سميح غنادري




إميل حبيبي


باقٍ في حيفا وباقٍ في ذاكرتنا الوطنية الجماعية




كل العرب (فلسطين 48). 2/2/2007



حين أتجاوب مع نداء "كل العرب" بمناقشة دراسة خضر محجز عن "إميل حبيبي بين الحقيقة والوهم" والتي قام السيد وديع عواودة بمراجعتها في العدد الماضي من الصحيفة، لا أقصد الدفاع عن حبيبي الشخص فقط. وإنما عن ذاكرتنا الوطنية أدافع، محذراً أن ويلاً لأمة تبصق على تاريخها الوطني وتتقيأ على رموزها مصورة إياهم عملاء وخدماً للحركة الصهيونية، في حالتنا.


رفقاً بذاكرتنا الوطنية:


من واجبنا طبعاً مراجعة تجربة الحزب الشيوعي الإسرائيلي بإيجابياتها وسلبياتها، فكراً وسياسة وممارسة، وبصورة نقدية، وحبيبي كان قائداً في هذا الحزب لمدى أربعة عقود. ولكن لا معنى ولا فائدة من هكذا مراجعة إن لم تتسّم بالموضوعية وبالعلمية وبفهم تأريخ وظروف الحقبة.


يجري الحديث عن مائة وستين ألف فلسطيني بقوا في وطنهم بعد النكبة والتهجير "مقطوعين من شجرة، وأضيع من الكرام على موائد اللئام" وقد "انهار مجتمعهم بما فيه المدني"... كما كان يردد إميل حبيبي. وكان هاجسهم الأول "البقاء" في الوطن. وهاجس البقاء هذا وحفظ الذاكرة الوطنية والهوية القومية، هو الموضوع الرئيسي الذي يخترق كل كتابات حبيبي السياسية والأدبية.


تعدادنا اليوم أكثر من مليون نسمة، تغيّرنا كماً وكيفاً وتركيبة اقتصادية اجتماعية وثقافية وأدبية، واغتنينا تجربة وطنية. فبأي حق يبول بعضنا اليوم على ذاك الماضي ويشوه رموزه وكفاحاتهم؟ هل تعلمون أن أجدادنا قاتلوا للحصول على "الهوية الإسرائيلية" إبان الحكم العسكري ضماناً للبقاء في وجه التهجير، فهل نعتبر هذا "أسرلة وصهينة" اليوم؟ لقد درجنا جميعاً، بمن فيهم الوطنيون اللاشيوعيون، على تلك البيادر، وبرينا جميعاً مناقيرنا الغضة على جذور تلك السنديانة، بفروعها الصحفية من (الإتحاد) و(الجديد) و(الغد). فلنرفق بتاريخنا، دون أن نتنازل عن حقنا جميعاً بنقد تلك التجربة الماضية، ونقد رموزها - بمن فيهم حبيبي، سلباً كان أم إيجاباً.


عندما يكون الكذب مرجعية لدراسة:


لا أعرف كيف تمنح لجنة أكاديمية ما شهادة دكتوراه لبحث منافٍ للعلم بل وينضح بالأكاذيب. إليكم بعض الأمثلة: إميل حبيبي لم يعد إلى وطنه برعاية المؤسسة الصهيونية، بل عاد كإميل توما وغيرهما من الشيوعيين والآلاف من أبناء شعبنا المهجّر... متسللين. وحبيبي لم يجلب السلاح "مع رئيس حزبه ميكونس" للحركة الصهيونية سنة 48، بل أصلا كان قائداً في عصبة التحرر الوطني بقيادة فؤاد نصار، العصبة التي انشقت عن الشيوعيين اليهود منذ سنة 1945.


وليس "انحراف وانتهازية" حبيبي جعلا حزبه يفرض عليه الاستقالة من الكنيست سنة 1972، بل إصراره هو على هذه الاستقالة التي كان يطالب بها سنوياً إثر حرب حزيران 1967. وبرّر يومها سبب استقالته بأنه يريد التفرغ للأدب وللصحافة (رئيساً لصحيفة الإتحاد) حيث بإمكانه خدمة شعبه بشكل أفضل. وهذا صحيح وإن كنتُ أعرف أسباباً إضافية أخرى...


ويذهب خضر محجز إلى حد اتهام حبيبي بتأييده لإسرائيل ضد العراق وبدعم الحرب الأمريكية على العراق سنة 1991 "لمعاداته القومية العربية" (؟!). مقالاته ضد الحرب ما زالت طرية يا "دكتور". لقد وقف ضد احتلال العراق للكويت واعتبر هذا مغامرة ستجر الويلات على شعبنا. ويا "دكتور" الذي دعم بل وشارك في حرب واشنطن ضد العراق هي دول عربية بما فيها عاصمة تنشر "دراستك" الرخيصة هذه!


وحبيبي لم يقل ويردّد مقولة "لا تلوموا الضحية" دفاعاً عن اليهود بصفتهم هم "الضحية" أإلى هذا الحد ينزلق الافتراء؟ قالها وردّدها: لا تلوموا الضحية ـ شعبه ـ لأنها انهزمت أيام النكبة وتهجرت. ولأن بقيتها بقيت في وطنها واهتمت بحقها في البقاء وبضمان لقمة عيشها. "ولا تلوموا الضحية" على إتيانها بأعمال وتصرفات مغامرة. ولا تلوموها ولا تسألوها عن رأيها في قتل الأطفال... إذ أنها هي الطفل القتيل. ولا تقتلوا الضحية ـ القتيل ـ مرتين، بلومكم لها.


وحبيبي لم يبرئ الصهيونية من العنصرية في مؤتمر الأدباء في عشق آباد عام 1989 وإنما نادى بالحوار مع أدباء ومفكرين يهود يناضلون ضد الاحتلال ويؤيدون حقوق شعبنا، حتى لو لم يقرّ بعضهم أن الصهيونية حركة عنصرية. وهو لم يدعُ للتطبيع الثقافي مع إسرائيل الصهيونية، بل نادى إلى التعاون والحوار مع قوى ديمقراطية ويسارية إسرائيلية تقف ضد سياسة حكومتها.


وأخيراً، لم يقم الحزب الشيوعي بطرد حبيبي من صفوفه "لانتهازيته ولانحرافه" (؟!) وإنما حبيبي هو الذي استقال من الحزب ومن كل مراكزه فيه بعد أن أعاد النظر في فكر وسياسة وتنظيم الحزب. واتهمه يومها سكرتير عام الحزب "بالإنحراف القومجي" وبعدم صلابته "أممياً وطبقياً"(؟!).


اللاأدب في فهم الأدب:


"الباحث المطلع" خضر محجز، لا يكتفي بتخوين حبيبي سياسياً وإنما أيضا يخوّنه ثقافياً وأدبياً معزياً التقييم الإيجابي الكبير بأدب إميل حبيبي، عربياً وعالمياً، إلى عدم فهمنا للمواقف الثقافية الانتهازية في أدبه الممالئ للصهيونية(؟!). أما هو "الفاهم" فيقرر أن حبيبي اعترف أن المتشائل العميل هو حبيبي نفسه، فإميل هو "بطله المتشائل بضعفه وخيانته وعمالته وتفضيله البقاء تحت الاحتلال على خازوق". ويضيف أن حبيبي يؤجل الحكم على المتشائل في روايته "لإتاحة الفرصة لظهور عملاء آخرين"(؟!).


الذي يورد استشهاداً، يقول فيه حبيبي إنه هو المتشائل، مبتوراً ومنزوعاً من سياقه ومخفياً ما يتبعه من توضيح للمعنى، كدليل على اعتراف حبيبي بأنه خائن وعميل، يكون مجرد أفّاق حقير. لقد قصد حبيبي ـ وهذا واضح في كل المقابلات معه بهذا الخصوص ـ أنه المتشائل بضعفه الإنساني وتردده. وعطف حبيبي على المتشائل وتفهمه له ـ وهكذا عطفنا وتفهمنا جميعاً ـ ليس عطفاً وتفهماً للخيانة وإنما فهماً للضعف الإنساني، والتردد ولمواقف الأغلبية الصامتة، التي قد تهن في ظروف قاهرة، وواجبنا إنقاذها.


وطبعاً هناك استعارات ووقائع من سيرة حياة حبيبي وعائلته في المتشائل، وكذلك في كل أبطال وبطلات رواياته، بعد إجراء التحوير الأدبي اللازم عليها. لكن هذا لا يجعل المتشائل حبيبي وحبيبي هو المتشائل. المتشائل متعاون وإحدى مهماته التجسس على الشيوعيين والوطنيين، بينما حبيبي (الشيوعي إبان حقبة المتشائل) يُطلق لسان المتشائل بسخرية ناقدة لاذعة على الدولة ورموزها، هي قمة في العمق والجمالية.


ويدعي "الدكتور المطلع" أن حبيبي لم يحكم على المتشائل. لن نناقشه في محاولته تحويل الأدب الى ما أشبه بالمحاكم الأيديولوجية. ولكن قرأنا في المتشائل كيف حبيبي جعل المتشائل يزحف على بطنه سابحاً في المياه القذرة التي فاضت من المرحاض، بينما "يعاد" حين يلقيها الجنود من غرفته على أرض الشارع، تقع واقفة على قدميها، شامخة الرأس، شاتمة إياهم صارخة: هذا بيتي (هذا وطني!).


ورأينا كيف ينهي حبيبي روايته بموضعة المتشائل على خازوق، رافضاً لدعوة الشارع الوطني "من لا يريد أن يقعد على خازوق ينزل الى الشارع". ثم يجعله يختفي في الفضاء في صحبة شخصية غيبية جاءته من هناك، مشكلاً غيمة، فيجتمع الناس ويزغردون. أما يعاد فتقول: "حين تمضي هذه الغيمة تشرق الشمس". فأي حكم تريده، يا أستاذ، أوضح من هذا؟!


كما قال حبيبي أكثر من مرة، يهرب القائد السياسي، من انتهازية وميكيافيلية ولا أخلاقية السياسة أحياناً، الى الأدب حتى يختلي بعقله الباطني وضميره وصدقه العفوي وقيمه الأخلاقية... ليطلقها كلها على سجيتها أدباً جميلاً وصادقاً لا تلوثه مساومات السياسة.


وبإمكانكم أن تجدوا مائة مثال ومثال على هذا في أدب حبيبي. ففي قصة "بوابة مندل باوم" يجعل طفلته لا تأبه بعسكر الحدود وتتعداها، فالأرض (الوطن) والجدة (الأهل) هنا وهناك واحد. منطق الأطفال العفوي لا يعترف بحدود وقوانين احتلال "إنه منطق بسيط غير مركب. ما أسلمه" هكذا ينهي حبيبي قصته.


وفي المتشائل، في مقطوعة "سعيد في بلاط ملك" نجد تغنياً وتمجيداً للفدائي، ندر مثيله في أدبنا الفلسطيني، وهذا في وقت كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي ضد الأعمال الفدائية. وفي مقطوعة أخرى بعنوان: "آخر الحكايات" يهرب ولاء ابن سعيد المتشائل نحو قبو في البحر عند شاطئ الطنطورة، ليتناول رشاشاً من صندوق قديم، خبأه هناك جده، كما عرف من أمه "باقية"، حتى يصبح فدائياً. وولاء سماه والده سعيد المتشائل بهذا الاسم، حتى ينشأ موالياً للدولة!


تلحق به أمه باقية (وترمز الى الشعب الباقي في وطنه) وتحاول إقناعه بأن لا يغامر، وتنصحه باتباع أسلوب آخر من النضال لإشراق الشمس، فيرفض. فكيف يتصرف حبيبي مع بطلته باقية؟ يجعلها تفلت من بين الجنود، مندفعة نحو القبو في البحر، لحماية ابنها صارخة: "في الصندوق رشاش آخر".


وتبقى آبارنا نقية:


فبأي رشاش ومن أي صندوق؟ وبأي حق يطلق خضر محجز "رصاصاته" على شعبنا وتاريخنا وتجربتنا الوطنية ورموزنا؟ يوجد عندنا ـ وعندي شخصياً ـ العديد من الملاحظات النقدية بحق المسيرة الوطنية والسياسية، لهذا الشعب الباقي في وطنه، ولرموزه عموماً، بمن فيهم إميل حبيبي شخصياً.


"باقية" الشعب لا تتخلى عن أبنائها، فبأي حق يريدنا "باحث أفّاق" أن نتخلى عن ذاك الـ"باقٍ في حيفا" حارساً لذاكرتنا الوطنية، وأن نتهمه بالعمالة، حتى لو اختلفنا معه بخصوص موقف أم ممارسة ما؟


لقد خاطب شاعرنا الفلسطيني محمود درويش جثمان إميل حبيبي وهو مسجّى أمامه، فقال:


"باقٍ في حيفا، حيّاً وحيّاً. باقٍ في حيفا هو الاسم الذي سمّيت به اسمك... لا كـَيْ تحدد الفارق بين الباقي في منفى هويته وبين العائد إلى هوية منفاه... بل لتحفر فوق المخطوطات ما لستَ في حاجة إلى تأكيده، إلا لمواجهة زمن طال فيه الشك شرعية الأم. لم يرتكب شعبك من خطيئة سوى اسم هذه الهوية الذي تحفره في قطعة من رخام وفي الذاكرة الجماعية... أكثر من جيل واحد من الباقين هنا يعبر عن دَيْنه لك، للطريقة التي حللت بها جدلية التوتر الوجودي والثقافي بين الجنسية والهوية، بطريقة واحدة هي البقاء والدفاع عن حقهم في المساواة، وإمداد عناصر الهوية بمكوناتها الوطنية والقومية، التي لا وجود لهم بدونها. فطوبى لك أيها المعلم الذي جعل الحنين فاكهة، وسيّج الحيرة بزهرة القندول".


هذه هي حقيقة إميل حبيبي. أما خربشات خضر محجز بحقه، فتبقى أوهاماً مريضة لن تصيب بالضرر مكانة حبيبي في ذاكرتنا الجماعية، وهي لن "تفيد" طبعاً إلا كاتبها، على غرار ذاك الولد الذي سمّم بئر القرية، علّه يصبح مشهوراً ويلتفت الناس إليه.