حول الشعر والنسوية والوطن


هذيان متدين أحمق




يبدو أن التقليد هو العنصر المهيمن في كل أطروحاتنا، رجالاً ونساءٍ. فليس الرجال وحدهم من يقلدون قاهرهم.


ذات يوم صرخ الشاعر العربي السوري (ممدوح عدوان) غاضباً: أيها الشعراء، اكتبوا شعراً رديئاً.


فما كنه هذا الغضبِ من شاعر حداثي مبدع، وما سره؟


لقد قال أحدٌ ما، في يومٍ ما، في مدينةٍ ما من أوروبا، في عز صعود البنيوية هناك، في النصف الأول من القرن العشرين، بأن القصيدة الوطنية رديئة، لأنها تتخلى عن الذات/الخاص، وتتكلم عن الكل/العام.


حقاً لقد تأخرت المقولة في الوصول إلينا، ككل المخترعات الغربية؛ لكنها وصلتنا في نهايات القرن العشرين، واكتشفنا فيها سر الشعر، وقلنا: هوذا توجيهٌ عليمٌ لكيفية قول (الشعر الخالص). وأخذ من يقترحون منا على أنفسهم أنهم شعراء ــ بالمناسبة عددهم في غزة وحدها يستعصي على الإحصاء ــ يرددون هذا، كأنهم يعيشون في سويسرا، لا في فلسطين: فصار الواحد منهم يقلب شفته السفلى تقززاً، حين يقال، على سبيل المثال، إن قصيدة محمود درويش (مديح الظل العالي) ملحمة شعرية جميلة. حتى قيل إن شاعراً مذعوراً من سكنة تسمى (خربة الخراء) أشعر من درويش، وقد تجاوزه منذ زمن بعيد.


أي والله! لقد قيل هذا مراراً بصوت مسموع، وتجندتْ لترويجه ميليشيا واسعة، لم أعلم حتى الآن من يموّلها، وأنا أرى كبارها يسهرون ويأكلون في أغلى الأماكن، مع أن أهاليهم في البيوت يتسولون اللقمة الحاف.


لقد بلغ من سطوة هذه الميليشيا ـ التي كنت أرى مسلحيها في كل مكان مشبوه ـ درجة أن خاف منهم محمود درويش نفسه، فوصف قصيدته المذكورة بوصف القصيدة التسجيلية، في طبعة ديوانه، كما تخلى عن قصيدته (عابرون في كلام عابر) التي زفرها في بداية الانتفاضة الكبرى عام 1987، فلم يضمنها ديوانه بطبعته الكاملة!.... يبدو أن المؤسسة الصهيونية ـ بما وراءها من كادر ثقافي عالمي كبير ــ كانت لا تفهم في الشعر، حين اعترضت دولياً على هذه القصيدة.


في عز هذه الهجمة الارتدادية ــ التي تصاعدت بفعل أوسلو ــ كانت ميليشيا (المقترحين على أنفسهم أنهم شعراء)، تشعر بشدة الظلم أن تحوي وزارة الثقافة موظفا (متخلفاً) مثلي، لا يزال يؤمن بالله وفلسطين. بل وصل بهم الأمر أن وجدوا في وزير ـ يحلم باقتناص لقب شاعر ــ حليفاً ضدي، حين نشر أحدهم العديد من المقالات، خلال إحدى الحروب الإسرائيلية على لبنان، يؤيد فيها قصف إسرائيل لأهلنا في لبنان، لكي يتم تأديب حزب الله المتطرف. وقد وجد هذا الشيء يومها تشجيعاً، ساعده على أن يقدم شكوى ضدي للنائب العام!..


كأن التحالف مع العدو لا يطاله القانون!


لكن الله دائما كان في صفي، وتم حفظ الدعوى.   

 

حادثة أخرى بطلها كان شاعرا مذعوراً، رجاني قراءة إنتاج عدد ممن وصفهم بالشعراء الشباب ــ ويصفون أنفسهم بعمالقة الشعر ــ والتعليق عليه، لأنه سيتخذ تقييمي وسيلة لاختيار الأفضل من بينهم. والحق أنني اكتشفت، وسط هذا الجيش اللجب من المليشيا الرديئة، موهبتين، لا بأس من التنويه باسميهما هنا: (معين شلولة) و(محمود ماضي). وقد أثبتت الأيام فيما بعد أنه لم يتبق سواهما مبدعاً من كل ذلك الركام.


ولأننا نعلم أن الكثرة تغلب الشجاعة ــ فكيف بمن كان مذعوراً ــ فقد تغلبت (المليشيا الشعرية) على الشاعر الذي يبحث عن اعتراف، فألزمته بأن يحجب ما كتبتُ، ثم يقدم أولئك بما يروقهم.


إلى هنا وكان من الممكن احتمال هذا السَفَه من الشاعر المذعور. لكن التصريحات التي عقّب بها (من يقترحون على أنفسهم أنهم شعراء) وشتْ بأن الشاعر المذعور قد أطلعهم على رأيي في أغلبهم. فغضبوا.


لقد غضبوا، فيا للهول!.. لقد غضبوا وسط مجتمع من المثقفين، على رجل متدين لا يقبله المثقفون!.. كان الله في عوني!.. لكن طينتي الخاصة لم تؤهلني أن أخاف، ممن يعلو فقه ضراطهم، على همس قوافيهم.


لقد كان من الطبيعي يومها أن أعتبر أن الشاعر المذعور ــ الذي ولج العقد الخامس من عمره ــ محاولاً التزلّف إلى الميليشيا (المرعبة)، لعلها تنفحه رحلةً مع فتاة، إلى ما وراء الخط الأخضر، خصوصاً وهو يتطلع إلى صداقة (نويقد شاب) متزوج حديثا من فتاة تشبهه.


ولأن غزة مدينة صغيرة، معزولة، مزدحمة؛ فلقد ترى الأمورَ فيها تتدحرجُ، بأسرع مما تفعل في مدن العالم، التي لا تعج بالشعراء.


ولأن ذلك كذلك، فقد خرجت يوما من محاضرة، كنت قد ألقيتها للتو في قاعة ما، ففوجئت بشاب قميء ــ  يغوص رأسه بين كتفين، يحوطان رأساً صغيراً، تزينه وجنتان مسودتان، بفعل التهابات لا أعرف سببها، ويقبض إصبعاه السبابة والوسطى على عقب سيجارة، بطريقة تشي بأنه يوشك أن يصدر امراً بتدمير العالم، فيما يحدق فيَّ بعينين ضيقتين صفراوين، كأنه مصاب بفيروس الكبد الوبائي، ومن تحتهما بالضبط، من منخريه الأفطسين وفمه ذي الأسنان الصفراء، ينفث دخاناً كثيفاً ــ على عادة كبار الشعراء ــ ويحدق فيّ بادعاء مستهتر، قبل أن يجري معي الحوار الآتي:


ــ أنت خضر محجز؟

ــ نعم. يبدو أنك فلان، لأنك تشبه عمك الذي كان معي في السجن.

ــ نعم أنا الشاعر فلان.

ــ تفضل.

ــ من الذي نصبك لتحكم على الشعراء الشباب؟

ــ أنا خضر محجز.. ألم تسمع بي؟.. سبحان الله!.. أنا رب الشعر وسيده، فمن قلت له: (أنت شاعر) صار شاعراً؛ ومن حرمتُهُ هذا الوصف، لم يكن له أن يكون شاعراً أبداً ومدى الدهر. وقد سبق أن وصفتك بأنك لا يمكن أن تكون شاعراً. أما الآن فأقول لك: اذهب طليقا، ودر في أقطار الدنيا، واقرأ كل الكتب، ولكنك لن تغدو شاعراً أبداً. أتدري لم؟

ـ لم؟

ــ لأنني قلت ذلك.


إلى هنا وانتهى الحوار. وإلى هنا لم يعد للشاعر (الشاب) شعرٌ، ولم يسمع باسمه أحد.


يحدث مثل هذا في الحركات النسوية. فكلنا يعلم أن المرأة مهضومة حقوقها بالفعل، لكننا لم نعلم بعد بأن أهم حقوقها المهضومة هذه (حريتها في جسدها الخاص، الذي تملكه وتتصرف فيها بما يحلو لها). فنحن لم نؤمن بحرية جسد الرجل، لنوافق على حرية جسد المرأة!. ولا أحد يجرؤ هنا على ذكر الإسلام، حتى لا يتم اتهامه بالتخلف.


لكنها مقولة نسوية غربية، تحب بعضُ المقلداتِ أن يشقشقن ألسنتهن بها. وأطال الله في عمر أستاذتي نبيلة إبراهيم، التي كانت من رائدات النسوية، ولكنها لم تفكر قط في الوصول إلى هذه النتيجة.


سيقول لي البعض بأن ذلك لم يعد موجوداً في غزة. وأنا أوافق دون سعادة، لأن ما منع ذلك هو سيطرة الحكم الديني، لا مجرد الاقتناع الحر من بعض من يشتغلن بالثقافة.


حسناً، فما الذي ذكرني بهذا الآن؟


ذكرتنيه فتاةٌ اسمها فاطمة عاشور.. فتاةٌ ولا كل الفتيات. حضرتْ في نهاية دورة من دوراتي التدريبية، باستدعاءٍ من المركز المنظم، وألقتْ محاضرةً، وأجرتْ نقاشاً، حول حقوق المرأة. لقد أذهلني مستوى وعي فاطمة، التي تريد أن تأكل العنب، لا أن تقاتل الناطور.


كانت فاطمة تبحث عن حقوق المرأة فعلاً، لا عن تسيب الجنسين، وتفتت العائلة.


بعد أكثر من عام على اللقاء، أنتهز هذه السطور لأقدم تحية لفاطمة، الفلسطينية من أم مصرية، التي علمتها مصر كيف تنال حقوقها، دون أن تنبذ ثقافتها.


عمار يا مصر، عمار يا أم الدنيا، وتحية لك يا فاطمة.