قراءة في فكر التكفير

 

من الطريف أن المتشددين المتنطعين لا يرون أن أيا من البشر ذا دين سواهم.

إنهم ببساطة لا يستطيعون أن يفقهوا كيف أمكن لسائر المسلمين ــ أو الذين يقولون إنهم مسلمون ــ أن يكونوا معاندين إلى هذه الدرجة، التي تمنعهم من رؤية كم هم كافرون حقاً!.

إنهم يعلمون أنهم قلة، لكنهم يعتزون بأقلويتهم هذه، باعتبارها دليلا على صحة المعتقد. ألم يكن الصحابة قلة بين الناس في مكة! هكذا يحدثون أنفسهم، ويحسبون أنهم على حق. فلنتأمل كيف يرانا جميعا سيد قطب، لنعرف بعضا من أسباب هذا التشدد الذي يواجهنا في المساجد والشوارع والميادين العامة، ومنبعه إنجيل غضب لا كتاب حكمة. يقول:

"لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا اللّه. فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان ونكصت عن لا إله إلا اللّه، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن : «لا إله إلا اللّه» دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية «الحاكمية» التي يدعيها العباد لأنفسهم ـ وهي مرادف الألوهية ـ سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب. فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا اللّه. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد اللّه، وتخلص له الولاء..

البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات : «لا إله إلا اللّه» بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعد ما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين اللّه! فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلا أمام هذه الآيات البينات! ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء". انتهي بنصه من: الظلال. مجلد2. دار الشروق. ص1057

إذن فنحن أثقل إثماً وأشد عذابا يوم القيامة في نظر سيد قطب. الرجل لا يكتفي بتخطيئنا بالجملة، بل يعرف مصيرنا يوم القيامة!. فلا جرم أن عجل حواريوه بنا إلى هذا المصير، كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! أليس هذا شبيها بقول الخارجي يرثي ابن ملجم قاتل علي بقوله:

يا ضربة من تقى ما أراد بها   

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني  لأذكره  يوما   فأحسبه       

أوفى  البرية  عند  الله   ميزانا

وفي الماضي كان ذلك كذلك، فشعار القرامطة كان "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون". لكننا إذا تأملنا ما يفعله ــ هؤلاء المستضعفون ــ فور أن يتم لهم التمكين، فسنرى العجب العجاب: دموية تجعلنا نستعيذ بالله من حكم المظلومين. لقد وقف زعيمهم أبو طاهر القرمطي بمجرد أن تم له شيء من التمكين، ينشد على باب الكعبة، يوم الثامن من ذي الحجة سنة 319 هجرية:

أنا بالله  وبالله  أنا     

يخلق الخلق وأفنيهم أنا

وخلال ذلك كانت سيوف المستضعفين السابقين، من أتباعه، تحصد حجاج بيت الله؛ قتلاً ونهبًا وسفكًا، فيما هو يناديهم: "أجهزوا على الكفار وعبدة الأحجار" وبعد أن تم لهم الإجهاز على الحجاج، دكوا أركان الكعبة، واقتلعوا الحجر الأسود، وأخذوه معهم إلى عاصمتهم هجر، واقتلعوا باب الكعبة، ثم صعد أحدهم ليقتلع الميزاب، فسقط فمات، وطرحوا القتلى في زمزم، ودفنوا الباقين في المسجد حيث قتلوا، ولم يغسلوا الكفار ولم يكفنوهم ولم يصلوا عليهم. ثم اقتسموا كسوة البيت غنيمة، ونهبوا بيوت أهل مكة. أفتعجبون من ثم إن سبوا نساءكم واتخذوهن خليلات!

لقد اقتضت استعادة حكم الله في نظر رافعي الشعار كل هذه الجرائم.

أما سلف هؤلاء ومرشدوهم الأوائل فقد كانوا الخوارج، الذين رأوا أنفسهم أشد تدينا من علي بن أبي طالب، فخرجوا عليه حين قبل بالتحكيم، وكانوا هم من أرغموه على قبوله، حين قرأوا قوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". فلما قبله تذكروا آية أخرى: "إن الحكم إلا لله". فقالوا: لقد حكمت الرجال في دين الله. فقتلوا المسلمين، ممن يخالفونهم في الرأي، إلى حد أن اضطر أحد علماء المسلمين إلى النجاة من القتل، عن طريق الادعاء بأنه "مشرك مستجير". وهنا فقط قال (شديدو التدين): "حق علينا أن نجيرك ونبلغك مأمنك، حتى تسمع كلام الله". وقد فهموا هذا (الفقه) من قوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك، فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه".

وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب، ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسروه، وامرأته معه وهي حامل؛ فقالوا: من أنت؟. قال أنا عبد الله بن خباب، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكم قد روعتموني. فقالوا: لا بأس عليك. حدثنا ما سمعت من أبيك. فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي". فاقتادوه بيده، فبينما هو يسير معهم، إذ لقي بعضهم خنزيرا لبعض أهل الذمة، فضربه بعضهم فشق جلده. فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمي؟. فذهب إلى ذلك الذمي، فاستحله وأرضاه. وبينما هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم، فألقاها في فمه. فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن!. فألقاها ذاك من فمه. ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه. وجاؤوا إلى امرأته، فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله!. فذبحوها، وبقروا بطنها عن ولدها.

إنهم هم من أصر على التحكيم، وهم من رفض التحكيم، وهم الذين يحفظون القرآن ثم لا ينفعهم. فلما هددوا عليا بالقتل (وكانوا لشدة زهدهم يسمون بالقراء) أُرغم أمير المؤمنين على إيقاف المعركة في أفضل لحظاتها، واستدعى قائده الأشتر، فقال لهم:

يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم!. أمهلوني، فإني قد أحسست بالفتح. فقالوا: لا. قال: أمهلوني عدو الفرس، فأني قد طمعت في النصر. قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك.

ثم أخذ الأشتر يناظر أولئك القراء، الداعين إلى إجابة أهل الشام، بما حاصله: إن كان أول قتالكم هؤلاء حقاً، فاستمروا عليه. وإن كان باطلاً، فاشهدوا لقتلاكم بالنار. فقالوا: دعنا منك، فأنا لا نطيعك ولا صاحبك أبداً. ونحن قاتلنا هؤلاء في الله، وتركنا قتالهم لله. فقال لهم الأشتر: خُدعتم والله فانخدعتم، ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم. يا أصحاب السوء، كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقا إلى لقاء الله. فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت. يا أشباه النيب الجلالة، ما أنتم بربانيين بعدها. فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.

ها أنتم ترون يا أصدقائي كيف يضخم المتطرفون الصغائر، ويصغرون الكبائر، كيف يجعلون الفرع أصلاً، ثم يؤولونه ليصبح شرطاً.

لقد بين الله أن شرط الدخول في الإسلام أن تصدق بالرسالة وتشهد بها، وانقضت القرون والناس في قارات الأرض من غير العرب، يعلنون إسلامهم ببساطة، ويقبله المسلمون منهم ببساطة، حتى جاء هؤلاء فاخترعوا ضرورة أن تفهم معنى محددا لشهادة لا إله إلا الله، كما يراها سيد قطب، في السطور التي أسلفناها. وإن مقتضى ذلك ان كل إسلام هؤلاء الماليزيين والإندونيسيين والفرس والطاجيك والترك والهنود وغيرهم، ممن لا يفهمون شرط سيد قطب، باطل، لأنهم لم يطبقوا شهادة لا إله إلا الله!.

إن كل المسلمين في كل العالم في كل الأجيال ما زالوا يؤمنون بالأركان الستة ببساطة، لكن ذلك لم يعد يكفي المتطرفين اليوم، فاختلقوا ركنا سابعا، مقدما على ما سواه وسموه الولاء والبراء، ومعناه معروف لديكم. وهذا يقتضي بالتأكيد تكفير كل من لم يتولهم ويدخل جماعتهم. فليت شعري، بم يختلف هؤلاء عن أولئك؟

ثم لم يعد هذا الفكر حبيس جماعة متطرفة هنا، أو حزب قصي هناك، من يوم أن استسلم العلماء لوطأة هذا الإرهاب الفكري، وصمتوا عن مقارعة هذا الجهل.

وإذ كان أكثر هؤلاء العلماء الصامتين لا يمتلك من أدوات التحليل ما يتيح له أن يبين الوجه المشرق لرسالة السماء، فقد اكتفوا بان يجلدونا معهم، ويطالبوننا بتقديسهم، واخترعوا لذلك نصا جعلوه آية من قرآن غير منزل، فقالوا: لحوم العلماء مسمومة. يمنعوننا بذلك عن كشف جهلهم وسوء صنيعهم وعبوديتهم للسلطان. لقد اكتفوا من الدين بزي رجال الدين، ومن العلم بشهادات ورقية لا تنفع من بعد علم شيئا، وما هم بفاهمين من الدين من شيء. وأفسحوا بهذا المجال لكل أفاق ليتكلم في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فصار ذبح الناس في العراق وسوريا هو دين محمد ـ حاشاه ــ وصار سبي النساء دين محمد، وصار الحرق دين محمد، وصار البغاء ملك يمين مباحا... إلخ

ثم إن هؤلاء القساة الوحوش من المتدينين الجدد، صاروا يستشهدون بمقولات للرسول، قالها في ظرف لا يشبه ظروف اليوم، من مثل حديث: (جئتكم بالذبح)، فترى الواحد فيهم يرفع أصبعه في وجه المخالف، محدقا فيه بعينين محمرتين وهو يقول: جئتكم بالذبح.

والحق أن في الاحتجاج بهذا الجزء من النص زورا أي وزور!

لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لكبار قريش في مكة ذات يوم، بعد أن استمع إلى سخريتهم به مطولاً: (أتدرون بم جئتكم يا معشر قريش؟ لقد جئتكم بالذبح). فصمت القوم كأن على رؤوسهم الطير، ثم قالوا: انصرف يا أبا القاسم راشدا، فوالله ما كنت جهولا قط.

لقد استفزوه ضعيفا، فتحداهم بأكثر مما يتوقعون تأديباً. فهل أراد حقيقة ما قال، كما يفعل هؤلاء اليوم؟ اللهم لا، فقد فتح فيما بعد مكة فلم يذبح منهم أحدا، بل منّ وعفا وأحسن وقال أفضل الكلام.

إن اللغة العربية في استخداماتها البلاغية كثيرا ما تنزاح عن الظاهر، لتقدم صورا بلاغية، تخالف الحقيقة لغوياً.

هناك لدينا في البلاغة ما يسمى بـ(المشاكلة): وهي الرد على اللفظ بلفظ من صنفه، وإن لم يكن المقصود نفس المعنى. مثال ذلك قوله تعالى: "ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين"

لقد مكر الكافرون بالله. فهل يمكن لنا أن نقول بأن الله مكر بهم مكرا كمكرهم؟ هل يمكن أن يسمى الله بالمكار؟ كما يسمون هم؟ اللهم لا

إذن هو يريد أن يصعقهم برد من صنف فعلهم، لكنه مختلف في الحقيقة، وهذا هو معنى قول الشاعر الجاهلي:

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فعمرو بن كلثوم لا يقصد القول بأن قومه أشد جهلاً من أعدائهم، بل يريد ان يقول، سنجزي كل فاعل بما يفعل. ولطالما سمعنا البسطاء يدعون (الله يظلم اللي ظلمني) فلم نفهم منها أن الله ظالم، حتى جاء هؤلاء الجهلة.

هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم للمشركين في مكة قبل الهجرة في مرحلة الاستضعاف: "جئتكم بالذبح"

إنهم يستقوون عليه بقذاراتهم، وهو يهددهم بقول كقولهم، لا يُقصد منه حقيقته.

حديث آخر يلهجون بذكره ويهددون به اليهود، ليجمعوا إليهم دعما عالميا، أكثر مما هو حادث الآن؛ أعني حديث قصة اليهود من بني قريظة، الذين غدروا بالإسلام، ونكثوا بالعهود، وتحالفوا مع الأعداء، ليدخلوهم من جانبهم إلى ما وراء الخندق، حيث يتحصن المسلمون. فأمكن اللهُ منهم نبيه، وحكم فيهم سعد بن معاذ، فحكم بقتل المقاتلين منهم.

لقد رأى متطرفو المسلمين في القرن الواحد والعشرين، أن رسول الله لو كان حيا معنا، لذبح كل مقاتلي الدولة اليهودية، حتى قبل أن يهزم دولة إسرائيل.

والحق غير ذلك بالتأكيد، لأن فهمنا للأحكام السياسية للدولة، ينبغي أن ينطلق من وعي تاريخي، يرى الماضي كما كان يراه أهله في الماضي، ويرى الحاضر كما يراه أهله الآن. فالتاريخ هو الآخر نص. وهذا ما أعنيه كلما قلت (العوامل التاريخية) فعندما أقول: حكم تاريخي، فإنما أضعه في المقابل، وعلى العكس، من حكم ظاهر النص.

أقول هذا الكلام لكل المتسائلين الكثر عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل بني قريظة، بعد أن نكثوا بالعهد، وهددوا كيان الدولة بالفناء.

إن عظم الجناية ــ في كل وقت ــ يستدعي عظم العقوبة. هذا هو حكم التاريخ، لا حكم السماء. واليوم يحاول دعاة الإسلام السياسي أن يقنعونا بأن كل الأحكام الدنيوية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم هي من السماء. لكننا لا نقبل بهذا التحليل، لأنه لو كان صحيحاً، لما قبل الإسلام قانون تحرير العبيد اليوم. ولو كان صحيحا لما كان من معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بشؤون دنياكم.

إن هؤلاء يحاولون أن يزيلوا قانوناً حاكما ومسيطراً وجعله الله من أساس هذا الكون، وهو حكم الزمن. وينقسمون في ذلك إلى قسمين، كلاهما خاطئ:

1ــ قسم يريد نقل حكم الماضي إلى الحاضر، بمعنى أنه يريد منا أن نحاكم مجمل أعمالنا اليوم، بوعي الماضي، وهؤلاء هم الماضويون، وهذا غير صحيح، فما كان متاحا في وعي الماضي لم يعد صالحا في وعي الحاضر: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

2ــ أما القسم الثاني من الناس، فعلى الطرف المقابل، يريد نقل حكم الحاضر إلى الماضي، بمعنى أنه يريد منا أن نحكم على مجمل الماضي بوعي الحاضر. وهذا الفهم يجعل رسول الله في ذبح بني قريظة متوحشاً لا يعرف الرحمة. وهو استنتاج غير صحيح كذلك. لماذا؟ لأن الماضي له وعيه الذي يتيح فعل شيء، لا يتيحه الحاضر، والوعي الإنساني الجديد، الذي جاء الإسلام ليؤسس بداياته: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

لقد كانت جملة العلاقات التاريخية في العالم، في حقبة زمنية معينة، تحكم بقتل ناكثي العهود في زمن الحرب، جملة، فحكمنا بما توافق عليه أهل العالم القديم، باعتبار الواقع. وهذا لا يعني أن هذا الحكم أبدي أزلي مفروض من السماء.

يبقى هناك إشكال قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ، حين حكم بهذا الحكم في بني قريظة: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طرائق"

وهذا معناه أنك يا معاذ قد قضيت بما قضى به القدر المكتوب. لا امر هنا ولا نهي. بل هو علم الله بما سيحدث، مسجلا كما سيحدث، دون أن يفرضه علينا. لقد علم الله أن فلانا سيحكم على فلان بكذا، فسجل عنده كما سيحدث. فأين حكم الله المفروض هنا.

أمر آخر أود التطرق إليه في هذه المحاضرة، وهو ما درج عليه الأغبياء من الوعاظ من الادعاء بأن معركتنا مع المحتلين هي معركة دينية. وبما أن النصارى يقدسون التوراة، ويؤمنون بعودة بني إسرائيل إلى ارض الميعاد، فإنهم أنصارهم، ويجب أن ننابذهم بالعداوة كاليهود تماما، ثم يشهرون الآية: (ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم).

والحق غير ذلك تماماً، بل إن حكم العقل والوعي غير ذلك تماماً. وحتى لو كان ذلك كذلك، لوجب علينا أن نسعى لكي لا يكون كذلك. فما الذي نجنيه من القبول بأن كل العالم المسيحي عدو لنا؟ هل يفيدنا هذا الاكتشاف الخاطئ شيئاً؟ هل يقدم لنا عدة للنصر. هي ذي روسيا دولة نصرانية، فهل هي عدوة لنا، ثم ها هي دول أمريكا اللاتينية التي نتغنى بموقف رئيس واحدة منه، مسيحية، فهل نتخذها عدواً؟

إن أفضل وصفة لضمان الهزيمة أن تقنع نفسك بأنك تقاتل العالم! لأنك ستصبح مهيئاً لقبول هزيمتك أمام عدو لا يمكن هزيمته. إن هذا هو دعوة للاستسلام في الحقيقة.

إن علينا أن نحصر المعركة قدر المستطاع مع الاحتلال، لا مع اليهود. لنقلل من معسكر العدو قدر الإمكان. لكن الحمير لا تفهم.