سميح القاسم



نقطة. سطر جديد


لا.. يا حبيبي!




كل العرب (فلسطين 48). 2/2/2007 


"الدراسة الجديدة"، عن الكاتب الراحل إميل حبيبي، والتي راجعها في العدد الماضي أخي وصديقي الأستاذ وديع عواودة، لا يجوز أن تمر هكذا، بلا تعقيب. ومع احترامنا لحرية البحث وإعادة النظر، فإننا ندعو إلى احترام النهج العلمي والدقة التاريخية في متابعة المواقف وتحليل الأحداث، عكس النهج السائد في معظم أنشطة التأريخ العربية المعاصرة، هذا النهج الانتقائي والموجّه، الذي يضع الاستنتاجات سلفا ثم يطوّقها بالاقتباسات المجزوءة آو المزورة أو المشوّهة، لتأكيد الهدف المضمر أو المعلن سلفا، كأن نذبح شخصا ما، ثم نجرى له محاكمة ونشتري الشهود ونضع الأقوال في أفواههم لتبرير عملية الذبح وشرعنتها، وكما نعلم، فان الأنبياء والخلفاء والقادة التاريخيين والمعاصرين وكبار الأدباء والمفكرين والمنظرين، لم يسلموا عندنا من إعادات النظر العشوائية. وها هو جمال عبد الناصر، مثلا، يظهر بطلا تاريخيا عند بعض المؤرخين العرب ويتحول إلى "مجرم خطير" عند مؤرخين آخرين مجايلين لزملائهم.


صحيح أن كتابة التاريخ لا يمكن أن تخلو من وجهة النظر والموقف، وصحيح أن الأقوياء والمتحكمين يفرضون صياغة التاريخ بما ينسجم مع أهوائهم وإراداتهم، لكن ذلك لا يعني التنكّر التام لمتطلبات الشجاعة والصدق في البحث الأكاديمي والتأريخ الموضوعي قدر الإمكان. ومن هنا فإنني أرى أن الكاتب الراحل إميل حبيبي تعرض لكثير من الظلم في الدراسة المشار إليها والتي استعرضها أخي وصديقي الأستاذ عواودة في العدد الماضي من "كل العرب". وحتى لا أتهم بالتحيز و "بالفزعة العشائرية"، فلا بد من التنبيه إلى أن إميل حبيبي غادر الحياة الدنيا ونحن على قطيعة تامة. ولا اكشف سرا حين أقول إن خلافي معه كان على خلفية سياسية وفكرية وأيديولوجية واضحة ومعروفة ومنشورة في وسائل الإعلام، لكن بين هذا الخلاف وبين الاستنتاجات التي توصلت إليها دراسة الأستاذ خضر محجز، الصادرة في دمشق، مساحة شاسعة وخطيرة، ولا بد من تأكيد الإيضاحات التالية:


1ـ كان إميل حبيبي على امتداد مسيرته الفكرية والسياسية أممياً متشددا، الأمر الذي أوقعه أحيانا في ما تجوز تسميته بالمطبات النهلستية (العدمية القومية)، جرّاء الدهاء الإعلامي الصهيوني من جهة وغوغائية الطرح القومجي الإنشائي الفارغ والكاذب الذي مارسته بعض التيارات العربية لتبرير قصوراتها وهزائمها، ومن هنا فكثيرا ما تحدث إميل حبيبي وكتب عن "الفرج العربي" الذي تتمتع به إسرائيل وتستفيد منه.


2ـ أشارت الدراسة إلى تعبير "لا تلوموا الضحية" الذي أكثر إميل حبيبي من استعماله في أحاديثه وكتاباته.. وللحقيقة فان "الضحية" التي عناها إميل حبيبي هم نحن العرب والفلسطينيين لا اليهود أو الصهاينة. وكان يستعمل هذا التعبير في حواراته الكثيرة مع الإسرائيليين الذين ينهالون على المقاومة الفلسطينية بتهمة "الإرهاب"، أو ينعتون العرب الباقين في وطنهم تحت الحكم الإسرائيلي بالتطرف وبمعاداة دولة اليهود.


3ـ يعلم جميع المعنيين بأنني دخلت شخصيا عدة مواجهات سياسية وفكرية مع قياديين في الحزب الشيوعي، وبضمنهم إميل حبيبي، حول المسألة القومية، كما يعلمون أن بعض المتشدّقين اليوم بالقومية العربية كانوا آنذاك في الخندق المضاد للفكر القومي العربي التقدمي، وكانوا عونا علي لا لي، لكن ذلك لا يعني أبدا جواز التطاول على الحزب الشيوعي وعلى تاريخه الطويل في تبني القضايا القومية والوطنية والدينية للجماهير العربية الباقية في بلادها تحت الحكم الإسرائيلي، وسياسة هذا الحزب ووسائل إعلامه وتضحياته هي التربة التي نبت عليها كثيرون من المزاودين عليه والمحرضين على تاريخه في هذه الأيام الساقطة والبائسة والمنحطة.


4ـ لو صح أن إميل حبيبي كان مع "التماهي والاندماج والتخلي عن الهوية" كما تزعم الدراسة المشار إليها، لما اختار الحزب الشيوعي، ولكان انضم ال2ى حزب صهيوني يعطيه أكثر بكثير مما يستطيع الحزب الشيوعي عرضه عليه. ثم إن أية عودة، غير ملغومة وغير مفخخة وغير استباقية، إلى أعماله الأدبية والى كتاباته السياسية، تنفي مثل هذا الادعاء، الظالم بل تؤكد على أن الرجل قدم إسهاما كبيرا في بلورة الهوية القومية العربية التقدمية (وأصر على التقدمية!)، وقيادته ومشاركته في التظاهرات والمسيرات والمهرجانات والفعاليات العربية الشعبية في مختلف أرجاء بلادنا، لا يجوز إلغاؤها بجرة قلم. ثم إن إميل حبيبي ورفاقه كانوا الوحيدين من المحيط إلى الخليج الذين رفعوا شعارات حق تقرير المصير وإقامة الدولة العربية الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف وحق العودة والالتزام بالشرعية التاريخية والدولية، بينما كان الوطن العربي كله غارقا في النوم والانقلابات العسكرية التافهة وإجهاض الثورات الشعبية الحقيقية والقمع والاضطهاد والكبت والحرمان وتشغيل أجهزة المخابرات والعسكر ضد الشعب العربي لا ضد إسرائيل وبريطانيا وأمريكا وسائر قوى الاستعمار والرجعية والصهيونية..


5ـ كان إميل حبيبي ورفاقه في عصبة التحرر الوطني الفلسطينية أول من رفع شعار مقاومة الاستعمار البريطاني في فلسطين، وإقامة الدولة الديموقراطية، للعرب واليهود، في فلسطين، لكن الرجعية العربية الحاكمة، التي أحبطت إضراب سنة 1936، بالتعاون مع "الحليفة بريطانيا العظمى" المرهونة للحركة الصهيونية، وغياب الوعي القيادي السياسي في فلسطين، كل هذه الأمور أدت إلى مشروع التقسيم، وقبلت به عصبة التحرر الوطني مغلوبة على أمرها، وخوفا من الأسوأ الذي تعرض له شعبنا لاحقا، وما زال يدفع ثمنه دماء ودموعا وتشردا وبؤسا وعذابا. وها أنذا استعير هنا تعبير إميل حبيبي الشهير "لا تلوموا الضحية.!".


6ـ لا اقر تخوين إميل حبيبي والتشهير به، حيا أو ميتا، بمثل ما لا اقر تخوين المقيمين الباقين على ارض الوطن بعد النكبة، حتى إن بعض السياسيين والمثقفين العرب الذين تعاونوا مع بعض الأحزاب الصهيونية أو عملوا في وسائل إعلامها (لم أكن منهم ولست بينهم) حتى هؤلاء لا اقر تخوينهم، بمثل ما يخون الجواسيس والعملاء وسماسرة الأرض، لان الشروط التاريخية التي نشأت بعد قيام الدولة العبرية، وتجاهل المؤسسة العربية الحاكمة في الأقطار العربية ووسائل إعلامها للمئة وخمسين ألفا من العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم تحت الحكم الإسرائيلي العسكري إلا والمدني- العسكري- المخابراتي، لاحقا والملابسات والتطورات السياسية في المنطقة، كل ذلك فرض نسقا استثنائيا على هذه الجماهير، يصح معه تكرار مقولة إميل حبيبي: "لا تلوموا الضحية!".. أو كما كان يقول في مواقع أخرى: "لا تتطاولوا على آبائكم".. أو "لا تشتموا آباءكم"!.


7ـ قد أكون الوحيد، من بين رفاق إميل حبيبي وأصدقائه القدامى، الذي لم يسر في تشييع جنازته، لشدة الخلافات وحدة التناقضات السياسية والفكرية التي شابت صداقتنا ورفاقيتنا القديمة والطويلة، لكنني اقبل بان أكون الوحيد، أيضا الذي يرفض التسبب في التأويل والتحليل، ضد هذا الكاتب المبدع والسياسي المناضل، الذي تضافرت عليه مؤثرات لا تحصى، من الداخل ومن الخارج، دفعته إلى اتخاذ مواقف متأخرة، قد يجوز لومه عليها، لكن لا يجوز، بالتأكيد، تخوينه وذبحه بها!