المثقف والسلطة

 

حوار أجراه معي جهاد أبو مصطفى لصحيفة الوطن القطرية، وتم نشره بعد حذف اقتضته هوية الصحيفة بتاريخ 16/1/2016

 

س: ما هو التعريف الأمثل للمثقف المرتبط بالسلطة في رأيك؟


ج: هذا السؤال يطرح إشكالية ما. وقبل الإجابة عليه، ربما يجدر بنا القول بأنه قد يمر وقتٌ، يرتبط فيه المثقف بالسلطة، ثم لا يكون ارتباطه سلبياً أو مذموماً، بشرط أن يكون عن قناعة شخصية، وفي مصلحة الشعب. فعلى سبيل المثال: كنا قد رأينا نوعاً من الارتباط بين فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر (فولتير، ديدرو، دلامبير، روسو...) بقيصر بروسيا فريديرك الأكبر. لكنه كان نوعاً من التعاون الناتج عن قناعة الطرفين، بضرورة العمل سوياً على نشر التنوير في أوروبا. لقد كان فريدريك ذاته فيلسوفا شاعراً، بقدر ما كان محاربا عبقرياً. لقد أعجب الطرفان أحدهما بالآخر. ولم نرَ المثقفين يومها يدافعون عن الظلم والاستبداد، بل العكس تماماً. هذا الصنف من المثقفين لا يمكن اعتبارهم مثقفي سلطة، وإن توافقوا في لحظة ما مع السلطة. وإنما يدور الحديث دوماً عن مثقف يتماهى في مقولات السلطة، وينظّر لاستبداها، وينحاز إليها ضد ما يؤمن به ويعلنه. إذن فالمثقف الحقيقي هو الذي يدرك أن الثقافة في صالح الأمة، فينحاز إلى الأمة. وحين تصطدم أحلام الحاكمين بأحلام الفقراء، ينحاز إلى أحلام الفقراء. هذا هو المتوقع ممن يطلقون عليهم وصف (مثقفين).


فحين تسألني ما هو تعريف المثقف المرتبط بالسلطة، أفهم أنا ومن هم مثلي، أنك تقصد الشريحة الأعظم ممن يسمون أنفسهم مثقفين، فيما هم عملاء السلطة فحسب. وعلى ذلك يكون تعريف المثقف المرتبط بالسلطة في نظري هو: «المتعلم الذي يستخدم مادته العلمية، أو قدرته الجمالية على التعبير، فيوظفها في ترويج مقولات السلطة، في الحالات التي تكون فيها مقولات السلطة ضد أحلام الفقراء».


إن مصلحة الأمة هي مصلحة كل أبنائها، ولا يمكن أن تتحقق، إلا بكفالة حقوق الطبقة الأضعف والأكبر والأكثر تعرضاً للاستغلال. إننا حين نحمي الفقراء من تغول مصالح السلطة، إنما نعيد في ذات الوقت بناء المجتمع، لأننا نوسع الطبقة الوسطى ونقلل من طبقة المسحوقين. ونحن نعلم أن الثقافة إنما تنمو في تقاليد الطبقة الوسطى، بل إن الطبقة الوسطى هي ما يصنع ثقافة المجتمع وتقاليده.


س: ما أهم العلامات والعناوين على ارتباط المثقف بالسلطة؟


ج: من جوابي على السؤال السابق، يتضح أن أهم علامة تفضح ارتباط المثقف بالسلطة ــ من وجهة نظري ــ هي ظهور المثقف مدافعاً عن أحلام الحاكمين في كل الأحوال. فحتى فولتير جاء وقت اختلف فيه علنا مع فريدريك. بل إن روسو كان دائم الاختلاف معه. إن دراسة هذه العلاقة بين فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر وبين فريدريك، توضح كيف ومتى يمكن أن يكون المثقف متوائماَ مع السلطة، ثم لا يكون مثقفاً سلطوياً. أحياناً يصل المثقف إلى درجة من التأثير، في الجماهير، تزعج الحاكم، فيحاول استرضاء المثقف بالتسامح مع وجوده. (انظر كيف يرى الحاكم الوطن ملكاً له، يستطيع أن يحتمل قلق وجود شخص مزعج فيه!). هذا النوع من العلاقة لا يمثل حالة من حالات مثقف السلطة، بل ربما العكس: حيث نرى هنا سلطة متقبلة لوجود حالة مقلقة لأنها نادرة. ربما يمكن القول بأن عبد الرحمن الأبنودي كان يمثل حالة كهذه في مصر. فهو لم يهادن سلطة مبارك يوماً، لكنها احتملته على مضض، حتى جاء وقت شهدنا فيه انهيارها وصعوده.  


س: هل للنظام القائم  دور في تدجين المثقفين وإلحاقهم  بركب السلطة؟


ج: في الغالب نعم، بل إن الجواب ليوشك أن يكون نعم دون تحفظ. فأنت ترى في العالم العربي مثقفين كباراَ تحاصرهم السلطة، ثم ترى في نفس الوقت مثقفين أقل قيمة منهم ــ أو لا قيمة لهم على الإطلاق ــ تُفتح لهم أبواب وسائل إعلام السلطة ووظائفها الكبرى. دعنا نتذكر سوياً أن الثنائي العظيم أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، كانا محاصرين من السلطة في مصر طوال عهدي مبارك والسادات، فكانا لا مجرد يعيشان في فقر مدقع، رغم غناهما الثقافي وتأثيرهما الواسع؛ بل يُمنع مجرد الحديث عن أي منهما في وسائل إعلام السلطة، في وقت لم يكن ثمة وسائل إعلام إلا للسلطة.


لقد فهم ذلك مثقفو مصر، فوجد كثير منهم طريقة ما للتعايش مع السلطة، من خلال إجراء مراقبة ذاتية لنفسه، تقيه شر السلطة. وقد حدث مثل ذلك في كل الدول العربية. ألا تلاحظ كم يراقب علماء الدين في بلدانهم أنفسهم جيداً؟ إنهم جزء من هذه المعادلة المشوهة للعلاقة بين المثقف والسلطة. هو ذا دور للسلطة في منعي من الكلام. إن أخطر ما يواجه المثقف هو أن يضع الحواجز الموضوعية ــ غير الثقافية ــ أمام نفسه. هكذا يحدث في الدول العربية.


ورغم كل ذلك فكثيراً ما يشاء الله سبحانه، أن يجعل من كل ذلك بعض المخرج ــ بطريقة ما هنا أو هناك ــ للمثقف أن يقول كلمته. ودعني أذكرك بأن نجم وإمام قد وصل صوتهما دوماً، رغم كل موانع السلطة. ثم دعني أذكرك بأنك تجري معي هذه المقابلة، لتنشرها في صحيفة قطرية. فهل تراني قادراً على أن أنتقد علاقة السلطة القطرية بعلماء الدين في قطر، دون أن أخاطر بمنع نشر هذه المادة؟


من ناحية أخرى يجب أن نتذكر دائماً ــ وهو الأمر الذي لا تنساه السلطة ــ بأن المثقف مثله مثل كل أبناء الشعب، يحتاج إلى الخبز. فإن كانت السلطة تحتكر الخبز، فلا شك بأن المثقف سيكون أقل قدرة على الحرية، بحيث يسقط بسهولة في براثنها. وفي هذه الحالة، قد يختار الأقل سوءاً، أن يصمت، فيعيش بالكاد. لكن الغالبية تسقط في شراك الخبز، شراك السلطة. وهذا هو حال الغالبية من مثقفي العالم العربي للأسف. والأسف هنا من السلطة أكثر من المثقف. 


س: هل هناك شواهد كثيرة على الانفصام الحاصل بين السلطة والمثقف؟


ج: ليست كثيرة، لأن المثقفين في غالبيتهم لم يسقطوا في امتحان الخبز فحسب، بل اختاروا أن يجعلوا مع الخبز الكثير من الكافيار. ولا يكون الكافيار للمثقف إلا من طريق السلطة. لكن تتبقى ثمة شواهد قليلة، هنا أو هناك، على صمود مثقفين عضويين إلى جانب الشعب، وضد السلطة. فحين نتأمل كيف تم سحب الجنسية السعودية، من الكاتب العربي الكبير عبد الرحمن منيف، لأنه سلط الضوء على الظروف التي نشأت فيها الدولة السعودية الحديثة، ندرك حجم القهر وقوة الانفصام، ندرك بكثير من المرارة كيف يستلب الحاكم كيان الدولة، ويختصره في شخصه. وقد سبق أن ضربت حالة "أحمد فؤاد نجم" و"الشيخ إمام" في مصر مثالاً لذلك. وهناك هيكل الذي لم يستطع الكتابة في مصر طوال عهد السادات، فرحل إلى المنفى ليكتب، ثم عاد قبيل سقوط السادات. وهناك الكاتب السوري زكريا تامر، الذي ضاقت به ديكتاتورية السلطة، فرحل إلى المنفى، وواصل من هناك الكتابة والمعارضة. وهناك في غزة أنا الذي، تقفل سلطة حماس جامعاتها في وجهه، وتضيق عليه وسائل الحياة. ثم دعنا نتذكر أن كل المجتمع الثقافي المصري كان في السجن، في الأيام الأخيرة للسادات، بما فيهم هيكل.. وهناك بالتأكيد نماذج أخرى لا أذكرها الآن.  

 

س: هل لحالة المجتمع، سواء كان مستقراً أم لا، تأثير على علاقة المثقف بالسلطة؟


ج: المجتمع المستقر في نظري، هو الذي تحددت فيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وفق دستور وقانون أقرتهما ديموقراطية منفتحة؛ بحيث صار الحاكم فيه موظفا لدى الشعب، يعينه الشعب، ويعزله الشعب، ويراقبه الشعب. إذا وُجد هذا المجتمع ــ وهو موجود في الغرب فقط ــ فسوف يكون المثقف في أحسن حالاته، لأنه سيتفرغ للثقافة وسيشتغل لدى الشعب كالحاكم، ومن ثم يدرك مهمته ويعمل وفقها: أي يصبح صوت الشعب في مراقبة الحاكم، فينال خبزته من الشعب. في هذه الحالة تراقب السلطة نفسها، حتى تتقي مراقبة المثقف. هذه هي أفضل حالات العلاقة المعقدة في نظري بين المثقف والسلطة.


أما في المجتمع غير المستقر، في حالة من حالات الانتقال، فلا مناص من أن يكون المثقف إلى جانب التغيير. تلك طبيعته، وهذا دوره، لأنه يغني للمستقبل، ويبشر بقادم أفضل، ويهيئ لمجتمع أكثر حرية.


هل هناك من سيختارون الجانب الآخر؟ نعم. بل إن أغلبية من يطلقون على أنفسهم وصف المثقفين ستكون على الجانب الآخر، للأسف. لماذا؟ لأن المثقفين بطبيعتهم شريحة هشة، غير قادرة على القبول بالعيش وسط الفقراء.


س: ما هي أشكال المقاومة الإبداعية للسلطة في الأدب والفنون، وما هي أهم الانجازات في هذا المضمار حسب رأيك؟


ج: كل الأشكال الإبداعية التي تمولها السلطة لا تقاوم السلطة، في مجتمعاتنا العربية. وقصارى ما نتوقعه منها أن تهمس بنقد خجول. أما الأشكال التي تحررت من تأثير قهر السلطة في العالم العربي فما زالت غير موجودة بصورة لافتة. ورغم ذلك فقد رأينا روايات قاومت السلطة في مصر، في عهدي مبارك والسادات، كما فعلت روايات يوسف القعيد كلها، وكما فعلت رواية (شيكاغو) لعلاء الأسواني، وكما فعلت الكثير من أفلام عادل إمام. كما رأينا كل كتابات ومسرحيات محمد الماغوظ تقيم الدنيا ولا تقعدها في سوريا. أضف إلى ذلك روايات السعودي عبد الرحمن منيف، التي لم تتمكن من انتقاد السلطة إلا من وراء جدار المنفى، مثلما فعل السوري زكريا تامر في قصصه الكثيرة التي أحبها الأطفال.. ولا شك أن هناك أمثلة قليلة هنا وهناك تقاوم السلطة، رغم ندرتها. ولا تنس مرة أخرى الثنائي العظيم، الذي ذكرناه سابقاً: نجم وإمام اللذين كانا صوت الشعب، المغني للثورة القادمة.


س: كيف تُقيّم المشهد الثقافي العربي؟


من خلال كل ما قلناه آنفاً، يمكن لك معرفة رأيي في تقييم المشهد الثقافي العربي. مصر هي المركز. ومصر هي الدولة الأكبر، والأكثر قدرة على التأثير في المحيط العربي. ما يحدث في مصر يؤسس لمشهد ثقافي واعد. وذلك يستحق منا الانتظار قبل إصدار الحكم. أما باقي دول الربيع الغربي، فقد ترى فيها كل هذا التفكك وتلك الشرذمة، التي لا تترك للبشر وقتاً للتفكير في أكثر من مجرد الحياة. تبقى دول الخليج والمغرب العربي: في دول الخليج هناك نمو في الثروة، ونمو في مساحة الحرية، أرجو أن يؤسس ذلك لثقافة عصرية. إنني ألمح بدايات واعدة، واعدة فقط. وسنرى إن كان ذلك سيلد الطفل الذي نتمناه!


أما في المغرب العربي فتوجد نواة لثقافة متحررة واعدة. وقد أنجزت نماذج رائعة، لكنها ما تزال قليلة في العدد، وتعاني من ضعف القدرة على الانتشار.


أما من حيث الحريات. فالاستبداد هو السيد للأسف. والثقافة يا سيدي لا تنمو في أجواء الاستبداد.