زياد منى



إميل حبيبي الوهم والحقيقة




الجزيرة نت.  13/1/2007


  

من الأمور المهمة التي يلاحظها المرء، بالعلاقة مع موقف المثقف الفلسطيني ودوره في العملية السياسية الجارية منذ تبني المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 ما سمي "برنامج النقاط العشر" أو "البرنامج المرحلي" الذي فتح المجال أمام الحركة الوطنية الفلسطينية للقبول بسياسة دولتين لـ"شعبين" هو عدم توفر أي تقويم مسهب لذلك الدور.


فقد تجنب المفكرون العرب، بأغلبيتهم، الدخول في معترك الصراع السياسي والفكري الفلسطيني الفلسطيني الذي نشأ بعد تبني ذلك البرنامج السياسي الذي أوصل القضية الفلسطينية بالضرورة إلى اتفاقية أوسلو وما تلاها، وصولا إلى الوضع الكارثي للشعب الفلسطيني وحركاته السياسية.


لكن الساحة الثقافية الفلسطينية كانت دوما حبلى بالصراع، الديمقراطي في أغلب الأحيان، بين تيارين متناقضين، أحدهما وقف إلى جانب القيادة الفلسطينية وبرنامجها السياسي، والآخر رفض أي حلول تنال من حق العرب التاريخي في فلسطين، أو حتى المساس به.



الكتاب: إميل حبيبي.. الوهم والحقيقة:

المؤلف: خضر محجز

عدد الصفحات: 442

الناشر: قدمس للنشر والتوزيع، دمشق

الطبعة: الأولى/2006



كاتب وكتاب:


الكتاب الذي بين أيدينا هو أنموذج جديد للصراع، أو لنقل: الحوار، الداخلي الفلسطيني، حول قضايا تاريخية أساسا، حيث يتناول بالبحث السياسي والثقافي، شخص الأديب الفلسطيني إميل حبيبي ومواقفه من القضية الفلسطينية، على خلفية قبوله "جائزة إسحق شامير الإبداعية" عام 1992


قبل التعامل مع محطات الكتاب من الضروري لفت انتباه القارئ إلى أن المؤلف، د خضر محجز، ليس كاتبا مغمورا يبحث عن شهرة وإنما باحث ومناضل قضى سنين عديدة في السجون الإسرائيلية، وكان من ضمن مجموعة المناضلين الذين أبعدتهم إسرائيل إلى مرج الزهور في لبنان، حيث اشتهر وقتها بصفة (شاعر المبعدين).


المؤلف، الذي يعمل إلى الآن في وزارة الثقافة الفلسطينية في مدينة غزة، كتب المؤلف كرسالة دكتوراه قدمها لمعهد البحوث والدراسات العربية، المنبثق من جامعة الدول العربية، بعنوان: "البنية الثقافية في كتابات إميل حبيبي"؛ بإشراف الدكتور صلاح فضل، وتمت مناقشتها في جلسة علنية، بمقر المعهد بالقاهرة، في السادس من يونيو/حزيران عام 2006، بمشاركة هيئة المناقشة، التي أوصت بدورها بطباعة الرسالة، التي نالت درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، وتعميمها للتداول في الجامعات العربية كافة.


أما المؤلف فإنه يتحدث عن نفسه بالقول "نشيط سياسي سابق، وغير مؤمن بالعولمة، ولا بالحداثة، ولا بالماركسية، ولا بالليبرالية الجديدة ولا القديمة، ولا بالإسلام السياسي، ولا بالديمقراطية، ولا بالدكتاتورية، ولا بالشورى على طريقة حماس، رغم انتمائي السابق لحماس، وكفاحي ضد العدو الصهيوني في صفوفها، طوال عقد ونصف من الزمان".


متطرف قومي وأخلاقي ـ والكلام مازال لخضر ـ لا يعجبني العجب ولا الصيام في رجب.. موظف بقرار فوقي.. وغير قابل للترقي مهما حدث، وذلك لأن الوزير الفتحاوي يعتبرني حمساويا متخفيا في فناء بيته، والوزير الأمريكي يعتبرني مجنونا يستحق أن يحجر عليه في مصح عقلي، لأنني مصر على أن فلسطين لا تتسع لشعبين، في حين أن الوزير الحمساوي يعتبرني منشقا عن "طائفة أهل الحق" ومنافقا يتوظف بقرار عرفاتي.


ويقول أيضا: أنا مرابط في الوزارة على درجتي، لا أغادرها، ليصبح من كان مرؤوسا لدي، رئيسا علي، حتى وأنا دكتور!!.


النقد الثقافي:


قسم الكاتب مؤلفه الموسع إلى سبعة أقسام من بينها مقدمة وملحق.


وبدأ بحثه بخطة البحث حيث ناقش مجموعة من القضايا النظرية الصرف ذات العلاقة بالموضوع، ومنها ما هو "في البنية الثقافية" و"علاقة البنية التاريخية بالتاريخ" إضافة إلى عرض منهجية بحثه وآليته.


وهنا يقول الباحث إنه سيدرس كتابات إميل حبيبي "باعتبارها ظاهرة ثقافية، تشير إلى ما تحقق في لاشعور النص، ثم ما يتوخى هذا النص إشاعته في الحياة العامة لمجتمعه، من قيم وأيديولوجيا وسلوك وأخلاق وطرائق تحليل.. فالنقد هو: فن الحياة؛ كما تقول الدكتورة هدى وصفي".


أما مشروع النقد الثقافي، بحسب الكاتب، فإنه يسعى للتعامل مع النصوص الأدبية، من خلال إعادة وضعها داخل سياقها السياسي والاجتماعي الذي أنتجها، لأن النص علامة ثقافية، بالدرجة الأولى، قبل أن يكون قيمة جمالية.


وهذه العلامة الثقافية لا تتحقق دلالتها، إلا من خلال سياقي الإنتاج والتلقي: سياق المؤلف؛ ثم سياق القارئ، أو الناقد الذي تلقاها بعد ذلك في سعيه نحو التفسير.


وهو لا ينفي سمة سياسية للبحث، ضمن إطار النقد الثقافي، لأن مصطلح النقد الثقافي، حسب الكتاب، يوحي بموقف أيديولوجي إذ يفترض أن تحليل النصوص، كان يمر بمرحلة لا تلتفت إلى محتواها الثقافي. وهذه وضعية إشكالية، يسعى النقد الثقافي إلى تحليلها، وصولا إلى اقتراح الحل.


من غير الممكن البحث في الجمالية الأدبية بمعزل عن الفكر، أو الأيدولوجيا، لذلك رأى الكاتب أن المرجعية الأفضل لتقصي انتماء إميل حبيبي الفكري هو البحث عن دوره في الحركة الوطنية الفلسطينية قبيل النكبة.


إميل السياسي:


بعدها ينتقل الكتاب في المدخل المطول إلى شرح تقسيم الفصول، إذ الفصل الثاني مخصص للبحث في فكر إميل حبيبي.


وقد رأى المؤلف أن المرجعية الأفضل لتقصي انتماء إميل حبيبي الفكري هو البحث عن دوره في الحركة الوطنية الفلسطينية قبيل النكبة، مما قاده إلى بحث تاريخي قيم في تاريخ الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي كان إميل حبيبي عضوا فيه، حيث مثله في الكنيست الإسرائيلي، إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما استقال منه، بعدما أجبر على إخلاء موقعه البرلماني لصالح "رفيق يهودي"!.


وقد يبدو، للوهلة الأولى، أن هذا القسم، السياسي بامتياز، يتعارض مع وصف الكاتب عمله بأنه "مشروع نقد ثقافي" إلا أن قراءته، كجزء لا يتجزأ من المؤلف، تتجلى أهميته في موقف إميل حبيبي، الأديب، مع القوى السياسية الفلسطينية في إسرائيل وخارجها.


فبرأي الكاتب، من غير الممكن البحث في الجمالية الأدبية بمعزل عن الفكر، أو الأيديولوجيا. وقد اختار تقسيم إنتاج إميل حبيبي إلى إبداعي وفكري، حيث عد الأول: مجموع ما كتبه، في مجال القصة القصيرة، والرواية، والنصوص المسرحية. أما الإنتاج الفكري فهو: مجموع كتابات إميل حبيبي السياسية وتصريحاته، وحواراته الصحفية.


القسم الثالث من البحث خصصه د محجز لعرض نماذج من الكتابات السياسية والفكرية لإميل حبيبي، الرجل الذي أتى الساحة الفلسطينية بما لم يأتها به أحد قبله، وتغيرت مواقفه، أو بدا للمراقب أنها تغيرت، من النقيض إلى النقيض، وذهب فيه الناس مذاهب شتى، كانت هي الأخرى عرضة للتغير، تبعا لمواقفهم ومواقفه، بهدف استكشاف أهم معالم فكره.


وهذا القسم تمهيد للجزء الذي يليه حيث يطرح السؤال الأهم: لماذا انبهرنا بإبداعات إميل حبيبي الجمالية، وغضضنا الطرف عما تحتويه من مواقف ثقافية، قد لا نوافق على أكثرها؟


وهنا يتناول الكاتب مواقف حبيبي، السياسي، بدءا من مطلع أربعينيات القرن الماضي عندما انضم إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، وتصدى لمحاولة إعادة بناء حزب أممي، هدمته الفرقة والخلافات القومية، واختار الوقوف إلى جانب القيادة الشرعية، التي صادف أنها عروبية النزعة.


ويمر الكاتب على المحطات الأخرى في حياة الأديب الفلسطيني، مرورا بالانكسار والعدمية القومية في مرحلة النكبة، ومن ثم تحوله إلى مناضل مدني، ومن ثمة هزيمة يونيو/حزيران وحرب أكتوبر/تشرين إلى مرحلة أوسلو وتأسيس مجلة مشارف، الأوسلوية النزعة.


إميل المبدع:


القسم الرابع خصصه الكاتب للبحث في الإنتاج الإبداعي من منظور ثقافي، فتعامل بإسهاب مع مجموعة من أكثر نصوص إميل حبيبي شهرة، وعلى وجه التحديد "المتشائل" مرورا بـ"اخطية"؟ وأخيرا "خرافية سرايا بنت الغول".


وهنا يقوم الباحث، إضافة إلى مناقشته نصوص حبيبي، يناقش التعامل المسهب لبعض المثقفين الفلسطينيين والعرب، المتناقض أحيانا، مع كتابات إميل.


وقد خص بالذكر الكاتب اللبناني التبعية الفلسطيني الهوى، إلياس خوري، وصلاح فضل، وكلا من أحمد دحبور وفاروق وادي وفيصل حوراني الذي كتب عن حبيبي أن "تاريخ الأدب العربي لم يعرف قبله كاتبا مثله، استحوذ على عصارة التراث، وعصارة الحداثة وعصارة خبرة متفهمة لأحوال الناس".


ويتساءل مستغرباً: أين ذهبت "لامية العرب" والمتنبي وأبو العلاء ومحمود درويش وغسان كنفاني وإدوارد سعيد وتوفيق الحكيم ويوسف القعيد والطيب صالح والزيني بركات وثلاثية خيري شلبي وخالتي صفية والدير وليون الإفريقي ومدن الملح وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وشكاوى المصري الفصيح وجلجامش. هذا يقنع بأن موقف بعض الكتاب من إميل حبيبي الأديب ذو خلفية سياسية لا أكثر.


في القسم الأخير من العمل يخلص المؤلف إلى أن حبيبي اتبع في كتاباته أنساقا هي: نسق الحكمة الكلية، ونسق التأثير لا نسق الإقناع، ونسق استخدام التراث كخيار أسلوبي فحسب، والنسق الشرقي في تناول قضايا المرأة، ونسق التهوين المستمر من أمر العمالة للعدو.


لكنه عندما يطرح السؤال: لماذا أحببنا "المتشائل" بعد كل ما علمناه عن إميل حبيبي؟، يجيب بالقول: إننا أحببنا الصنعة، ولكننا لم نحب المصنوع، وعندما التبس الأمر على الصانع، وتماهي في المصنوع كرهناه.


لقد أحببنا الجمال في لوحة ترسم كيف يسيطر القبح على أرواح بعض الناس، ويحولهم إلى أعداء لأنفسهم؛ ولم نحب أبدا هؤلاء البعض، ولم نتمن أن نكون مثلهم، مهما تقلبت بنا الأيام.


وقد أرجع الباحث هذا التناقض إلى فعل النسق المتجذر في تاريخ التلقي العربي للأدب، الذي ظل محكوما بالنزعة الجمالية، التي صرفته عن قراءة الأدب، باعتباره درسا إنسانيا عظيما. وألهته ـ يقول د خضر ـ من ثم عن فضح تأثيراته السلبية، في مجمل الوعي العربي، حيث تكرس الفصل المبكر، بين المحتوى الفلسفي الأخلاقي للشعر والأدب، والبلاغة اللغوية، التي سُمح لها بأن تقول ما تشاء، ما دام قولها محروسا بالجمال التصويري، حتى ولو خالف كل قواعد المنطق والأخلاق!.


والمؤلف يقول هذا في ضوء الاتهامات الكثيرة التي وجهت إلى إميل حبيبي بأنه شارك في جلب السلاح من تشيكوسلوفاكيا للحركة الصهيونية قبيل النكبة، واعترافه العلني بأنه هو "المتشائل".


أما الملحق فيحوي مجموعة من الوثائق الخاصة بتطور الحزب الشيوعي الفلسطيني، ومن ثم الإسرائيلي، ومواقفه من القضية الفلسطينية، كما يضم مجموعة من المقالات التي تعكس مواقف إميل حبيبي السياسية، أخص منها بالذكر مقالة الشاعر الفلسطيني راشد حسين "حين يجوع التاريخ" التي نشرها في مجلة الفجر التي كانت تصدر في تل أبيب، بتاريخ 12/10/1959، حيث اتهمه ومعه الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ضمنا، بالقول: نحن القوميين العرب لن ننسى الذين طعنوا قوميتنا أمس، ويطعنونها اليوم.


لا شك في أن هذا الكتاب سيثير إشكالية في الساحة الثقافية الفلسطينية، لكنها مهمة وضرورية كمدخل لمراجعة النفس ومحاسبة الذات على ليونة كثير من المثقفين الفلسطينيين تجاه مسائل وطنية وقومية مصيرية لا اجتهاد فيها.