• سياسة
  • 2563 قراءة
  • 02:11 - 12 نوفمبر, 2015


عاشت الذكرى



كان نتنياهو قد، تعهد في حملته الانتخابية، بألا يصافح ياسر عرفات، وألا يجلس معه لا للتفاوض ولا  لأي شيء آخر. اغتيل رابين، وتوقفت مسيرة المفاوضات، وبدأ الاستيطان المتسارع يلتهم القدس، فما سمي يومها جبل أبو غنيم.


أعطى الإشارة، فكانت انتفاضة الأقصى. واشتعلت المواجهات، وفشلت كل المحاولات للجمع بين الخصمين. لكن فقط حين أيقن ياسر  عرفات بأن أبناءه أثخنوا في جنود الاحتلال، وافق على تلبية طلب كلينتون، بعقد قمة طارئة في البيت الأبيض.


حرصتُ على متابعة مشهد اللقاء في البيت الأبيض. وكنت أضع يدي على قلبي، لأنني لم أكن أعرف ياسر عرفات جيداً. ثم ظهر الأربعة: كلنتون، وعرفات عن يمينه، ونتنياهو عن شماله إلى جانبه الملك حسين. امتدت يد نتنياهو ـــ والحرب مشتعلة في غزة والضفة ـــ لتصافح يد عرفات، فيما بقيت يد عرفات إلى جانبه لم تتحرك بوصة واحدة. استمرت يد نتنياهو ممدودة، ويد ياسر عرفات متأخرة، لما يقرب من الدقيقة. ثم بكبرياء ياسر عرفات، مد ياسر عرفات يده، فتلقتها يدا نتنياهو الاثنتان، بكل القوة.


كان نتنياهو يبتسم. وكان ياسر عرفات متجهماً.


لم اكن في حاجة إلى هذا لأعلم أن ياسر عرفات قائدي. لكن ذلك زادني فخراً.


حين عاد، قدر الله أن أراه في تلك الليلة فور عودته. لم يكن الأمر مدبراً، لكنه جاء على قدر. كانت عيناه مجهدتان وقد غطاهما القذى. وكان جسده قد صغر كثيراً. لكن صورته المعهودة عادت إليه وهو يرحب بي.


ـ ينصر دينك. هتفت صارخا بفرح واعتزاز


ـ أمال!.. دول كلهم عليه..


كان يعرف مقصدي، لأنه يعرفني. وكنت أعرف أنه فهمني، ورد على تحيتي رد القائد على واحد من محاربيه.


مرة أخرى، جمعني الله مع الرئيس، في محضر عام لكتاب قطاع غزة، في المنتدى، على إثر اتهام خائن له بالخيانة. كان صاحب التهمة في غزة. لم يسجنه ياسر عرفات، لكنه تطرق إلى الموضوع، بطريقته، فقال:


ـ أنا الذي سلمني نلسون مانديلا درع الثورة العالمية، يقال لي هذا؟


واغرورقت عيناه بالدمع.


لكنه لم يحرضنا عليه، ولم يطلب منا الرد، ولم يتعرض له بسوء.


مرة ثالثة، بعد رحيله، ذهبت إلى مقر مجلس الوزراء لأرفع شكوى ضد وزير الأوقاف، الذي لم يستجب لشكواي على خطيب تناول شعبنا على المنبر بما لا يليق. كان المكان يعج بالنسوة اللاتي أتين لحاجة. ثم تبين لهن أن الأمر لم يعد كما كان. فقالت إحداهن لضابط الحراسة على الباب:


ـ كنا نأتي على زمن أبو عمار، فكان لا يرد أحدا منا.


فقال الضابط من بين دموعه:


ـ كان لنا أب ومات.


اليوم يوافق يوم ذكرى رحيله، حين ودعنا من شرفة الطائرة، للمرة الأخيرة، بالقبلات.


اليوم يوافق الذكرى، وكل يوم ذكرى. لكن العقوق لا أب له ولا دين ولا وفاء.


اليوم يوافق الذكرى، فأستميحكم العذر للوقوف لقراءة الفاتحة على روح الأب.