عمر كوش



إميل حبيبي: الوهم والحقيقة 


 

 

السفير اللبنانية. 19/1/2007




  مؤلف هذا الكتاب هو خضر محجز، شاعر وروائي فلسطيني، صدرت له مجموعتان شعريتان وثلاث روايات: «قفص لكل الطيور، 1997»، و«اقتلوني ومالكاً، 1998»، و«عين اسفينه، 2005» التي تتحدث عن تجربة الإبعاد في الجنوب اللبناني، حيث كان أحد المبعدين الفلسطينيين البالغ عددهم أربعمئة وخمسة عشر شخصاً، والذين أبعدتهم إسرائيل إلى الجنوب اللبناني في المنطقة التي عرفت بمرج الزهور، وذلك في 17 ديسمبر 1992.


يتناول المؤلف في كتابه «إميل حبيبي: الوهم والحقيقة» موضوعاً حساساً للغاية في الساحة الفلسطينية، وهو موضوع الأديب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي الذي حاز على «جائزة الإبداع الإسرائيلية» عام (1992م)، وتسلمها من يد رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير، في عزّ الانتفاضة الأولى. وسبق له وأن تسلّم حبيبي «جائزة القدس» لعام 1990م من يد ياسر عرفات.


في بداية كتابه، يعيد المؤلف إلى أذهاننا أسئلة أكاديمية مطروقة من قبيل: لماذا إميل حبيبي، وما هي البنية الثقافية، وما هو المنهج والكيفية وآليات البحث فيه؟ ثم تتطور الأسئلة مع الذهاب في صفحات الكتاب إلى: لماذا أحببنا (المتشائل) بعد كل ما علمناه عنه؟ وقد قرأنا الرواية وتعاطفنا مع البطل المهشم ومنحنا لإميل حبيبي جوائزنا وإعجابنا. فلماذا الآن نقول فيه ما نقول؟


ويعثر المؤلف على أجابته في كوننا «أحببنا الصنعة. ولكننا لم نحب المصنوع. وعندما التبس الأمر على الصانع، وتماهى في المصنوع، كرهناه». لقد أحببنا الجمال في لوحة ترسم كيف يسيطر القبح على أرواح بعض الناس، ويحولهم إلى أعداء لأنفسهم؛ ولم نحب أبدا هؤلاء البعض، ولم نتمن أن نكون مثلهم، مهما تقلبت بنا الأيام.


وسبب ذلك هو فعل النسق الثقافي المتجذر في تاريخ التلقي العربي للأدب. ذلك النسق الذي ظل محكوماً بالنزعة الجمالية، التي صرفته عن قراءة الأدب، باعتباره درساً إنسانياً عظيماً. وألهتْه من ثمّ عن فضح تأثيراته السلبية، على مجمل الوعي العربي، حيث تكرس الفصل المبكر، بين المحتوى الفلسفي الأخلاقي للشعر والأدب، والبلاغة اللغوية، التي سُمح لها بأن تقول ما تشاء، ما دام قولها محروساً بالجمال التصويري، حتى ولو خالف كل قواعد المنطق والأخلاق.


وفي سياق البحث في مختلف جوانب شخصية إميل حبيبي الأدبية ومواقفه السياسية، تتكلل محاولات الوصول إلى إجابة عن بعض الأسئلة المهمة المرتبطة به وبمؤلفاته الأدبية، وعلى نحو خاص، ثلاثية المتشائل، وسبب تأثيرها الإيجابي في الساحة الأدبية العربية مع ما تحمله من رسائل خطيرة إلى المتلقي.


وفي الخطوات الإجرائية، يعود المؤلف إلى الشكلانيين الروس، وإلى موت المؤلف، والبنية الثقافية والتاريخ، ليعلن انحيازه إلى النقد الثقافي، بوصفه مشروعاً يسعى للتعامل مع النصوص الأدبية بواسطة إعادة وضعها داخل سياقها السياسي والاجتماعي الذي أنتجها، ذلك لأن النص علامة ثقافية، بالدرجة الأولى، قبل أن يكون قيمة جمالية.


ولا تتجسد دلالة هذه العلامة الثقافية إلا من خلال سياقي الإنتاج والتلقي، سياق المؤلف، وسياق القارئ، أو الناقد الذي تلقاها بعد ذلك في سعيه نحو التفسير والتأويل. وهو أمرّ سيحاول المؤلف تطبيقه في كتابه، من خلال اتباعه منهج نقد ثقافي يضع في اعتباره، وبنفس الدرجة، نقد الواقع، ونقد التمثيلات الرمزية المسماة أدباً. وهذا يقتضي الخوض في كتابات إميل حبيبي بوصفها ظاهرة ثقافية، تشير إلى ما تحقق في لاشعور النص، ثم ما يتوخى هذا النص إشاعته في الحياة العامة لمجتمعه، من قيم وأيديولوجيا وسلوك وأخلاق وطرائق تحليل. وخلفية ذلك تقول: إن النقد هو فن الحياة. لكن ذلك لا ينفي السمة السياسية للبحث، ضمن إطار النقد الثقافي، باعتبار أن النقد الثقافي ذاته يوحي بموقف أيديولوجي، من جهة أن تحليل النصوص يمرّ بمرحلة لا تلتفت إلى محتواها الثقافي.


لكن التمادي في ذلك يفضي إلى اعتبار أنه من غير الممكن البحث في الجمالية الأدبية بمعزل عن الفكر، أو الأيديولوجيا، وفي هذا عسف واختزال واضحين، سبق وأن وقع فيهما من قبل داعية النقد الثقافي عبد الله الغذامي. ومع ذلك قسمّ المؤلف إنتاج إميل حبيبي إلى إبداعي وفكري، حيث ضمّن القسم الأول مجموع ما كتبه، في مجال القصة القصيرة، والرواية، والنصوص المسرحية. في حين أنه ضمّن الإنتاج الفكري جملة كتابات إميل حبيبي السياسية وتصريحاته، وحواراته الصحافية.


ويتوقف المؤلف عند محطات من حياة إميل حبيبي السياسية، بدءاً من مطلع أربعينات القرن الماضي عندما انضم إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1940، وبرز على المسرح السياسي سنة 1943. وتعود نشأة حبيبي إلى أسرة ذات أُصول ريفية، تتطلع إلى الثورة على طبقتها الاجتماعية، والوصول إلى البرجوازية المدينية، متأثرة بأفكار تحوّل الطبقات. وقد قال عنها إميل حبيبي: «إنَّ عائلتي كانت تنظر دائماً إلى فوق: أي تحاول أن تتبرجز»، وصولاً إلى الكمال الشيوعي، حيث آخر المراحل، والجنة الموعودة.


غير أن انضمام إميل حبيبي إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، جاء بعد فشل ثورة 1936، ولم يدم سوى سنوات ثلاث، وقال فيه: لقد أوقفت حياتي بمجملها على بناء هذا الحزب: سنداً للشعب، ولكل المستضعفين في الأرض، ولقضية السلام والتقدُّم الإنساني. وكنت آنذاك في التاسعة عشرة من سني صباي». وتحوّل بعدها من الأممية إلى القومية، حيث انخرط في عصبة «التحرر الوطني» بحثاً عن سلطة تتلبس إيديولوجية حزبية تزعم رفض الكولونيالية الصهيونية. غير أن ما ثبت هو أن الايدولوجيا تعطي كبار الإيديولوجيين سلطة تحتكر لنفسها تفسير الايدولوجيا ذاتها، فضلاً عن سلطة المعرفة.


وعندما اشتعلت الحرب في فلسطين بين المواطنين والييشوف، بعد صدور قرار التقسيم في 29 (نوفمبر) 1947، انشغل إميل حبيبي بجمع كوادر العصبة الموالين له، لاتخاذ قرارٍ بقبول التقسيم، تناغماً مع موقف موسكو المؤيد له. وهو قرار بقي حبيبي يفاخر به طوال حياته. وفي بداية العام 1948 أحرقت الجماهير الغاضبة مقرَّات «عصبة التحرر الوطني»، فكفت العصبة عن الوجود، وهرب إميل حبيبي إلى لبنان.


وفي يوليو 1948، عاد إميل حبيبي إلى حيفا، في ظل دولة بن غوريون، ويُقال ان عودته كانت بمعونة الاستخبارات العسكرية لقوات الهاغانا، وشهدت تلك الفترة الملتبسة إعلان وحدة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وأصبح فيه حبيبي عضوا للجنة المركزية. ومنذ ذلك اليوم قرر أن يكون مخلصاً لهذا الانتماء الجديد، ومكتفياً بالمطالبة بحقوق مدنية (للسكان العرب) في الدولة اليهودية، ومدافعاً شرساً عن حق إسرائيل في الوجود.


ومنذ ذلك الحين تخلّق حبيبي إيديولوجياً لمرّة إضافية، لكن وفق وعي زائف، يفضل الحزب على الوطن، ويفسر مقولات الوطن من خلال شعارات الحزب. ويرى المؤلف أن هذا الوعي الزائف دفع إميل حبيبي إلى اعتبار الرفاق اليهود في صفوف الهاغاناه الذي قتلوا في معارك 1948، قد «سفكوا دماءهم دفاعاً عن الوطن»، بينما بخل حبيبي على إخوانه الفلسطينيين، حتى لحظات مماته الأخيرة، في الاعتراف لهم بمثل هذا الحق. ويمرّ المؤلف على محطات أخرى في حياة حبيبي ليصل إلى تحوله إلى مناضل مدني، وتأثير هزيمة حزيران وحرب تشرين، ثم مرحلة أوسلو وتأسيس مجلة «مشارف» صاحبة النزعة الأوسلوية.