عن إدوارد سعيد وما بعد الكولونيالية 

وأشياء أخرى

 

أكثر ما ينظر إليه في الغرب، في نتاجات إدوارد سعيد، هو أنها كتابات تندرج فيما يسمى بنظرية المابعد: ما بعد الماركسية، ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية...

لقد انتهت حقب الحداثة والماركسية والاستعمار، وصرنا نتأملها من بعيد، بعد أن تجاوزناها. ثمة بشر هنا في الغرب ليسوا بيض البشرة بالضرورة، ولكنهم غربيون بالمواطنة، ويرون ما لم يكن الأبيض قادراً على رؤيته. المستعمَرون السابقون يعيدون سرد الحكاية من منظورهم، طروادةُ تقول روايتها، خلافاً لهوميروس وأغاممنون وأخيل..

إن مدرسة ما بعد الكولونيالية (Post colonialism) التي برز فيها ما يسمونه هناك بالثالوث المقدس ــ إدوارد سعيد، وهومي. ك. بابا، وغاياتري سبيفاك ــ تلقي الضوء على محاولات الحواف والهوامش، لقول قيلٍ مختلفٍ عن قيلِ المركز، في مراجعة شاملة لكل الأحكام التي أنتجتها ثقافة المركز، بخصوص اللاغربي.

ومع ضرورة التأكيد على الهوية الدنيوية، لدراسات ما بعد الكولونيالية، تجدر الإشارة إلى رفض هذه الدراسات سلوك سبيل الأصولية الثقافية أو القومية أو الدينية، حيث تؤكد ما بعد الكولونيالية على هويتها الإنسانية الأوسع، في طرحها لمفهوم التلاقح الثقافي، أو المثاقفة، الذي عبر عنه مترجم كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) بمصطلح (الهجنة) فيما يمكن انتقاده بأنه إعلاء متصل للمثقف المهاجر، باعتباره مالك الحقيقة ومّجمع كل الثقافات، على نحو يحرره من روابط الجنس والعرق والطبقة والموقع السياسي والثقافي المتعين.

مصطلحات ومفاهيم إدوارد سعيد:

المثقف أو المفكر:

يبدو أن إدوارد سعيد حين يصف المثقف، فإنه يتبنى مفهوم أنطونيو غرامشي عن المفكر العضوي (Organic intellectual).. ولا غرابة، فكلنا نعني بالمثقف: ذلك الشخص الذي يشغل بالفكر. والمفكر العضوي، لدى غرامشي، هو ليس مجرد شخص يستخدم منتجات الذهن، بل هو يستخدمها بطريقة مختلفة كذلك: فالمفكر العضوي هنا هو مفكر مرتبط مع قيم قادمة جديدة، مهمته تمهيد السبيل لانتصارها، على قيم قديمة يراها آفلة. فهو يغني للمستقبل الذي يراه أفضل وأكثر عدالة، فيؤهل المجتمع أيديولوجياً لانتصار تلك القيم الجديدة. بعكس المفكر التقليدي الذي ترتبط مفاهيمه بتفسيرات الطبقة المسيطرة، وينظّر لاستمراريتها.

من هنا فليس المثقف ــ في نظر إدوارد سعيد ــ سياسياً، حتى لو كان هدفه سياسياً، فهو على عكس السياسيين، لا يهتم بأن يبني الإجماع حوله، ليقتنص السلطة، بل هو امرؤ يقوم كامل وجوده على إحساس نقدي، هو حس الامتناع عن تقبل الصيغ السهلة المتساهلة، أو الكليشيهات الجاهزة، أو التوكيدات السلسة، المتوائمة مع ما يقوله المتنفذون أو التقليديون، ويفعلونه.

ولو أردنا أن نرى إلى كيفية تطبيق إدوارد سعيد لمقولته هذه، في تعامله مع الوقائع الحياتية، فربما أمكننا أن نتأمل مقولته الصارخة، في اتفاق أوسلو، في مقدمة كتابه الثقافة والإمبريالية:

"إن تاريخ الإمبريالية لَيعلّمُنا، أنه ليس في وسع شيء ــ سوى فكرة حقيقية للتحرير والمساواة ــ أن يقاوم قوة الإمبريالية ويصدها. وإنها لمأساةٌ بحق، أن جهلنا للتاريخ وللقوة الاستعمارية، يبدو أنه علّم مهندسي أوسلو الفلسطينيين، أن الاستسلام الخانع المتذلل ــ مصحوباً بصرخات النصر الكاذبة ــ قد يحقق النتيجة ذاتها، التي تحققها حملةٌ حقيقية من الاستنهاض والمقاومة. بل إنها لمأساةٌ وإهدارٌ وضياع. بيد أن أجيالاً من الفلسطينيين قد تستيقظ وتعي هذا الواقع".

السرد:

لقد تعودنا أن السرد هو قص حكاية، أي خيال. أما السرد لدى إدوارد سعيد في كتابيه الأهم (الاستشراق) و(الثقافة والإمبريالية) فهو كما يراه ميشيل فوكو وجاك دريدا: تشكيل عالم متماسك متخيل، تحاك ضمنه صورُ الذات عن ماضيها. فالأهواء والتحيزات والافتراضات، تكتسب طبيعة البديهيات؛ يصوغها الحاضر بتعقيداته، بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه، وأنهاج تأويله. فمن هذا الخليط العجيب تُنسج حكايةٌ، هي تاريخُ الذات لنفسها وللعالم, تُمنح طبيعة الحقيقة التاريخية, وتمارس فعلها في نفوس الجماعة، وتوجه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين؛ بوصفها حقيقة ثابتة تاريخياً. وتدخل في هذه الحكاية ــ أو السردية ــ مكونات الدين واللغة والعرق والأساطير والخبرة الشعبية؛ وكل ما تهتز له جوانب النفس المتخيِّلة. فكثير مما تراه الهويةُ القومية حقيقةً، هو في الحقيقة مجرد تخيل، حكاية الذات لنفسها وللآخرين عن نفسها. ولك أن تتخيل ما تتخيل الشعوب أنها تستحق.

التاريخ:

التاريخ ــ في نظر إدوارد سعيد ــ هو قوة العقل البشري على سبر أغوار العقل البشري. ووفق هذه النظرة، لا يعود التاريخ مجرد تسجيل لأحداث الماضي، بل هو رؤية فعل الناس في الدنيا بشروط الدنيا. فالتاريخ ليس مجرد سرد الأحداث، بل هو تفسير هذه الأحداث بمنظور دنيوي، يرى إلى كل من فعل الإنسان والمكان والزمن والثقافة، في صناعة الحدث، واختيار ما يتم تسليط الضوء عليه، وما يتم إلقاؤه في زوايا العتمة. 

إذن فالتاريخ لدى إدوارد سعيد هو رؤية شاملة تفسيرية، لا للأحداث فحسب، بل للنصوص الأدبية والفنية. فأنت مفكر تاريخي حين ترى إلى جوانب النص ــ أو الحادثة ــ المختلفة، لكنها الجوانب الدنيوية. فالتاريخية لدى إدوارد سعيد هي على النقيض من كل من الأسطورية والدينية. فالتاريخي يستمد مادته من الدنيا، فيما الديني يستمد مادته من السماء. والأسطوري يستمد مادته من آلهة تعيش حوله وتتحكم فيه. إذن فالتاريخ لدى إدوارد سعيد هو فعل الناس في الدنيا بشروط الدنيا. يقول في (الأنسنية والنقد الديموقراطي):

"إن العالم التاريخي هو من صنع بشر، من رجال ونساء، لا من صنع رباني؛ وإنه يمكن اكتناهه عقلياً وفق المبدأ الذي يقول: بأننا ندرك فقط ما أنتجناه. وبعبارة أخرى: إننا نستطيع أن نعرف الأشياء، وفقاً للطريقة التي بها صُنعت. إننا ــ كبشر في التاريخ ــ نعرف ما نحن صانعوه؛ أو بالأحرى: أن تعرف شيئاً ما، يعني أن تعرف الكيفية التي بها صُنع ذلك الشيء، أن تراه من وجهة نظر الإنسان الصانع. فالمعرفة التاريخية مبنية على قدرة الكائن البشري على إنتاج المعرفة، لا مجرد استيعابه المستكين والامتثالي والباهت لها".

الثقافة:

الثقافة لدى إدوارد سعيد كلمة تكاد تكون مرادفة للهوية. فالثقافة في نظره هي طريقة رؤية الجماعة للأشياء والذات. فالثقافة مفهوم جمعي لما تراه الأمة من حقها، لما ترى أنها تستحقه من دون الجماعات، لما ترى عليه الجماعات الأخرى. من هنا فالثقافة ليست هنا مجرد تفكير منطقي، بل هي عقيدة تدخل فيها الكثير من التحيزات والاستيهامات القومية. يبدو ان إدوارد سعيد يوافق إرخ أورباخ على تعريفه للثقافة، بأنها ذلك الشعور القومي الذي يتعامل ولا بد مع الآخرين بحس عدواني، لصالح الأمة والوطن والجماعة والانتماء.

من هنا فالمثقف هو ابن الجماعة وممثلها. وهكذا نعود مرة أخرى لنرى كم هو قبيح حجم خيانة المثقف الذي لا يمثل الجماعة.

الاستشراق:

الاستشراق ليس مجرد مجموعة النصوص التي كتبها الباحثون الغربيون عن الشرق، بل هو طريقة محددة سياسية في الغالب، تصوغ بها جماعاتُ المفكرين في الغرب، رؤيةَ الغرب لطريقة تفكير وأنماط الحياة في الشرق. فالغرب ــ وفق هذه الرؤية المصوغة مصلحياً ــ يعجبه أن يرى الشرق مرتعاً للأحلام والسحر والجمال والعوالم الغريبة... هكذا، وهكذا فقط. فالشرقيون، وفق هذه النظرة، حالمون، شعراء ،لكنهم لاواقعيين؛ لديهم كنوز وذخائر، لكنهم غير قادرين على الاستفادة منها؛ نساؤهم جميلات، لكنهن راضيات بأن يكن مجرد أدوات متعة؛ رجالهم شعراء قادرون على الحب، لكنهم غير قادرين على المغامرة والاستكشاف والإبحار في محيطات مجهولة...

هكذا ينشئ الغرب للشرقي صورة نمطية تستدعي الغزو، تحت شعارات إنسانية، كالتحضير والتعمير واستغلال الطبيعة، ونشر الحرية... إلخ. هذا هو ما يفعله السياسيون والمفكرون الغربيون بشعوبهم، ليؤهلوها لقبول الهيمنة على الشرق.

إذن فالاستشراق ليس مجموعة دراسات، بل هو نظرة الغرب المصوغة للشرق، كما يحب أن يراه صانعو الثقافة والسياسة الغربيون.

النقد:

يرى إدوارد سعيد أن نقد النصوص الأدبية والفنية، لا يمكن له أن يكون أقرب إلى فهمها؛ إلا بدمجها مع العالم. فنحن نرى إلى كيفية صياغة عنوان كتابه (العالم والنص والواقع) لنكتشف القصدية وراء وضع النص بين العالم والواقع. إذن فنحن أمام نوع من النقد يكفر باستقلال النص، الذي ساد ذات مرة تحت شعار البنيوية اللافت (لا شيء خارج النص) فكل ما هو خارج النص لدى إدوارد سعيد، يدخل النص ويفسره. ففي (الثقافة والإمبريالية) يقول: "إن الاستقلال الذاتي المزعوم للأعمال الأدبية والفنية، يقتضي نوعاً من الفصل، يفرض فيما أرى محدودية مضجرة، تأبى هذه الأعمال الأدبية نفسها أن تقوم بفرضها".

من هنا فهو يخترع مصطلح (صلات التقرب) التي تربط بين القارئ ـ عادياً أو أكاديمياً ــ والنص الخاضع للقراءة، حيث يكون القارئ مالكا للقدرة على تفسير النص، كل مرة، بطريقة مختلفة. يقول في (العالم والناقد والنص):

"ما من نص يبلغ نهايته، وذلك لأن سلسلة صلاته المحتملة خاضعة للتمديد، على الدوام، بواسطة أي قارئ إضافي... شريطة أن تكون دراسة المرء موجهةً، بمنتهى العناية، نحو النص ككلٍ ثقافي وفني حيوي. ولذلك فإن الناقد يقلد أو يكرر النص، في تمديده له، منذ البدء، إلى أن يصبح كلاً متكاملاً".

القضية الفلسطينية:

كان إدوارد سعيد، ذات مرة عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني. ورغم ما يقال عن كونه رجلاً كوزموبوليتياً (مواطن العالم) إلا أنه لم يتنكر لفلسطينيته. ولو تنكر، لما قبل بعضوية المجلس الوطني؛ ولما سمعناه يعارض أشد المعارضة اتفاق أوسلو، كما نقلنا قبل قليل؛ ولما رأيناه ينتقد بحرقة ما رآه في محمود درويش من انهزامية، لاحت في ثنايا قصيدته (خطبة الهندي الأحمر) إذ علق عليها إدوارد سعيد ــ في مجلة القاهرة ــ قائلا:

"والحق أن هذه المقطوعات الشعرية تنطوي على نغمة الكلل، وهبوط الروح، والتسليم بالقدر؛ والتي تلتقط ـ عند العديد من الفلسطينيين ـ مؤشر الانحدار في أقدار فلسطين، التي ـ مثل الأندلس ـ هبطت من ذروة ثقافية كبرى، إلى حضيض فظيع من الفقد، على صعيد الواقعة والاستعارة معاً"؟

لكن له رأياً ما حول قضية فلسطين، يبدو أنها تميل إلى فكرة الدولة الواحدة، نعرف ذلك من قوله في كتاب (الأنسنية والنقد الديموقراطي):

"كنت دائماً أعتقد أن الصراع على فلسطين، لا يمكن حله فعلاً، بواسطة إعادة ترتيب جغرافية تقنية، تسمح للفلسطينيين المقتَلَعين والمحرومين، بالحق ــ إذا كان هذا يسمى حقاً ــ في أن يعيشوا أشبه بالبوابين، في نهاية المطاف، على حوالي 20% من أرضهم، المطوقة من قبل إسرائيل، والمعتمدة كلياً عليها. ومن جهة أخرى، ليس مقبولاً أخلاقياً مطالبة الإسرائيليين بأن ينسحبوا من كامل فلسطين السابقة ــ وهي الآن إسرائيل ــ فيصيروا لاجئين مجدداً، مثلما هم الفلسطينيون الآن".

اللغة:

اللغة في نظر إدوارد سعيد هي المكان، حيث نستطيع أن نسجل به تمردنا على مصيرنا، بواسطة المجاز والتورية والسخرية. فهكذا تصبح اللغة طريقة للالتفاف على عقبات اللغة نفسها. فأنت حين تسخر من السلطة، إنما تسجل اعتراضك الصارخ ضدها، وأنت حيت توري أو تكني في حديثك عما تراه ظالماً، إنما تنفس عن لواعجك الداخلية وتعلن عن رغبتك في المواجهة والاعتراض باللغة كذلك.