جهاد فاضل




كتاب جديد من فلسطين 


يطارد صاحب "سعيد بن أبي النحس" 


إميل حبيبي متشائلا.. بين الوهم والحقيقة 




القبس الكويتية. 15/3/2007



هل يمكن لكاتب فلسطيني، أو عربي، أن يتهوّد، أي أن يتحول إلى يهودي، لا بالديانة، بل بالولاء الفكري والسياسي؟


ثمة أجوبة كثيرة على السؤال، متناقضة طبعاً. ولكن هناك باحث فلسطيني اسمه خضر محجز، نال مؤخراً شهادة الدكتوراه من معهد البحوث والدراسات العربية، المنبثق من جامعة الدول العربية، عن رسالة قدمها للمعهد المذكور، يقول فيها إن الكاتب الفلسطيني أميل حبيبي صاحب الرواية الشهرية "سعيد بن أبي النحس المتشائل"، وأحد مؤسسي "راكاح"، أي الحزب الشيوعي الإسرائيلي، تنطبق عليه صفة "الكاتب المتهوّد" أكثر مما تنطبق عليه أية صفة أخرى.


يستند خضر محجز في اتهامه لأميل حبيبي بالعمالة لإسرائيل، أو اليهود، إلى أدلة كثيرة يستقيها من سيرته كما يستقيها من أدبه، وبخاصة روايته "المتشائل" وبطلها فلسطيني متعاون مع العدو، قال أميل حبيبي أكثر من مرة إنه هو نفسه المتشائل، أي بطل الرواية. وإذا كان ذلك وحده لا يكفي لإثبات تهوّد حبيبي، فإن لدى الباحث الكثير مما يقدّمه لإثبات صحة اتهامه، أو صحة نظريته.


من هذا الذي يقدّمه الباحث، أن أميل حبيبي الذي انضم في شبابه إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، ووقع على وثيقة تلعن الصهيونية ، وتعلن عروبة الحزب، سرعان ما تغير موقفه بعد قيام دولة إسرائيل سنة 1948م. فقد بدأ يدعو في جريدة (الاتحاد) إلى القبول بالتقسيم، بعد أن عاد إلى إسرائيل من لبنان الذي نزح إليه مع النازحين. كيف عاد؟ يقول الكاتب إن إسرائيل التي كانت تمنع أي فلسطيني غادر فلسطين إلى الخارج سمحت لأميل حبيبي بالعودة بعد ثلاثة شهور، وليصبح على الفور عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي الموحد، المعترف به رسمياً، والممثل في مجلس الدولة المؤقت، في زمن الحرب!


أكثر من ذلك: ففي تلك الفترة الملتبسة من شهور الحرب، ما بين عودة أميل حبيبي إلى فلسطين، وإعلان وحدة الحزب الشيوعي الإسرائيلي (من تموز إلى تشرين أول عام 1948م) سافر الأمين العام لهذا الحزب، شموئيل ميكونس، سرّاً إلى تشيكوسلوفاكيا وعدد من دول أوروبا الشرقية، لعقد صفقة أسلحة وطائرات لصالح قوات الهاغاناه. وكان أميل حبيبي عضواً في هذا الوفد.


الباحث الفلسطيني خضر محجز يقول إن أميل حبيبي قرر، من ذلك الوقت المبكر، أن يكرس باقي عمره للولاء لإسرائيل، مكتفياً بالمطالبة بحقوق مدنية (للسكان العرب) في الدولة اليهودية، مستعيناً على ذلك بدعوتهم إلى الاندماج في المجتمع (الديمقراطي) الجديد، والمساهمة في تطويره، ومن مواقفه المبكرة في هذا الشأن: القيام بتجنيد العمال العرب من الناصرة والرملة لقطف زيتون إخوانهم النازحين العرب لصالح (الكرين كييمت). ثم تحميله المستمر المسؤولية عن حدوث النكبة، للطرف العربي، إلى حد إعلان الشماتة بهزيمة الجيوش العربية في فلسطين "بعد أن نجح دفاع الشعب اليهودي عن دولته، في صدّها، ونجحت هي في إلقاء العرب في البحر" على حدّ قوله!


ولئن كان العرب قد ألقوا مادياً، في المرة الأولى، في البحر، بقوة الهاغاناه، فإن أميل حبيبي ظل يلقيهم معنوياً في البحر، كل يوم، بقوة الأيديولوجيا، متناسياً وجودهم القومي في فلسطين المحتلة عام 1948م، إلى درجة الإنكار: فمن على منصة مؤتمر السلام في فيينا، أعلن حبيبي أنه "لا يوجد في إسرائيل قوميتان، وإنما يوجد شعب إسرائيلي واحد". وربما توجد في هذا الشعب الواحد "مجموعات عربية"، لكنها لا تُعتبر، في نظره، ذات خصائص قومية تبيح لها المطالبة بحق تقرير المصير. لذا لم يكن مستغرباً أن يثبط هذه المجموعات عن نضالها القومي، داعياً إياها إلى مقاطعة إضراب يوم الأرض، الذي دعت إليه القوى الوطنية العربية في إسرائيل عام 1991م.


وقبل ذلك كان ينظر إلى المجتمع الإسرائيلي ـ الناشئ على أنقاض فلسطين العربية ـ وفق تقسيمات طبقية تفسر الصراع القائم داخل بنيته، باعتباره صراعاً بين قوى العمال والفلاحين المستغَلين، من جهة، وقوى الرأسمالية وأصحاب الأراضي المستغِلين، من جهة أخرى: فكل العمال والزراع، وربما كل الفقراء عربا ويهوداً، هم خيّرون ومستغَلون. وكل أصحاب رؤوس الأموال والأراضي، وربما كل الأغنياء عرباً ويهوداً، هم أشرار ومستغِلون!


تخلق أميل حبيبي أيديولوجيا وفق وعي مزيف يفضل الحزب على الوطن، ويفسر مقولات الوطن من خلال شعارات الحزب. تشيّأ أميل حبيبي وتحول إلى مخلوق سياسي تستعبده تقسيماته الأيديولوجية: فالحزب الشيوعي الإسرائيلي استبعد وعيه، وصار يطالبه بفعل أشياء يجد نفسه مضطراً إلى تلبيتها، من ناحية، ثم يجد نفسه مضطراً إلى إنكارها أمام الجماهير العربية، من ناحية أخرى. وهكذا تخلق لديه الوعي الزائف مبكراً، وقاده طويلاً وسط دروب ما كان لوطني عربي فلسطيني أن يسلكها.


ولئن اعتبر أميل حبيبي دائماً أن الرفاق اليهود في صفوف الهاغاناه، الذين قتلوا في معارك 1948م، قد سفكوا دماءهم دفاعاً عن الوطن، فلقد بخل على إخوانه الفلسطينيين، حتى لحظة وفاته، في الاعتراف لهم بمثل هذا الحق. وقد استنكر مرة بشدة "كل أعمال التخريب التي تقوم بها المنظمة التي تُدعى فتح".


وقد نظر على الدوام إلى إسرائيل على أنها "تجسيم لحق الشعب الإسرائيلي في تقرير المصير". ولكنه رفض، في الوقت نفسه، حقاً مشابها لإخوانه الفلسطينيين، قائلاً: "نحن لا نعترف إطلاقاً بما يُسمّى حق تقرير المصير لعرب إسرائيل.. إننا نقول بأن حق تقرير المصير هو لشعوب وليس لمجموعات"!


وظل على الدوام يسخر من العروبة. وقد قرنها مرة بالفاشية، مفتخراً بانشغاله الطويل بمحاربتها، إضافة إلى العنصرية الصهيونية، التي يحاربها أيضاً.. وقد ذكر مرة: "انشغلت ثقافتنا بالكفاح ضد الفاشية، والكفاح ضد العروبة، والكفاح ضد الاستعمار، وضد العنصرية الصهيونية".


لكن هل يستمر في معارضته الكلامية البسيطة للصهيونية؟ كلا. لأنه سيقوم بعد قليل بتجريد الصهيونية من عنصريتها، معلناً أمام العالم ـ في مؤتمر للأدباء عُقد في مدينة عشق أباد عاصمة تركمانستان عام 1989م ـ بأن الصهيونية ليست عنصرية!


ولذلك لم يكن للدهشة مكان حين قبل بجائزة الإبداع الإسرائيلي بعد مرور ثلاث سنوات على تصريحه المبرّئ للصهيونية من عنصريتها، وذلك خلال حفل رسمي أقيم في القدس المحتلة، بمناسبة مرور 44عاماً على إنشاء إسرائيل، معتبراً أن هذه الجائزة تمثل اعترافاً بالثقافة الفلسطينية في إسرائيل، كجزء من تطور التراث الإسرائيلي!


الفلسطينيون إذن مجرد (مجموعات سكانية) في فلسطين المحتلة، واليهود يملكون حقاً مقدساً في الدفاع عن قوميتهم وتحققها في فلسطين التي احتلوها بالقوة. وهوية سكان فلسطين العرب هي هوية عنصرية تقارب الفاشية. والصهيونية لم تكن عنصرية بالإطلاق، ثم لم تعد عنصرية أبداً. وصولاً إلى اعتبار الثقافة العربية الفلسطينية جزءاً فسيفسائياً مجملاً، من أجزاء تطور التراث الإسرائيلي، في ذاكرة أيديولوجي يستظهر التعاليم الجاهزة عن تطور ثقافة الأقليات في الاتحاد السوفياتي، كجزء عضوي من الثقافة السوفياتية الشاملة، والأمل هو الثقافة الإسرائيلية التي تحنو على الفرع الجديد الذي تمثله الثقافة الفلسطينية!


يستذكر الباحث الفلسطيني عبارة لسارتر في وصف العلاقة بين الثقافة المقهورة وقاهرها، تنطبق على وضعية أميل حبيبي. يقول سارتر: "حين يفصل سدّ من نار بينك وبين العدو، فليس لك إلا أن تحكم عليه إجمالاً بأنه الشرّ المجسّد. لكن الأمر على النقيض على ذلك في الشعوب المحتلة المقهورة، المختلطة بقاهريها. فإنها بالتعوّد، وعل إثر الدعاية البارعة، تتعلم من جديد كيف تنظر إلى هؤلاء القاهرين على أنهم من الناس: أناس طيبون أو خبثاء، أو طيبون وخبثاء معاً..


حدث عند أميل حبيبي شيء من هذا: انهار السدّ بينه وبين العدو، ولم يعد العدو عنده شرّاً مجسّداً. والاختلاط، ذو الأثر السلبي، هو الذي حذّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: "أنا بريء ممن عاش بين أظهر المشركين". فهكذا تفعل المعاشرة حين تكون بين طرفين: أحدهما مهزوم حتى نخاع العظم، والثاني منتصر حتى ذؤابة الشعر!


روائي فلسطيني اسمه أحمد عمر شاهين يقول في إحدى صفحات الكتاب: آخر لقاء لي مع أميل حبيبي (سنة 1994م) كان في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وفيه هوجم أميل حبيبي يومها هجوماً شرساً على موقفه من التطبيع الثقافي وغير الثقافي مع إسرائيل. قال بنبرة أسى ساخرة: جمال الغيطاني قال في المعرض: إن الإسرائيليين شذاذ آفاق، فكيف تكون لهم ثقافة؟ ضحك أميل بافتعال، ثم نظر إلينا بجدية قائلاً: هؤلاء زبدة الناس لو تعملون! وكررها مرتين. لم أعلّق. لم أقابله بعدها، أو أسعى إلى مقابلته. قلت للصديق غالب شعث: يبدو أن الرجل قد أصبح في الجانب الآخر تماماً.


في الكتاب فصول كثيرة يعرض فيها الباحث الفلسطيني لجوانب أخرى من سيرة أميل حبيبي تصب في الاتجاه العام لكتابه، أي في أنه أصبح في الجانب الآخر تماماً. وهناك فصول أخرى يدرس فيها الباحث الجانب الإبداعي في أميل حبيبي صاحب الروايات الثلاث المعروفة: "سعيد بن أبي النحس المتشائل"، و"أخطيّة"، و"سرايا بنت الغول" ومنها يصل إلى نتائج تؤيد وجهة نظره.


وأود أن أشير أخيراً إلى أنني لم أفاجأ بكل ما أورده الباحث الفلسطيني خضر محجز في كتابه. ففي المرات القليلة التي التقيت فيها بإميل حبيبي في القاهرة، قبل وفاته بسنوات قليلة، سمعتّ منه أفكاراً مشابهة أو مماثلة لما ورد في الكتاب الذي نعرض له. ولو سُئلت عن الأسباب التي أفقدت أميل حبيبي وطنيته الفلسطينية والعربية وجعلته يلتحق على هذا النحو المخزي بالإسرائيليين؛ لعزوت السبب الأساسي إلى التربية الشيوعية التي خضع لها "المتشائل"، وهو في سنوات المراهقة والشباب المبكر، حيث الحديث عن "الأخوة النضالية" بين العرب واليهود، وحيث ضعف الحسّ القومي العربي. يلي ذلك انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية، وانهيار فلسطين ذاتها، وحيث "المتشائل" في مجتمع يسيطر عليه اليهود. لذلك كان من الطبيعي أن يصل الأمر به إلى "حالة التهوّد" التي كانت تربيته الشيوعية في "راكاح" وجريدة "الاتحاد" في حيفا، سبيله إليها.