في مبدأ القياس: العلة والمعلول


قد يبدو للكثيرين من دارسي الشريعة، أنهم حين يصدرون حكماً مستنبطاً عن طريق القياس، أنهم قد وضعوا أيديهم على حكم الله. وهذا المقال لتبيان أن كل قياس يصدر عن العقل البشري، هو أقل قوة من الحكم المنصوص عليه.

أظن أن كثيرين يظنون أن ارتباط العلة بالمعلول، هو حتمي لازم. والواقع أنه ليس كذلك. ولم يكن ديفيد هيوم هو أول من جاء بهذا، بل إنني أذكر أنني قرأت هذا لدى الإمام أبي حامد الغزالي ــ رحمه الله ــ في (المنقذ من الضلال) منذ زمن بعيد.

معلوم منطقياً، أن العلة سابقة على المعلول، لكنها ليست فاعلة له. والحقيقة أننا حين لاحظنا الترابط بينهما، بالتجربة المتكررة، سبق إلى ذهننا أن هذا الارتباط حتمي. والحق أن الأمر ليس كذلك على وجه الحتم. صحيح أنه ارتباط من الممكن أن يقال بأنه صحيح وقوي، لكن لم يقم أي دليل عقلي قطعي على أنه حتمي لا يتخلف. وفرق واسع بين قوة الظن الناتجة عن مشاهدة تكرار التجربة، والحتم الذي ينفي كل احتمال مخالف.  

أما علاقة السبب بالمُسَبَّب فهي علاقة حتمية، لأن العقل قال بأن لا احتمال لتخلف المُسَبَّب عن سببه.

مثال على اقتران العلة بالمعلول:

سقوط الجسم من أعلى إلى أسفل، معلول بقانون الجاذبية. فحيث وجد قانون الجاذبية، وتعرض جسم للتحرر من الموانع، فهو سوف يسقط إلى تحت. هذه علاقة علة بمعلول، لأن قانون الجاذبية قائم على التجربة. بمعنى أنه مكتسب من الإحساس، والإحساس قد يخدع. من هنا فلا تحيل الفلسفة أن يتخلف فعل القانون احتمالاً، حتى لو لم تشهد على ذلك التجربة، لأننا لم نعلم يقيناً إن كان سبب السقوط هو الجاذبية ذاتها، بمعنى أننا لا نعلم إن كانت الجاذبية هي من أسقط هذا الجسم، أم أنه سقط بفعل نفسه، أو بفعل عوامل أخرى لم نكتشفها بعد، ولم تنفها أو تثبتها أي تجربة.

إذن فنحن هنا بين يدي علاقة ترابط، أو اقتران بين فعلين أحدهما تعودنا أن نراه متأخراً عن الآخر، ليس أكثر من ذلك.

مثال على فعلية السبب بالنتيجة:

الله سبب كل شيء:

فنحن نعلم ــ المؤمنين أقصد ــ أن الله هو الذي خلق كل شيء. فالله سبب لوجود الأشياء، وقد جاءت ليس فقط مرتبطة به متأخرة عنه، بل بفعله هو، مفعولة له، لو لم يفعلها لم تنفعل. فالعلاقة هنا حتمية لا شك فيها.

من هنا، ولأن السبب لا يمكن معرفته باليقين، في الأحكام الشرعية، فقد اكتفى المناطقة المسلمون بمبدأ العلة، واعتبروه سببا ظنياً.

توضيح:

هل كان سبب تحريم الخمر هو الإسكار؟

والجواب هو: من يعلم؟ خصوصاً وقد انعدم التوضيح النصي. فهناك احتمالات متعددة لتحريم الخمر: ربما لأنها تذهب العقل، وربما لأنها تلهي عن الصلاة، وربما لأنها توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وربما لأنها مجرد تسكر... إلخ

إذن فنحن أمام احتمالات عدة يجب أن نختار منها واحداً. وقد اختاروا الإسكار، فكان اختيارا راجحا من متعدد. ونحن نعلم أن كل اختيار من متعدد، لا ينفي احتمالية الخيارات الأخرى أو أحدها، حتى لو كان ضعيفاً. فنحن هنا أمام علة تحتمل الرجحان ــ ولنقل بنسبة 90% مثلا ــ وهذه احتمالية كافية لتعدية الحكم إلى كل حادثة تتوفر فيها علة الإسكار. لكن تأملوا معي: هل كانت نسبة 90% هذه تعني الحتم، أم مجرد الظن الراجح؟ أظنه الظن الراجح بالتأكيد.

إذن فنحن نعلم أن علة تحريم الخمر هي الإسكار، لا سببه.

من هنا فحين نقيس على الخمر، لا يمكن أن نعتقد بأن شيئاً مما قسناه يحمل نفس قوة الدليل النصي بتحريم الخمر في القرآن. قد نقول محرم قياساً على الخمر بعلة (أو بجامع) الإسكار، لكن يمتنع علينا أن نعتقد أن هذا هو حكم الله في اللوح المحفوظ.

نستطيع ــ إسلامياً ــ أن نقول: الخمر محرمة في علم الله في اللوح المحفوظ.

لكننا لا نستطيع أن نقول إن المخدرات محرمة في علم الله في اللوح المحفوظ. فلكي يرتفع المؤكد إلى درجة اليقين، لابد من نص قطعي من القرآن.

يكفينا أن نحكم بحرمة المخدرات، ونوقع عليها عقوبة، ويمكن أن نزعم بأن هذا موافق للشريعة، لأنه قياس على الخمر.

والآن، وبناء على ما سبق، دعونا نتأمل كيف أمكن لأحدٍ ما بأن يقول بحرمة جوزة الطيب، قياساً على الخمر؟ كيف أمكن أن يقال بأن الكثير من جوزة الطيب يسكر؟ لنسأل: فكم هو حد الكثير هذا؟ فلقد تأملنا فرأينا أن ثمرة واحدة منه لا تسكر، وهذا هو الحد الذي يستخدمه الناس في صناعة الحلويات في البيت، عادة، وربما أقل منه، أو أكثر بقليل.

لقد رأينا أن التناول المعتاد من الخمر يسكر، ثم رأينا أن التناول المعتاد لجوزة الطيب لا يسكر، فكيف توحد الأمران في الوصف؟ أيمكن أن يقال بأن رطلاً من جوزة الطيب يسكر؟ فإن كان كذلك فهل معنى ذلك أن ثمرة منه تحمل نفس الحكم، مع أننا رأينا أن تناول رطل من العنب يسكر، فهل نحكم بحرمة العنب؟

إن الضابط في قياس مسألة غير منصوص فيها، على مسألة منصوص فيها، هو اتحاد العلة: أي توفر الوصف الظاهر المنضبط في المسألتين. فهل كان وصف الإسكار في جوزة الطيب ظاهراً منضبطاً، كما هو في الخمر؟ اللهم لا. ولكن الكثيرين لا يعلمون.

أما الذين يتجرأون على الله فيقطعون بحرمة التدخين، فيمكن لنا أن نسألهم: على أي شيء قستم الدخان، فانضبط قياسكم؟ هل قستموه على الخمر بعلة الإسكار؟ فقد ثبت لدينا أنه لا يسكر. أم قستموه على الانتحار بعلة الإضرار بالنفس؟ فقد كان وصف الإضرار بالنفس، في الانتحار، ظاهراً منضبطاً لا نزاع فيه، بخلاف الدخان الذي يتوفر فيه ضرر لا نجزم بأنه قاتل. وحتى لو قيل إنه قاتل، فقتله لا يشبه قتل النفس في الانتحار.

أما استنادهم إلى حديث (لا ضرر ولا ضرار) فمع التسليم جدلاً بصحة الحديث، فهو استناد متوسع لا يحدد المقصود، والتوسع فيه يجعل كثيرا من الحلال حراماً: فقد رأينا الإكثار من الطعام ضرراً. فإن حكمتم بحرمته، كان عليكم أن تضعوا ضابطاً للحد المقبول من الطعام، الذي يعتبر تجاوزه حراماً.

أخيراً يتبقى سؤال:

لم اخترنا الإسكار في الخمر وصفا محددا للعلة، مع وجود أوصاف أخرى؟

والجواب هو: ليس مجرد الترجيح العقلي، بل ضرورة أن تكون العلة التي نبحث عنها قابلة للضبط والوصف، حتى لا نتوه. فلو قلنا إن العلة في تحريم الخمر هي الانشغال عن الصلاة، لكان ضمان عدم الانشغال عن الصلاة، كافيا في رفع حرمة الخمر. وبذا لا تكون الخمر محرمة لذاتها في ذاتها، بل لاقترانها بشيء حرام. وهذا يشبه حمق المتدينين الجدد حين يحرمون الأغاني، بزعم أنها تلهي عن الصلاة. فلو كان كل ما يلهي عن الصلاة محرما في عينه، لحرمت قراءة القرآن، لأننا رأينا أناسا ينشغلون بقراءة القرآن، فيغيبون طرباً حتى يذهب وقت الصلاة.  

قلنا إن الأحكام تدور مع عللها، وجوداً وعدماً. فالخمر محرم لعلة الإسكار، فلو رفعنا من الخمر المادة التي تجعله مسكراً، لانتفى عنه اسم الخمر، ولانتفتْ من ثم حرمته.

دعونا الآن نتأمل فيما قيل عنه نجاسة الكلب.

لقد أمر الشارع الحكيم بالغسل المغلظ المعروف، مما مسه لعاب الكلب. فماذا يقول ذلك؟ دعونا نفحص الاحتمالات:

قد تكون العلة نجاسة لعاب الكلب

وقد تكون شيئاً آخر في لعاب الكلب، ليس نجساً بالضرورة، ولا نعلمه.

سنختبر الفرضية الأولى من خلال السؤال: هل كان كل مأمور بغسله نجساً؟

بالتأكيد لا، فنحن مأمورون بغسل أعضاء محددة قبل الصلاة، وبالاغتسال التام بعد الجنابة والحيض. ولا أحد يزعم بأن غير المتوضئ نجس، أو أن الجنب والحائض نجسان.

إذن فلدينا هنا أمر بغسل غير مسبوق بالنجاسة. مما ينفي الترجيح القائل بأن الأمر في غسل الإناء من لعاب الكلب سببه نجاسة لعاب الكلب.

هذه واحده، تقرر احتمال أن يكون لعاب الكلب غير نجس. وهي تكفي بحد ذاتها، لتبديد يقين من قالوا بالنجاسة.

لكن الثانية أكثر وضوحا وهي:

كيف أمكن للفقهاء بأن يفتوا بأن جسم الكلب كله نجس؟ وهب أننا قبلنا بنجاسة لعابه، فهل يعني ذلك انسحاب الجزء على الكل حتماً؟ أشكك في ذلك أكثر مما شككت في نجاسة اللعاب.

من هنا يتأتى لنا أمران:

ليس الكلب نجساً، ولا نعرف علة الأمر بالغسل المغلظ للإناء من ولوغه فيه. مما يعني أن رأي المالكية هنا أقوى حيث قالوا: بأن هذا الأمر تعبدي، بمعنى: نطيعه دون أن نعرف علته.

وإذ كان ذلك كذلك، فلقد أمكننا التعاطف مع قول ابن حزم، في المحلى:

"المسألة 127ــ فَإِنْ وَلَغَ فِي الإِنَاءِ كَلْبٌ, أَيَّ إنَاءٍ كَانَ وَأَيَّ كَلْبٍ كَانَ: كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ غَيْرَهُ, صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. فَالْفَرْضُ إهْرَاقُ مَا فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ، كَائِنًا مَا كَانَ، ثُمَّ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ, وَلاَ بُدَّ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ، وَلاَ بُدَّ... فَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ وَلَمْ يَلَغْ فِيهِ أَوْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ أَوْ ذَنَبَهُ أَوْ وَقَعَ بِكُلِّهِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْ غَسْلُ الإِنَاءِ، وَلاَ هَرْقُ مَا فِيهِ اَلْبَتَّةَ وَهُوَ حَلاَلٌ طَاهِرٌ كُلُّهُ كَمَا كَانَ". انتهى كلامه رحمه الله.

بالتأمل فيما سبق يمكن لنا القول كذلك بأن الخنزير ليس نجساً، وإن كان محرماً أكله.

لم؟

لأننا أُمرنا بمجرد الامتناع عن أكله. فلحمه حرام. وليس كل حرام نجساً، كما أنه ليس حراماً كلُّ نجس. فالخمر محرمة وليست نجسة، ولمس العذرة ليس محرماً رغم أنها نجسة.

بقيت مسألة يدور فيها شك لدى البعض:

هل لمس النجاسة ينقض الوضوء؟ لا بالتأكيد، بل يكفي غسل الجزء من العضو الذي لامس النجاسة.

متعلقات حول الدومينو والنرد والقياس الخاطئ:

حين اعتقلت في معتقل النقب، عام 1988، إبان الانتفاضة الأولى، وجدتهم في المعتقل يلعبون لعبة (الدومينو). وإذ كانت هذه هي التسلية الوحيدة، المتوفرة للسجناء في المعتقل الصحراوي، في نهار حار طويل، فقد وجدت المتدينين يمارسون هذه اللعبة، مع الكثير من التحرج. فلما رأوني ألعب معهم دون تحرج، استغربوا وقد علموا بأنني لم أتعود على ممارسة الحرام، فسألوني:

ـ أليست حراماً؟

ـ قلت: ولم؟

ـ قالوا: لقد أفتى لنا فلان ــ الذي يحمل شهادة شرعية عليا ــ بأنها حرام.

ـ قلت: فعلام استند في التحريم؟

ـ قالوا: زعم أنه يقيسها على لعبة النرد.

ـ قلت: فقد ثبت لدينا حرمة لعب النرد بالنص، فما هي العلة الجامعة بين النرد والدومينو، لكي يتعدى الحكم إليها؟

ـ قالوا: زعم بأن العلة هي الحظ، فالحظ وصف ظاهر منضبط متوفر في اللعبيتن.

ـ قلت: يلزم قبل ذلك أن يكون الحظ حراماً.

ـ قالوا: فقد قال إنه حرام.

ـ قلت: فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُقرع بين نسائه إن عزم على السفر، فأيها خرج سهمها، سافرت معه. أليس ذلك حظاً؟

ـ قالوا: نعم.

ـ قلت: فالحظ ليس حراماً، حتى لو لم يتوفر لي الدليل الذي قدمت، لأن من قال بالحرمة هو المكلف بتقديم الدليل. ورغم ذلك فقد حرم مفتيكم حلالاً بقياس خاطئ، لا يتوفر فيه جامع العلة.

ـ قالوا: لكنه يحمل درجة الماجستير

ـ قلت: الماجستير لا يرفع من درجة الحمار.

ـ قالوا: فما علة تحريم النرد؟

ـ قلت: من يعلم؟ ربما كان التحريم تعبدياً، خصوصاً بعد نفينا مسألة الحظ هذه. وكل تحريم تعبدي لا يتعدى إلى غيره. أي لا يُقاس عليه.