لقاء صحفي مع فاتنة الغرة



الروائي خضر محجز


راوي المكان والتاريخ




مجلة الديمقراطي. رام الله. 11/9/2006




كاتب إشكالي في طرحه الروائي، إشكالي في حديثه، إشكالي في تصريحاته ومواقفه التي يطلقها عبر مقالاته المتعددة ، يمتشق القلم سيفا يشكل به واقعا موازيا وفكرا موازيا يخصه هو وربما يخص الكثيرين غيره. الكاتب الروائي والناقد د. خضر محجز،  مواليد العام 1952 في قطاع غزة. يسكن معسكر جباليا، ويعمل موظفا في وزارة الثقافة. صدر له: الانفجار "مجموعة شعرية"، اشتعالات على حافة الأرض "مجموعة شعرية"، قفص لكل الطيور "رواية"، اقتلوني ومالكا "رواية"، عين اسفينة "رواية". وله تحت الطبع كتاب نقدي: " البنية الثقافية في كتابات إميل حبيبي".


د. خضر محجز كاتب متمرد على كل شيء، خارج عن المنظومة التقليدية لما يعتقده البعض. حصل على الدكتوراه في النقد الأدبي عن أطروحته ( البنية الثقافية في كتابات إميل حبيبي)، التي حازت على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى من القاهرة والتي أخذت توصية بطبعها ونشرها وتداولها في كافة الجامعات العربية. وكان لنا معه هذا اللقاء:


فاتنة: د. خضر، وجهت لك انتقادات كثيرة من قبل بعض المثقفين والكتاب، لعملك الأول تحديدا "قفص لكل الطيور"، وانصب أكثر النقد حول منهج الرواية، الذي اعتمد الواقعية، إلى حد نقل الأشياء والأشخاص ـ وحتى الألفاظ ـ كما هي بوحشيتها، اعتمادا على أن الرواية عملية خلق واقع، لا عملية نقل واقع كما هو. ما تعليقك على هذا النقد؟


خضر: أولا قفص لكل الطيور كانت دفقة غضب وحشي، من كاتب قرر أن يفاجئ الجميعن بشتمهم في وجوههم. وأظن أن لغة الشتيمة لا تحتاج إلى تهذيب كثير، لأنها من الكلام اليومي الملقى على قارعة الطريق. ويجب أن نتذكر أن هذه الرواية كانت الرواية الأولى (قفص لكل الطيور) ومع ذلك فقد شكلت في حينها علامة مميزة على الطريق، وتكونت جماعات أدبية في قطاع غزة، على هامشها، اختلقتْ مهمة جديدة لها، تتمثل في إجراء الاستفتاءات السرية، بين بعض المثقفين، لمحاولة الخروج بنتيجة سلبية في وصف الرواية. ومن الجميل أن هذه التجمعات كان يرأسها كتاب من المتعاملين بالقص والسرد، على وجه العموم. وقد أثارت ثائرتها دراسة الشاعر أحمد دحبور عن الرواية، وتقريظه لها. والآن بعد أن انقشع الغبار، وبعد تفكك هذه المجموعات الأيديولوجية، تبين أن "قفص لكل الطيور" هي رواية رائدة في مجالها، ويكفيها أنها أحزنت هذا العدد الكبير من الكتاب. على كل، أود القول بأنني قد استفدت من هذه الرواية البكر، في وحشيتها واشتعالها، للتأسيس لتطوير هذه التقنية، فيما تلاها من الروايات، التي شكلت كل واحدة منها ضجة في حينها.


فاتنة: تعتمد بشكل كبير في كتاباتك على تقديم المعلومة المجردة، حتى أنك خصصت لها  فصل "عود على بدء" في رواية قفص لكل الطيور. فهل هذه تقنية تنوي استخدامها في أعمالك الروائية، وخاصة أنها موجودة في الروايات الثلاث؟


خضر: أعتقد أن هذه احدي تقنياتي الخاصة، التي أحاول أن ابتدعها، فلا فائدة في نظري من اتباع تقنيات محددة، جرى على إتباعها كتابٌ سابقون. فالرواية بطبيعتها صنف أدبي يتسع لرواية التاريخ، وللمعلومة الببلوغرافية، ولمناقشة الآراء الفلسفية، كما يتسع لرسم الشخصيات واستيعاب الأحداث، سواء بسواء. لقد رأيت أن عندي ما يمكن أن يقال، مما لم يُقل ولا يستطيع أن يقوله أحد غيري. لهذا فأنا أقوله. وشجعني على هذا ما وجدته لدى القارئ من حسن الاستقبال، ومع ذلك فأنا لا أزال أطور في أدواتي، وأُجري تعديلات على بعض تقنياتي، وصولا إلى ما أظن أنه الأفضل.


فاتنة: أدب السجون أدب أصبحت له مكانة كبيرة في الواقع الثقافي العربي، وربما يُعتبر الروائي عبد الرحمن منيف من أهم رواده. فهل تجد نفسك تسير على خطاه؟


خضر: لا، لقد قرأت منيف قراءة جيدة، كما قرأت غيره. وأنا معجب بكثير مما قرأت. لكنني أحاول اكتشاف أسلوبي الخاصن وطريقتي الخاصة. وبالتالي فأنا حريص ـ من خلال كتاباتي الروائية ـ على الاختلاف عن كل ما كُتب في الرواية، بحيث أرغب في أن يعرف القارئ، عندما يقرأ لي شيئاً، أن هذه هي بصمتي الخاصة، وأن هذا هو صوتي الخاص. وأعتقد أنني قد حققت شيئا من هذا في الروايات الأخيرة.


فاتنة: يلح عليك الهاجس الرقمي في تكنيك الرواية، وهي تقنية حديثة في الكتابة بشكل عام. فهل أنت معني بهذا؟


خضر: لا اعتقد أن هذا هاجس أو تقنية جديدة. فهي موجودة منذ فترة في عدد من الروايات، وهي ناتجة عن تأثر الرواية بلغة الصحافة. وأظن أن هذه الاستخدامات تقدم العامل النفسي، وتقربه من المتلقين أكثر.


فاتنة: اعتمدت في رواياتك الثلاث: "قفص لكل الطيور، اقتلوني ومالكا، عين اسفينة" على تصدير كل فصل بمقطع شعري، أو مقولة، وتحديداً في العمل الأول، ولكنك بعدها اقتصرت على الأخذ من التراث العربي. ما هي فلسفتك في هذه التقنية؟


خضر: أولاً أنا من الذين يعتقدون بغنى تراثنا العام، واتساعه وصلاحيته للاستشهاد والتناص واستخلاص المقولات العامة. وكما هو معلوم، فأنني ـ بسبب تربيتي الدينية ـ مترع بهذا التراث، إلى درجة إنني لن أبالغ إذا ما قلت بأنني قد قرأت العديد من أمهات الكتب والمجلدات الضخمة، في الأدب والسير والتاريخ والشعر والفقه وعلوم الحديث. والمتصفح لمكتبتي سيجد أن مئات الكتب فيها مطرزة حواشيها بتعليقاتي المتعددة على آراء الأقدمين. يمكن القول بأنني أحد الباحثين في التراث والمستفيدين منه. وبالطبع فسوف يظهر هذا في إنتاجي الروائي، كما ظهر في إنتاجي النقدي. وعندما اقتبس بعض المطرزات من هذا التراث، لأصدر بها فصلاً هنا، أو لأعلق بها على حاشية هناك، فإنني أتوقع أنني بهذا أقدم شيئاً جديداً للقارئ الحديث، الذي طالما سمع عن دي سوسيير، وتيري إيجلتون، وميلان كونديرا، ولم يسمع عن ابن المقفع، أو ابن عبد ربه، أو الجاحظ، أو الطبرين أو ابن كثير، أو غيرهم. أعتقد أنني أقدم هنا فائدة علمية، يتسع لها بناء الرواية الحديثة، وتشكل استراحة ما بين الفصول، يستريح خلالها القارئ من وعثاء هذا السرد المتدفق، الذي تتميز به حكاياتي  المتعددة.


فاتنة: قسمت روايتك الثانية "اقتلوني ومالكا" إلى ثلاثة كتب: كتاب المخيم، وكتاب الجية، وكتاب الحبس. ما مغزى هذا التقسيم؟


خضر: أنا لا أسال نفسي هذا السؤال، أنا أكتب والتقنيات تتداعى خلال الكتابة. وقد رأيت في حينها أن هذا مناسب، ففعلت: على طريقة اله سفر التكوين، الذي كان يصنع كل شيء، ثم يكتشف أنه جميلٌ، فيقرّه. ولكنني الآن إذا ما بحثت عن محاولة لتفسير ذلك، فسوف أقنع نفسي بأنه حتى تاريخ كتابة تلك الرواية، في العام 1998، لم يكن الروائيون الفلسطينيون قد تنبهوا بعد إلى أهمية كتابة رواية (ما قبل اللجوء) أو قصة النكبة وإرهاصاتها. أنا الذي ابتدأت هذا النوع من الكتابة، وأنا الذي جاء الآخرون ليقلدوه بعد ذلك. وعليك أن تتذكري أن الرواية التي صدرت عام 1998، كان من الطبيعي لها أن تكون مكتوبة قبل عام أو عامين من تاريخ النشر. فتاريخ النشر يشير فقط إلى نجاح الكاتب في اختراق الحصار الذي تفرضه وسائل النشر ـ المحسوبة على الاتجاهات المختلفة ـ على كاتب مستقل مثلي، لا ينتمي إلى هذا الاتجاه أو ذاك.


فاتنة: ألا تعتقد أن قولك هذا يثير سخط الروائيين، أو كتاب القصة، الذين كتبوا بعض الروايات التي تناولت النكبة، مثل الكاتب إبراهيم نصر الله، وغيره؟


خضر: أولاً أنا لا أدعي أنني أعلم كل ما كُتب، لكنني أدعي أنني مطلع على المشهد الثقافي الفلسطيني. وعلى حد علمي، لم أقرا لإبراهيم أو لغيره راوية تتحدث ـ تحديداً ـ عن واقع القرية الفلسطينية قبل 48. أعرف أن هناك من كتبوا في النكبة واللجوء، وأن ذلك قد كُتب مبكراً، لكنني هنا أتكلم عن واقع القرية الفلسطينية قبل الرحيل. وأود التذكير بأنني لا أحب أن أثير سخط أحد. فإذا كان إبراهيم نصر الله قد كتب رواية لا أعرفهان عن القرية الفلسطينية قبل 48، قبل صدور روايتي، فيمكن القول أنني أخطأت، وأنا مستعد للتقدم نحو المشنقة.


فاتنة: عودة لرواية "اقتلوني ومالكا"، ألا ترى أن كتاب الحبس لا ينتمي لهذه الرواية، وإنما لروايتك الأولى "قفص لكل الطيور"، خاصة وأن البعض قال بأنك لو اقتصرت على الكتابين الأولين لكان أفضل؟


خضر: أولا رواية اقتلوني ومالكا مقسمة إلى ثلاثة كتب، كما قلت. وإذا أحب أحد القراء أن يعتبرها ثلاث راويات فليفعل، ولا يضيرني هذا في شيء. حسنا يا زملائي الروائيين: هي ثلاث روايات في واحدة. وهذا تنازل مني، فلا يسيء هذا للرواية في شيء.


فاتنة: هل يمكن اعتبار رواياتك الثلاث (قفص لكل الطيور، اقتلوني ومالكا، عين اسفينة) ثلاثية روائية. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا جاءت عين اسفينة لتواصل سرد رحلة السجن ثم الإبعاد، كأن الثلاثية هي ثلاثية السجن، لا الجية، ولا المخيم. فماذا تقول؟


خضر: قلت بأنني لم أخطط لكتابة أي من هذه الروايات، إنني فقط أتابع شخصية صابر. وصابر بالمناسبة هو بطل الأبطال وأحمق الحمقى، في آن معاً. إنه دون كيشوت الذي يصارع طواحين الهواء: فهو يريد الجية، ويلعن المخيم، ويريد الاستقلال الوطني، ويعتقد أن بإمكانه مكافحة كل هذا العالم الظالم وحده.. لهذا فقد كان من الطبيعي أن يموت خاسئاً حسيراً، في آخر راوية (عين اسفينة). هذا هو الهاجس الأساسي وراء كتابة هذه الروايات الثلاث، التي أصر على أنها ليست ثلاثية، إلا بمعنى فضفاض أكثر، يسمح بكل هذه الزيادات والنتوءات، التي حدثت في (اقتلوني ومالكا)، وبالخصوص نتوء (كتاب الجية ). أنني أعتقد بأنني قدمت للقارئ ثلاث روايات، كل منها مستقلة وقائمة بذاتها.


فاتنة: بعد حصولك على درجة الدكتوراه في النقد، هل غيرت دراستك للنقد في رؤيتك للكتابة؟


خضر: مما يثير المقت ـ في هذا المكان البائس من العالم ـ أن هناك عددا كبيراً من المبدعين، يعتقدون بأن عليهم أن يكتبوا وفق ما تقوله مدارس النقد، مع أن المعروف تاريخيا أن الإبداع سابق على النقد، وأن النقد ما جاء إلا ليستكشف أدوات الإبداع وتقنياته وطرائقه، ويدرسها، ومن ثم يقنن لها وفق ما ابتدع المبدع، وليس العكس: فالنقد والدراسة الأكاديمية النقدية تأتي كحالة متأخرة ــ زمنيا وقيميا ــ على حالة الإبداع، الأرقى والأكثر سماوية. وأنا عندما درست النقد قي دراستي الأكاديمية، درسته وفق هذا الوعي، وقد تقرر لدي بألا أسمح لمقولات النقد العالمية أن تفرض مناهجها وأدواتها على كتابتي. فإذا ما تمكنت من إزاحة كل هذه المقولات المسبقة عن ذهني، قبل أن اكتب الرواية، فأعتقد أنني سأنجح كمبدع. أما إذا سلطت كل ما قرأت على ما أكتب، فسوف أخرج برواية مبنية كالمسطرة، لا روح فيها. والتحدي القادم الذي يواجهني الآن، بعد كل هذه الدراسات الأكاديمية، هو أن أنأى بنفسي عنها، واعيا لها، حذرا منها، داعيا إياها لكي تكون تابعة لا متبوعة. هذا هو التحدي الحقيقي. أما في المستقبل، فاعتقد أنني إذا ظللت واعيا لخطورة هذا، فسوف أكتب رواية جيدة. وأنا الآن بالمناسبة أكتب رواية أكثر وحشية من كل ما سبق، ولا يمكن لها أن تخضع لأي ميزان أكاديمي.


فاتنة: يقال بان كل روائي يرتكز على شاعر داخله. وأنت دخلت منطقة الرواية من بوابة الشعر، خاصة وأنه صدرت لك مجموعتان شعريتان: الأولى بعنوان "الانفجار"، والثانية بعنوان "اشتعالات على حافة الأرض". ما رأيك في هذه المقولة؟ وهل طلقت الشعر إلى غير رجعة؟


الشعر كالمرض أو الموت، يأتيك حتف أنفك، ويكتبك قبل أن تكتبه. وعندما تأتيني القصيدة فسوف أكتبها: فالشعر ابن اللحظة وابن العاطفة المشتعلة المفاجئة، أما الرواية فبنت التفكير العميق والتأمل الواعي والغوص في أعماق الزمن، الماضي منه على وجه الخصوص. يمكن أن تفرق بين الشعر والرواية: بأن الأول يشبه شطيرة الشاورما الجميلة الفواحة، ولكنها مع ذلك لن تغنيك عن أكلة الغذاء الدسمة المسبوكة، المستهلكة لوقت طويل في إعدادها. إنك تقول الشعر كما تأكل الشطيرة، لكنك تقول الرواية وأمامك مائدة حافلة من التاريخ والجغرافيا والماضي والحاضر، تنتقي من بين الأطباق من هنا ومن هناك، ما يشكل وجبة دسمة ومتميزة. إذن فالرواية تتيح لك أن تقول ما لا تستطيع قوله في الشعر، تتيح لك الاختلاق والكذب، أن شئت، جنبا إلى جنب مع سرد الحقائق؛ تتيح لك اللجوء إلى التاريخ الموثوق، كما تتيح لك الاتكاء على الروايات الضعيفة والأخبار المختلقة... أنها خليط من الأحاديث الصحيحة والأحاديث الموضوعة والأغاني الهابطة والسيمفونيات الرائعة. أما الشعر فلا يمكن له إلا أن يكون سيمفونية رائعة، أو أغنية سماوية. وأعتقد أن الإنسان في حاجة إلى كلا هذين النوعين. أما عن سبب هجراني للشعر، فلست أدعي أنني هجرته تماما، لكنني أود التركيز على القول بأنني لست شاعرا بقدر ما أنا روائي. ولتسمحي لي بهذا التميز المغرور، حيث أنني لا أرغب في إضافة اسمي إلى نصف مليون شاعر في فلسطين، وعشرين مليون في العالم العربي. أما في الرواية فيمكن القول بأنني واحد من عدد بسيط، لا يتعدى أصابع اليد الواحدة في فلسطين، أو لا يتعدى أصابع اليدين في العالم العربي. ألا تسمحين لي بهذا التميز المغرور؟.


فاتنة: مرة ثانية قد يثير قولك هذا سخط العديدين الذين سيتساءلون: وأين ذهب الروائيون في العالم العربي، بداية من مصر، وحتى المغرب العربي؟


خضر: لم أقل إن عدد الروائيين لا يتعدى عشرة فقط، وإنما أقول بأن عدد الروائيين المتميزين لا يتعدى عشرة. وأنا أصنف نفسي واحداً من هؤلاء العشرة. أما أن هناك حوالي مائة روائي في العالم العربي فهذا أمر أعرفه جيدا.


فاتنة: هل ترى أن هناك مشهدا روائيا حقيقيا في فلسطين بشكل عام، وفي قطاع غزة بشكل خاص، ارتكازا على ما هو معروف من أن الرواية ابنة المدينة المستقرة؟


خضر: طبعا يوجد مشهد روائي هنا. فلم أقل إنني وحدي، بل قلت إن هناك عدداً محدوداً لدينا.. هناك مشهد روائي بالفعل، ولكن دعيني أهرب من ذكر الأسماء، حتى لا أسقط في الفخ، خصوصا وأنني لا أنزوي تحت راية حزب يحميني من بطش الناس. فماذا أستطيع أن أقول؟ وكيف لي أن أحمي نفسي من هجوم روائي يتسلح بتنظيم كبير؟ فلنقل إن هناك مشهدا روائيا وكفى.. ارحميني يرحمك الله. أما بخصوص القول بأن الرواية ابنة المدينة، فأجدني غير موافق على هذا القول كما هو. صحيح أن الرواية قد نبتت تاريخيا وسط المدينة، كما أنه من الصحيح أن ما قاله هيجل حول برجوازية الرواية هو صحيح كذلك؛ لكن هذا يحكي واقعا تاريخيا نشأ في أوروبا، التي نبتت فيها الرواية، بالمعنى الحديث. أما هنا في العالم العربي، فلا مدن لدينا بالمعنى الاجتماعي، باستثناء واحدة أو اثنتين؛ لأن لدينا قرى كبيرة لا تستند إلى ذلك التقسيم الطبقي المعهود في المدينة الأوربية. إذن فالرواية نشأت لدينا هنا في واقع غير مديني، ومع ذلك فقد نجحت وشكلت ظاهرة ثقافية. الرواية في نظري حكاية بتقنيات حديثة. وكل ما يقال عن سقوط الحكاية في الرواية كلام هراء، ولا يستحق مجرد الرد عليه.


فاتنة: الروائي خضر محجز، هل تعتبر نفسك شخصا إشكاليا صاحب مواقف إشكالية، خاصة وأن لك عددا من المقالات التي أثارت غضب وانتقاد العديدين في المشهد الثقافي؟


لم أسع يوما لان أكون إشكالياً، وقد حاولت مرارا أن أتعايش مع واقعي هذا، وأن أندمج في مجتمعي هذا؛ لكن ما حيلتي وقد خلقني الله أحمق لا أحسن التصرف، وأسعى إلى قول ما أرى أنه حق، وأدافع عن نفسي حين يُعتدى عليّ، وأتجاوز أحيانا فأرد الصاع صاعين. ولكن صدقيني: لقد حاولت أن أتوافق مع واقعي هذا، لقد حاولت أن أكون عضوا محترما في حزب كبير، لكنني لم أستطع، ولم يستطع الحزب احتمالي. حاولت أن أكون شخصا مقبولا من محيطه، وتنازلت عن كثير من الأمور الشكلية، ولكنني في كل مرة كنت أنسى ما فعلته، وأثور مرة واحدة، وأهدم كل ما بنيته.


أنا أحمق ثرثار لا يُحسِن التنازل عن بلده، ولا يُحسِن الانحناء أمام من هم أقوي منه، ولا يُحسِن الانضباط في حزب يطلب الطاعة في المنشط والمكره، ولا يُحسِن مجاملة الوزير وتنفيض مكتبه من أمامه، ولا يعرف كيف ينظر في وجه امرأة قبيحة ثم يتغزل بجمالها، ولا يُحسِن أن ينكر كل الحقائق، بهدف الوصول إلى مصلحته الشخصية.. لهذا فأنت ترينني موظفا مستقرا قاعدا على إليتيه، لا يبارح مكانه، يترقى كل الموظفين ولا يترقى، ويُدعى كل المبدعين ولا يُدعى. ويشير الناس إليه دائما باعتباره دون كيشوت الأحمق.. أنا هو ذلك الرجل، ولا أعرف حتى الآن كيف أغير من طبيعتي هذه.


يقول تودروف : "ليس الأدب كلاما يمكن ـ أو يجب ـ أن يكون خاطئاً، بخلاف كل العلوم: إنه الكلام الذي يستعصي على امتحان الصدق؛ لا هو بالحق، ولا بالباطل، فذلك ما يحدد منزلته أساساً من حيث هو تخييل".


وهكذا هو ما يجب أن يكون عليه حال الأدب.