أو إلى عين ماء على الكرمل نشَّفها القهر. من حرب الى حرب أُرهفت حاسة السمع في آذانهم، حتى أتقنوا التمييز بين طنين حرب وطنين حرب أُخرى: أُسمعُهمْ ضجةً، أو أزيزاً، أو قصفاً، عويلاً أو نشيداً، أو مارشاً موسيقياً، فيعينوا لك حربها، وعام وقوعها المضبوط». هي حكايات صوتية، لأزمان تراتبية، وأخرى عبثية تبدأ ثم تعود وتبدأ. فها نحن نصغي الى الراوي يقول: «منذ زمن بعيد لم يعد لدي ما أقوله. المتشائل استنفدت وحدها المخزون الحكائي وفاضت بي. لقد استقبلت سياسياً وحزبياً، أما أنا صاحبها ومبتدعها، فانكفأت على ذاتي ارثيها، وأبكي ما أهدرته من عمر، حذقت فيه التلاعب بالاحتراس والتقديس في العتبات المقدسة لفلسطين السياسة، وكأني نسيت ما شيَّده أبي فوق قمة يخفيها الضباب الأبدي من قمم الكرمل»!


يسأل خضر محجز عن هوية حبيبي ويقول: «أيهما كان إميل: وعيه الملحد، أم لا شعوره المؤمن؟ مذ اعتبر حرب 1948 حرباً تحررية يهودية، حقق بواسطتها الشعب اليهودي مصيره على أرضه، أم اعتباره أن النكبة هي التي حررت البلاد من أهلها»، واعتبارها: «يوم الحشر الفلسطيني: يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً، ولا هم مبصرون»؟ هكذا انشرخت هوية إميل حبيبي بين مرارتين : مرارة الوهم وخيبات الماضي، مرارة الحقيقة وخرافات الوطن الآتي. وكان «المتشائل» سيرة ذاتية قال فيها حبيبي للصحافي الإسرائيلي الذي كان يستجوبه: «عشقت سرايا الصبية النورية، بائعة الزعرور والعنَّاب. وفي كلِّ عشية كانت سرايا تنفلت من بين يدي، عائدة إلى عشيرتها، خوفاً من ان يأكلها الذيب، وحين مضت العشية وحلَّ الليل، ولم تنفلت من بين يدي، أكلها عمي إبراهيم. أكل عمي تلك الثمرة، وزنا بالمحارم، وتملكتني منذ ذلك الزمن إلفة خاصة إلى رائحة الصابون، التي يحملها نازح فلسطيني معه، إلى حيث تلقي الزلازل رحله. وصرت أخالني ولدت مع هذه الإلفة : وهي رائحة عمي الزاني بثيابه وجرابه، وكنت شممتها عبقاً عطراً يفوح به صدر سرايا»!


انتهى إميل حبيبي بعدما تسلَّم جائزة القدس من يد ياسر عرفات، إلى «متهم» يحب التراث العربي، ويمشي في دروبه وحيداً، يسأل ما الحقيقة؟ وما المجاز؟ ثم يتذكر بيتاً نسيه، ولما عاد إليه، نادى على الرفاق وأنشد: «أمطعمة الأيتام من كدِّ لحمها/ حنانيك. لا تزني، ولا تتصدقي».


ولما كفر حبيبي بلينين، لعنه وقال: «فكوا أيديكم من أيدينا، ولا تتشبثوا بنا، ولا تلوثوا بهاء الحرية. فنحن أيضاً أحرار في النضال ضد المستنقع، وضد أولئك الذين يعودون إليه. ولما أيقن حبيبي ما في السياسة من تمويه وتزوير، عادت إليه فلسطين كهوية تتسلل في الخفاء، من مشارف جنين إلى بيارات حيفا وزيتون يافا، محمولة على ظهور الخيل الشاردة، من غير خيالة أو فرسان.